شبه الاحتلال الأمريكي للعراق بتدخل نابليون بونابرت في القارة الأوروبية، عندما غزاها وحمل إليها أفكار الثورة الفرنسية في التنوير والحرية والإخاء والمساواة، معلنا صراحة أنه من أنصار التغيير في العراق والمنطقة بأسرها ولا زال على حد قوله، كما أعتبر أن الاتحاد الأوروبي على حق عندما دعا العرب والمسلمين...

في مقدمة كتابه (مدخل إلى التنوير الأوروبي) الصادر سنة 2005م، حاول الكاتب السوري هاشم صالح أن يتخذ من التنوير الأوروبي أساسا لتحديد وجهة ومصير التنوير في المجال العربي، وإطارا لتكوين الفهم والمعرفة بإشكاليته عندنا، ونموذجا للقياس والإقتداء، ومصدرا للأمل والاستلهام، ومنبعا للقيم والأفكار.

في هذه الرؤية لتأكيدها والدفاع عنها، استند هاشم صالح على قياسات فكرية وتاريخية، قديمة وحديثة، وعند النظر في هذه القياسات يمكن ضبطها وتحديدها على النحو الآتي:

القياس الأول: يرى صالح أن أزمة الوعي الإسلامي مع نفسه، ومع نفس الحداثة الفكرية والفلسفية، لا تختلف في شيء عن أزمة الوعي المسيحي الأوروبي مع ذاته، ومع نفس الحداثة. لذلك كان من المفيد جدا حسب قول صالح أن نطلع على كيفية حصول الأزمة الأولى قبل ثلاثة قرون، وكيف حلها مفكرو أوروبا بعد معارك هائجة، سجلتها كتب التاريخ بأحرف من نور على حد وصفه، وهذه الفكرة بالنسبة إليه كانت بمثابة حدسه الأساسي الأولي الذي ظل يقود أعماله وبحوثه منذ ثلاثين سنة، من وقت صدور كتابه سنة 2005م.

القياس الثاني: عندما انفجر الواقع بالمكبوت التاريخي السحيق في كل مكان -حسب قول صالح- واستفحلت مشكلة الأصولية، وأصبحت بحجم العالم بعد تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر 2001م في نيويورك وواشنطن، وتفجيرات الحادي عشر من مارس 2004م في مدريد، عرف عندئذ أن إشكالية التنوير سوف تفرض نفسها على الثقافة العربية برمتها، معتبرا أن المعركة مع الأصوليين سوف تندلع على مصراعيها، مثلما اندلعت في أوروبا قبل قرنين أو ثلاثة.

ولهذا السبب وجد نفسه مدفوعا بشكل لا شعوري -حسب قوله- إلى الانخراط في هذه الدراسات عن الفكر الأوروبي، فعلى مدار عشرين سنة أو أكثر -بالعودة إلى سنة 2005م- كانت هذه الدراسات شغله الشاغل، ومثلث له كما يقول أكبر متعة في حياته، وأكبر رحلة استكشافية في أعماق الزمن وبطون الكتب.

القياس الثالث: على مدار تأليفه لكتابه (مدخل إلى التنوير الأوروبي)، كان يخيل لصالح حسب قوله، أنه يعيش التاريخ مرتين، مرة من خلال الصراع بين العقلانيين والأصوليين في أوروبا إبان العصور الخوالي، ومرة ثانية من خلال نفس الصراع الجاري حاليا بين المثقفين التحديثين والأصوليين الإسلاميين في كل أنحاء العالم العربي والإسلامي، ووجد أن انخراطه في دراسة الأول أتاح له فهم بشكل لم يسبق له مثيل على حد زعمه.

يعتقد هاشم صالح في مقدمة كتابه (مدخل إلى التنوير الأوروبي) الصادر سنة 2005م، أن الشيء الأساسي في التجربة الأوروبية، أنها تقدم للمثقف العربي في هذه الظروف المدلهة عزاء ما بعده عزاء، فهي تثبت له أن خوض المعركة من أجل تنوير العقول ممكن، وأن النجاح في هذه المعركة ممكن أيضا.

وأخطر ما توصل إليه صالح أنه شبه الاحتلال الأمريكي للعراق بتدخل نابليون بونابرت في القارة الأوروبية، عندما غزاها وحمل إليها أفكار الثورة الفرنسية في التنوير والحرية والإخاء والمساواة، معلنا صراحة أنه من أنصار التغيير في العراق والمنطقة بأسرها ولا زال على حد قوله، كما أعتبر أن الاتحاد الأوروبي على حق عندما دعا العرب والمسلمين إلى تغيير برامج التعليم الديني لديهم، لأنها تدرس الدين بطريقة تقليدية قروسطية عفا عليها الزمن.

عند النظر في هذه الرؤية بهذه القياسات، يمكن القول من جهة، إن هاشم صالح ظهر بمظهر الإنسان الواثق والجازم، ولو أنه كان أقل وثوقا وجزما لخفف عليه وعلينا الحال ولهان الأمر، وتغيرت صورة الموقف بعض الشيء، ثم لماذا كل هذه الوثوقية والجزم في موضوع طالما أثار الشك والاختلاف، وظل وما زال في دائرة الجدل والسجال، الآراء فيه منقسمة، والمواقف فيه متباينة، منذ عصر رفاعة الطهطاوي في القرن التاسع عشر، إلى جيل المفكرين المعاصرين اليوم.

ومن جهة ثانية، أن صالح ظهر في هذه الرؤية بمظهر الإنسان المندفع والمتحمس، في مورد يحتاج بشدة إلى التروي والتبصر، والاندفاع فيه والحماس يكون أقل نفعا وأكثر ضررا، لأنه قد يخرج الإنسان عن اتزانه وتوازنه، ثم لماذا كل هذا الاندفاع والحماس في موضوع طالما اختلف فيه وعليه أهله وأصحابه قبل غيرهم، وجربه المجربون من قبل ولم يتفقوا عليه، ومن تحمس له في وقت، تراجع عن حماسه في وقت آخر، وهناك من ارتد عليه وانقلب.

ومن جهة ثالثة، أن صالح ظهر في هذه الرؤية بمظهر الإنسان الذي يرى ذاته بمرآة غيره وفي مرآة غيره، وبتراث غيره، وتاريخ غيره، وثقافة غيره، الغير الذي حول تنويره في خارج مجتمعه وعالمه ومحيطه إلى استعمار وامبريالية واحتلال، التنوير الذي جعله ينظر إلى ذاته بوصفه يمثل مركزا، وما دونه مجرد هوامش وأطراف وتوابع ومدارات حزينة.

ومن جهة رابعة، أظن أن الأوروبيين أو بعضهم لو أطلعوا على هذه الرؤية لأخذهم العجب والتعجب، ولقالوا عجبا إلى الآن هناك من العرب والمسلمين من يفكر بهذه الطريقة، وينظر لهذا الأمر بهذه التبعية، وبهذا الانبهار والافتتان، وهم الذين غيروا رؤيتهم إلى ذاتهم، وإلى تجربتهم وتنويرهم، الذي لم يعد يمثل لهم مصدر دهشة واستلهام، ولعل نصيحتهم لنا ولغيرنا من الأفضل لكم أن تكتشفوا لأنفسكم سبيلا غير هذا السبيل.

ولا أدري متى يأتي الوقت والدور على هاشم صالح، ليقول كما قال غيره من قبل، إني كنت مندفعا ومتسرعا في هذا القول، الذي بحاجة إلى مراجعة وتصحيح!

* الأستاذ زكي الميلاد، باحث في الفكر الإسلامي والإسلاميات المعاصرة-رئيس تحرير مجلة الكلمة
http://www.almilad.org

اضف تعليق