q
آراء وافكار - مقالات الكتاب

كلام أبيض

لولو العزيزة

كنا في السابق نتعلم من مقدمي البرامج اللغة لفظا ونحوا، اما اليوم فصرنا بمواجهة مقدمين نستغرب كيف سُمح لهم بالعمل في وسائل الاعلام، فلم تعد اللغة معيارا في اختيار المذيعين والمقدمين لا سيما بالنسبة للعنصر النسوي، فبات شكل الوجه والجسد الأساس في الاختيار بلا منازع...

مع ان عمرها لم يتجاوز ثلاث سنوات، لكن (ليم) العزيزة التي يدلعها أهلها (بلولو) تمكنت من اجادة اللغة بحدود أكثر من مقبولة، لتدهشنا بجمل سليمة من حيث الصياغات والأفكار التي لم نتوقعها من طفلة بهذا العمر.

ومع ان الأطفال يتعلمون المعاني قبل الألفاظ التي تتعثر على ألسنتهم او يختزلونها بعدد من الحروف او بأصوات غير لفظية، الا ان المعاني والألفاظ نمت لديها بطريقة متوازية، وأسرع مما هو معروف عن النمو اللغوي للأطفال.

اذ أسهمت القدرة اللغوية للولو في زيادة جاذبيتها للمحيطين بها، بخاصة ان الحديث معها فيه الكثير من المفاجآت التي تشبع الحاجة للتسلية، بما جعل التنافس على أشده بين الجميع للانفراد بها واللعب معها، فصارت المشترك الذي لا يُختلف عليه بين جميع من يعرفها، وأضفت على الأسرة حالة من الاسترخاء، وكثيرا ما يتبدد التوتر بوجودها، من ذلك نستشف ما للغة من وظيفة عاطفية، فضلا عن أدوارها في تماسك الأسرة، وهكذا الأمر بالنسبة للأمم .

تذكرني لولو بحادثة ذلك الشاب الأسير الذي نسى اللهجة العامية العراقية ليتحدث اللغة العربية الفصيحة، ما جعله مثار تندر جميع المحتفلين بعودته من الأسر بعد أن قضى فيه أكثر من عقد ونصف، ومن حسنات أسره انه كلف بمهمة تنظيف أحدى المكتبات خارج أقفاص الأسر طوال مدة أسره، فانعزل عن رفاقه، وليس في محيطه سوى الجنود الايرانيون، فانكب على قراءة ما موجود من كتب عربية، فرسخت في ذهنه المئات من الكلمات والمصطلحات والعبارات فصار لا يجيد الكلام والتعبير عن أفكاره الا باللغة الفصيحة، ومن يتحدثها في صياغاتها الصحيحة يبدو غريبا على المجتمع الذي طغت اللهجة العامية على تداولاته اللغوية للأسف الشديد، بينما يذهب المختصون الى ان المدخل للارتقاء بالأمم يكمن في الارتقاء بلغتها أولا، هكذا يقول المفكر الفرنسي ما سينيون .

وتتفق جميع الدراسات على ان التراجع اللغوي للمجتمع يقود بطبيعة الحال الى تعثر عملية التفكير بحكم ان اللغة هي الآلية التي يستعين بها الدماغ في التفكير، وكذلك تعثر انتاج الفكر، ولا يمكن للمجتمعات أن تتقدم بلا فكر .

وكيف نرتقي باللغة اذا كانت غالبية برامجنا التلفزيونية والاذاعية باللهجة العامية باستثناء نشرات الأخبار السياسية، اما غيرها من أخبار فغزتها العامية أيضا، بل وصارت العديد من قنواتنا تتقصد تقديم برامجها باللهجة العامية .

كنا في السابق نتعلم من مقدمي البرامج اللغة لفظا ونحوا، اما اليوم فصرنا بمواجهة مقدمين نستغرب كيف سُمح لهم بالعمل في وسائل الاعلام، فلم تعد اللغة معيارا في اختيار المذيعين والمقدمين لا سيما بالنسبة للعنصر النسوي، فبات شكل الوجه والجسد الأساس في الاختيار بلا منازع، او تلك اللواتي أصبحن (ترندات) على مواقع التواصل الاجتماعي بهدف تحويل متابعيهن من المواقع الى الشاشة حتى وان كن لا يميزن بين الفاعل والمفعول، فالهدف زيادة المشاهدين، اما اللغة فلتذهب الى الجحيم .

بالمقابل لا نجد مثل هذا في أغلب القنوات الأجنبية الناطقة باللغة العربية كالبي بي سي والفرنسية (24) والحرة واذاعة سوى وغيرها، فأصبحنا نتعلم من هذه القنوات اللغة السليمة، بينما لا نثق بما يرد على ألسنة مذيعينا المحليين.

وكيف نطور لغتنا العظيمة، والكثير من معلميها في مدارسنا بحاجة الى تأهيل قبل طلبتها، الى درجة ان بعضهم يستعين بذوي الطلبة من المثقفين لكتابة الكلمات التي تُلقى في المناسبات، ولست مبالغا اذا قلت ان ثلاثة أربعاء طلبتنا في الجامعات غير قادرين على التعبير عن الأفكار المتضمنة في المقررات الدراسية، ولم يقتصر ذلك على الطلبة، بل هناك نسبة من الأساتذة الذين تتسم لغتهم بالركاكة الفاضحة .

بت أخشى على ليم أن تكون غريبة في مجتمعها في القادم من السنوات، فالحيرة ازاءها مشابهة لحيرتنا في تربية أطفالنا، أنربيهم على المثل السامية بينما الشارع كالغابة، ام نترك للشارع تربيتهم ونتحمل ما في القلب من حرقة؟

اضف تعليق