هل خطاب الأمة الواحدة هو خطاب بياني، أم هو خطاب جدلي، أم هو خطاب برهاني؟ وهل هو خطاب عاطفي وجداني، أم هو خطاب عقلاني؟ وهل هو خطاب مثالي، أم هو خطاب واقعي؟ من الواضح على هذه التساؤلات، أنها تحمل ملامح الاحتجاج والتباين والاختلاف، ومنشأ هذه الصورة ذلك التاريخ...
- 1 –
الأمة الواحدة.. والتساؤلات الشكية

في كتابه الشهير (تجديد التفكير الديني في الإسلام) الصادر مطلع ثلاثينات القرن العشرين، تساءل الدكتور محمد إقبال (1294-1357هـ/ 1877-1938م) في عنوان محاضرته السابعة والأخيرة، هل الدين أمر ممكن؟ وكان قصده هل الدين أمر ممكن عقلًا، أي من الناحية العقلانية وبحسب التحليلات والبراهين العقلانية.

على طريقة هذا التساؤل، نتساءل بدورنا: هل الأمة الواحدة أمر ممكن؟ نقصد بذلك من الناحية الفعلية والوجودية، وبحسب التحليلات والبراهين العملية والوجودية.

ومتابعة لهذا التساؤل تفريعًا وتفصيلًا، نتساءل كذلك: هل خطاب الأمة الواحدة هو خطاب بياني، أم هو خطاب جدلي، أم هو خطاب برهاني؟

وهل هو خطاب عاطفي وجداني، أم هو خطاب عقلاني؟ وهل هو خطاب مثالي، أم هو خطاب واقعي؟

من الواضح على هذه التساؤلات، أنها تحمل ملامح الاحتجاج والتباين والاختلاف، ومنشأ هذه الصورة ذلك التاريخ الطويل والممتد من الانقسام والنزاع بين المسلمين مذاهب وجماعات ومجتمعات، والذي يرتد إلى عصر الإسلام الأول.

فقد نقلت لنا كتب السيرة والتاريخ أن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) ما إن انتقل إلى الرفيق الأعلى حتى ظهر على المسلمين الانقسام والنزاع في الرأي، وفي طور آخر وصل الحال إلى أن يشتبك المسلمون في حروب دامية وعنيفة، وقد ظلت هذه الحروب مستمرة إلى فترات طويلة، بشكل يظهر وكأن تاريخ المسلمين من الأزمنة القديمة إلى هذه الأزمنة الحديثة، تاريخ نزاعات وصراعات وانقسامات.

يضاف إلى ذلك أن الانقسام والنزاع في الرأي عند المسلمين لم يقف عند هذا الحد، بل ظل يتطور دائمًا، ويدفع نحو التشكُّل في جماعات وفرق متباينة ومتفارقة، وأحيانًا متنازعة ومتصادمة، الظاهرة التي عرفت وتكاثرت في تاريخ المسلمين القديم، وتلوَّنت بألوان وأنماط عدة، فكرية وكلامية وفقهية وسياسية.

ومع تعدُّد هذه الفرق وتكاثرها، وجدت الحاجة إلى حصرها وتعدادها، وجاء حديث افتراق الأمة إلى سبعين ونيف فرقة، ليؤكد العناية والاهتمام بهذه الظاهرة، هذا الحديث المختلف والمتنازع عليه سندًا ومتنًا، يعد من أكثر الأحاديث التي ضربت وأضرت فكرة الأمة وأطاحت بها، فهو يصور وكأن الإسلام جاء لتكوين جماعة أو فرقة تكون هي الفرقة الناجية، ولم يأتِ لتكوين أمة تكون أمة جامعة لكل المسلمين.

وكان من نتائج هذا الحديث المثير للجدل، أن ترتب عليه نشوء أدب خاص بات يُعنى بالبحث عن الفرق وتعدادها في ساحة المسلمين، والكشف عما بين هذه الفرق من فروقات، صغيرة أو كبيرة، ظاهرة أو باطنة، حادثة أو أصيلة.

ومن أشهر المؤلفات التي وصلتنا في نطاق هذا الأدب، ثلاثة مؤلفات تتجلى من عناوينها وهي: كتاب (الفرق بين الفرق) لعبد القاهر البغدادي (ت 429هـ/ 1037م)، وكتاب (الفصل في الملل والأهواء والنحل) لابن حزم الأندلسي (384-456هـ/ 994-1063م)، وكتاب (الملل والنحل) لمحمد بن عبد الكريم الشهرستاني (479-548هـ).

ومن شدة العناية بهذا النمط من الأدب، حاول الشهرستاني أن يضع قانونًا يبنى عليه حسب قوله، في تعداد الفرق الإسلامية، وأشار إلى هذا القانون في المقدمة الثانية من المقدمات الخمس التي افتتح بها كتابه، وحملت هذه المقدمة عنوان (في تعيين قانون يبنى عليه تعديد الفرق الإسلامية).

وبقي الانقسام والنزاع مستمرًا، وكأنه السمة الغالبة على تاريخ المسلمين قديمًا وحديثًا، حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم، مع هذه التأزمات الشديدة في العلاقات بين المسلمين، والتي يمكن أن يؤرّخ لها بوصفها من أكثر الفترات وأشدها تأزّمًا في العصر الحديث.

فالعلاقات بين المسلمين مذاهب ومجتمعات، تشهد في الوقت الراهن، تراجعًا حادًّا وخطيرًا، وصلت في بعض الحالات إلى درجة النزاع والتصادم، وكادت تفجّر ولأول مرة في تاريخ المسلمين حربًا دينية، على صورة ما حدث في تاريخ العالم المسيحي القديم والحديث بين الطوائف الدينية المسيحية، كالحرب الدينية العنيفة التي حصلت في ألمانيا في القرن السابع عشر ما بين الكاثوليك والبروتستانت، وعرفت عند المؤرخين بحرب الثلاثين عامًا (1618-1648م).

ليس هذا فحسب، بل إن معول التمزُّق ما زال يفعل فعله في مجتمعات العرب والمسلمين، فهذه المجتمعات وبالذات العربية منها، باتت تتعرض اليوم لخطر التمزق، وبدأت بعضها تتمزق بالفعل، فنحن اليوم لسنا أمام أمة ممزقة، بل أصبحنا أمام مجتمعات ممزقة. والمشكلة أننا لا نستطيع أن نضع حدًّا لهذا التمزُّق في هذه المجتمعات الصغيرة، فهل يجوز لنا الحديث عن وحدة الأمة الكبيرة!

أمام هذه الصور والوضعيات، جاز لنا التساؤل حول: هل الأمة الواحدة أمر ممكن؟ وتفرع عن هذا التساؤل تلك التساؤلات الأخرى الموصوفة بالشكية.

- 2 –
الأمة الواحدة.. وتحرير الإشكالية

بشأن التساؤلات التفريعية، سنتوقف بصورة رئيسية أمام التساؤل الأول الذي يبدو أنه بحاجة إلى تحرير محل الكلام فيه، ونعني به التساؤل الآتي: هل خطاب الأمة الواحدة هو خطاب بياني، أم هو خطاب جدلي، أم هو خطاب برهاني؟

من الواضح على هذا التساؤل أنه يستند إلى تقسيمات ابن رشد (520-595هـ/ 1126-1198م) لما أسماه طرق التصديق الموجودة عند الناس، والتي قسمها إلى ثلاثة طرق هي: الخطابية والجدلية والبرهانية، فمن الناس حسب رأيه من يصدق بالأقاويل الخطابية، ومنهم من يصدق بالأقاويل الجدلية، ومنهم من يصدق بالأقاويل البرهانية، وذلك بحكم أن طباع الناس متفاضلة في التصديق[1].

وعلى أساس هذا التقسيم، يرى ابن رشد أن هناك تراتبًا وتفاضلًا بين هذه الطرق التصديقية عند الناس، فالأدلة والأقاويل الخطابية هي أقرب إلى أذهان الجمهور العام من الناس، والأدلة والأقاويل الجدلية هي أقرب إلى أذهان الخاصة من أهل الكلام الذين يعرفون بنزعتهم الجدلية في الدفاع عمَّا يعتقدون به، أما الأدلة والأقاويل البرهانية فهي أقرب إلى أذهان الخاصة من أهل الفلسفة، وهؤلاء في نظر ابن رشد أرفع رتبة، وأعلى درجة من السابقين.

هذا التصور المنهجي يمكن تجريبه والاستفادة منه في النظر إلى خطاب الأمة الواحدة، من زاويتين، الزاوية الأولى وتستند إلى طريقة تحليلات ابن رشد، والزاوية الثانية وتستند إلى طريقة أخرى في التحليل.

بالنسبة إلى الطريقة المنسوبة إلى تحليلات ابن رشد، يمكن تقريب هذه الطريقة في تحرير قضية البحث، وذلك من جهتين، هما:

الجهة الأولى: وتحريرها على هذا النحو: هل أن خطاب الأمة الواحدة يمثل قضية واضحة وبيّنة لا تحتاج لإثباتها والتصديق بها إلَّا إلى الأدلة الخطابية وذلك لشدة وضوحها وظهورها! أم أن هذه القضية لكونها لا خلاف على الإيمان بها فهي تقتضي الدفاع عنها بالأدلة والأقاويل الجدلية! أم أنها قضية لا يمكن التسليم بها إلَّا بالأدلة والأقاويل البرهانية.

الجهة الثانية: وتحريرها على هذا النحو: هل يمكن تطبيق هذه الأدلة بأقسامها الثلاثة على هذه القضية في إثبات وتصديق خطاب الأمة الواحدة، بطريقة يمكن مخاطبة الجمهور العام بالأدلة الخطابية، ومخاطبة الخاصة من الناس الذين يؤمنون بهذه القضية بالأدلة الجدلية، ومخاطبة خاصة الخاصة أو الذين لا يؤمنون بهذه القضية أو البعيدون عنها، أو الذين يعتبرون أنفسهم من أهل البرهان، ولا يؤمنون بشيء إلَّا ببرهان، ومخاطبة هؤلاء بالأدلة البرهانية.

هذه الرؤية المنهجية لعلها من مداخل البحث في تجديد النظر لقضية خطاب الأمة الواحدة والأمة الجامعة.

أما الزاوية الثانية، وتحريرها يتحدد على هذا النحو: كيف نتعامل مع قضية الأمة الواحدة وخطاب الأمة الواحدة؟ هل نحن أمام قضية واضحة وبيّنة لا نحتاج في التعاطي معها إثباتًا وتصديقًا، إلَّا بالأدلة الخطابية التي تستند إلى البيان اللفظي، وإلى التحسينات اللغوية، والفصاحة اللسانية، والبلاغة الوعظية، والنثر الشعري!

أم نحن أمام قضية هي موضع إيمان وتسليم ثابت، لا نحتاج في التعاطي معها إثباتًا وتصديقًا، إلَّا بالأدلة الجدلية للدفاع عنها، والتمسك بها، وذلك عن طريق المحاججة بصورها كافة!

أم نحن أمام قضية تغيَّرت صورتها، وتلاشت ذاكرتها، وأخذت تتعرَّض وما زالت تتعرَّض إلى موجة من التشكيك والاتِّهام، بشكل بات من اللازم التعامل معها إثباتًا وتصديقًا بالأدلة البرهانية، ونعني بها الأدلة العقلية التي يثبتها العقل.

وقبل الانخراط في النظر لهذه القضية، لا بد من الإشارة إلى أن طرح القضية بهذا الشكل، ليس بقصد البحث عن التعقيد الفكري والفلسفي، وليس بقصد ربط هذه القضية بالتجريد النظري، وتحويلها من قضية عملية إلى قضية نظرية، ومن قضية ثابتة إلى قضية شكية، ومن قضية بسيطة إلى قضية معقدة، ومن قضية من السهولة التسليم بها إلى قضية من الصعوبة التسليم بها.

ليس هذا من وراء القصد على الإطلاق، وإنما لكون أن هذه القضية من جهة لا تخلو من تعقيد وتعقيد شديد، فهي ليست من نمط القضايا السهلة أو البسيطة أبدًا، فهناك تاريخ طويل من التمزُّق والانقسام والنزاع بين المسلمين، بشكل لم يعد من السهل ترميم وتعميق شعور المسلمين بفكرة الأمة الواحدة أو الأمة الجامعة.

ومن جهة ثانية، هناك من يرى أن خطاب الأمة الواحدة أو خطاب الوحدة الإسلامية عمومًا، قد تحوَّل إلى خطاب عاطفي يغلب عليه النثر الشعري، والبيان البلاغي، والتوجيه الوعظي، الذي هو أقرب إلى أذهان أهل البيان واللغة والشعر، وبات من الصعب البرهنة على هذه القضية عن طريق العقل والبراهين العقلية.

ومن جهة ثالثة، هناك من يرى كيف يحق لنا البحث والحديث عن خطاب الأمة الواحدة، والأمة تنتقل من تمزُّق إلى تمزُّق أشد، ومن انقسام إلى انقسام أشد، حتى وصلنا إلى هذه الوضعيات الراهنة التي تصور وكأننا دخلنا في ما عرف في أوروبا بالعصور الوسطى عصر الظلام، مع انبعاث نزعات التعصُّب والتطرُّف والتحجُّر التي جلبت معها عصور الظلام، وتحولت معها المجتمعات العربية والإسلامية أو بعضها، إلى بيئات حرب وقتال خلفت دمارًا وتدميرًا وتشريدًا، وحلَّت بها الخراب، وهذا يعني في منطق أصحاب هذا الرأي، أن خطاب الأمة الواحدة بات خطابًا مثاليًّا، ولم يعد خطابًا واقعيًّا!

هذه هي صورة القضية، وهذا هو بيان الإشكالية، وتحديد محل النزاع حسب لغة الفقهاء في البحث الفقهي.

- 3 -
الأمة الواحدة.. وطريقة النظر

أمام هذه القضية بهذه الإشكالية، يمكن تسجيل الملاحظات الآتية:

أولًا: من ناحية التاريخ، لا شك أن الإسلام جاء وأسس أمة جديدة عرفت في التاريخ الإنساني بأمة الإسلام أو الأمة الإسلامية، وظهرت هذه الأمة إلى الوجود، وعرفها العالم بهذا الوصف، وتعامل معها بهذه الصفة.

وقد حافظت هذه الأمة على وجودها وبقائها، وظلت تمتد وتتسع جغرافيًّا وبشريًّا، وتتطور وتتقدم عمرانيًّا وحضاريًّا، وشهدت تعدُّدًا وتنوُّعًا لغويًّا ولسانيًّا، عرقيًّا وقوميًّا، فكريًّا واجتهاديًّا، فقهيًّا وكلاميًّا، وعُدَّت هذه السمة أحد أبرز الملامح الحضارية للأمة.

وجود الأمة بهذه الصورة هي حقيقة من حقائق التاريخ الثابتة، ومن الثابت أيضًا أن هذه الأمة قد تغيّرت وتبدّلت أحوالها، وتعرّضت إلى كل ما تعرضت إليه من الأزمنة القديمة إلى هذه الأزمنة الحديثة، لكنها لم تتلاش أو تضمحل، وبقيت وحافظت على وجودها، وحتى بعد خروجها من طور الحضارة إلى طور الانحطاط والتراجع.

ويكفي للدلالة على ذلك عدم سلب وصف الأمة عنها، وعدم إسقاطه وإخراجه عن المجال التداولي، فما زال هذا الوصف ساريًا وحاضرًا، وله صدقه الواقعي، وصدقيته الوجودية.

ثانيًا: من ناحية الخطاب، هذه الأمة التي ظهرت إلى الوجود في عالم الإسلام، جاء القرآن الكريم وأعطاها صفة الأمة الواحدة، ونصَّ على ذلك في آيتين كريمتين هما: قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}[2]، وقوله تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}[3].

هذا النص على الأمة الواحدة هو نص واضح وبيّن وصريح، لا يحتمل التأويل، ولا يكتنفه الغموض والالتباس والإبهام، ومن هذا النص الواضح يمكن أن نستنبط الرؤى الآتية:

1- إن الأمة الواحدة هو وصف يستند إلى نص ثابت في القرآن الكريم، الأمر الذي يعني أن هذا الوصف له أصل وأصل ثابت في القرآن، وليس مجرد وصف عابر أو متخيل أو مصطنع لا أصل له ولا أساس.

2- إن هذا الوصف بهذا الأصل الثابت، يفيد أنه لا تبديل له ولا تغيير، لا مع تقادم الأيام، ولا مع تعاقب الأجيال، ولا مع تغيّر الأحوال، وذلك بوصفه وصفًا ملازمًا للأمة وجودًا وبقاءً.

3- إن هذا الوصف لا يصدق على الأمة في زمنها الأول، عند نشأتها وتكوّنها، وإنما يصدق عليها في كل الأزمنة القديمة وحتى الحديثة، وسيظل يصدق عليها في الأزمنة القادمة أيضًا.

4- إن هذا الوصف لا يمكن نقضه أو إسقاطه، ولا التخلي عنه، أو عدم الاعتراف به، تحت أي ظرف من الظروف، وفي أي حال من الأحوال، وبغض النظر عن الوضعية التي تكون عليها الأمة، تقدّمًا أو تراجعًا، صعودًا أو هبوطًا، متحدة أو متفرقة، قوية أو ضعيفة، وذلك بوصفه وصفًا ثابتًا للأمة، الأمر الذي يقتضي التمسّك بهذا الوصف، والعمل بمقتضاه.

ثالثًا: من ناحية الموضوع، في النقاش حول هذه القضية، لا يمكن الاحتجاج في اعتبار أن فكرة الدولة حلّت مكان فكرة الأمة في الاجتماع الإنساني الحديث والمعاصر، ومع وجود الدولة تم الاستغناء عن الأمة، الوضع الذي تقوى معه الشعور بالدولة، وتقلص معه الشعور بالأمة.

إلى جانب أن العالم بات يتعامل مع دول وليس مع أمم، وجاء القانون الدولي لينظم العلاقات بين دول وليس بين أمم، وأن مقتضيات حفظ كيان الدولة أرضًا وشعبًا وسلطة يقتضي التمايز بين الدولة والأمة.

هذه القضية يمكن مجادلتها ومناقشتها من ثلاثة وجوه، هي:

الوجه الأول: إن اجتماع الدولة والأمة هو أمر ممكن وحاصل وجودًا وتحقّقًا، حتى في هذه الأزمنة الحديثة، فالهند هي دولة وأمة، وهكذا الصين واليابان وحتى أمريكا، وهذا يعني أن بالإمكان الجمع بين الدولة والأمة، ورفع التعارض بينهما.

الوجه الثاني: إن ارتباط الدولة بالأمة يعزّز من قوة الدولة، ويضيف إلى رصيدها، وفك الارتباط بينهما يعزز من ضعف الدولة، ويسلب من رصيدها، وذلك لكون أن الأمة تمثل المجال الحيوي الأقرب إلى الدولة، وكل دولة أقرب مجال حيوي لها هو الأمة التي تتّصل وترتبط بها ثقافيًّا ودينيًّا وروحيًّا وحضاريًّا، وهذا ما نعنيه بالأمة التي تمثّل الدائرة الثقافية والدينية والحضارية الأوسع من دائرة الدولة وحدودها.

الوجه الثالث: إن الوصف الوارد في الخطاب القرآني جاء ناظرًا لمفهوم الأمة الواحدة، وليس لمفهوم الدولة الواحدة، الأمر الذي يعني أن دعوة القرآن إلى أمة واحدة وليس إلى دولة واحدة، ولا علاقة بينهما ولا تلازم، فالأمة الواحدة لا تعني ولا تقتضي الدولة الواحدة، والدولة الواحدة لا تعني ولا تقتضي الأمة الواحدة، ويمكن أن تكون الأمة واحدة والدول متعددة.

وإلى مثل هذه الأطروحة، دعا المفكر القانوني الدكتور عبد الرزاق السنهوري (1895-1971م) في رسالته للدكتوراه التي ناقشها باللغة الفرنسية في جامعة ليون الفرنسية سنة 1926م، وحملت عنوان: (فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية).

وحسب رؤية الدكتور السنهوري أن وحدة الأمة الإسلامية، لا تتوقَّف على وحدة الدولة الإسلامية، فيمكن للدولة الإسلامية أن تتشكل وتتنوع على أساس قطري ووطني، وأن تحفظ وتحافظ على الأمة الواحدة عن طريق تشكيل إطار قانوني جامع لها، حدّده الدكتور السنهوري آنذاك في إطار أطلق عليه تسمية (عصبة الأمم الشرقية)، وهو أشبه بالإطار الذي تكون فيما بعد باسم (منظمة المؤتمر الإسلامي)، والتي أصبحت تعرف اليوم بتسمية (منظمة التعاون الإسلامي).

لهذه الحقائق والمعطيات وغيرها يمكن القول: إن الأمة الواحدة هي أمر ممكن للمسلمين في العالم المعاصر.

* الأستاذ زكي الميلاد، باحث في الفكر الإسلامي والإسلاميات المعاصرة-رئيس تحرير مجلة الكلمة
http://www.almilad.org

......................................
[1] ابن رشد، فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1986م، ص 31.
[2] سورة الأنبياء، آية: 92.
[3] سورة المؤمنون، آية: 52.

اضف تعليق