q
التنكيل والقمع يصدر اما بقانون والقانون يصدر باسم الشعب او يطبق بفرض العقوبات القاسية، وايضاً يكون الحكم باسم الشعب بمعنى ان الشعب يعاقب نفسه من اجل خدمة شخصاً او فئة محدودة، تسلطت عليه واحتكرت سلطة القرار. ومن التجارب التي مر بها العراق، وليس في فترات بعيدة...

تلاوة القرآن الكريم ترتبط غالباً بالتفكر بآياته الكريمة، وفي أيام شهر رمضان الكريم، نرى انفسنا في ميل شديد للقرآن الكريم، ولا موجب لشرحها في هذا الموضع، لكن التلاوة والقراءة تقترن بوجوب اخذ العبرة من القصص القرآنية وان تكون محل اعتبار، حيث أشار الله عز وجل الى ان في تلك القصص عبرة للمسلم وقارئ القران من أي دين كان، بدلالة قوله الكريم في الآية 111 من سورة يوسف (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب)، واولي الالباب هم أصحاب العقل المؤهل للتفكير، بمعنى العقل الذي لا يلحقه عوار الاعتلال والنقص المانع من قدرته على التفكير.

وهذه العِبرْ هي تجارب قد حدثت في الماضي، ويعرضها القرآن الكريم لنا للاعتبار منها، والاعتبار هو التدبر وقياس ما غاب على ما ظهر، أي قياس ما لم يحدث على ما حدث على وفق ما ذكره المختصون، ويكون هذا النشاط بواسطة التفكير، الذي جعله الله فريضة على كل مسلم، بل يرى محمد العقاد بانها تشمل كل العقل الإنساني ولا تقف عند المسلم.

وحيث ان التشريع هو نظام قانوني يتكون في المجتمعات من اجل تنظيم احوالها، ويرتبط التشريع بزمن حدوثه داخل المجتمعات، لذلك يكون جزء مهم من تاريخ تلك المجتمعات، ومعبر عن بعض جوانب الحياة فيها، ويرى بعض الكتاب بان دارسة تاريخ التشريع من الدراسات المهمة لان فهم الحاضر لا يكون الا بالرجوع الى الماضي، يوفر رؤية واضحة للسياق التاريخي للتشريعات، وكيفية تطبيقها وتكييفها مع مرور الوقت. ومعرفة تاريخ التشريع توفر لنا التعلم من أخطاء ونجاحات الماضي.

ومن هذا المنطلق فأهمية التاريخ الذي هو عبارة عن تجارب، فلابد من الاعتبار بها، وتدارك الوقوع في الأخطاء التي حصلت في حينه، وهو الاعتبار الذي يعد محور فريضة التفكير في الإسلام.

في وقتنا الراهن، وبعد حصول التحول في نظام الحكم، والتغييرات الزلزالية التي حصلت في العراق بعد عام 2003، والتي اعادت تشكيل الحكم ونظامه على أسس أخرى غير ما كانت عليه، ولا فرصة لنا في مناقشة تلك الأسس، سواء كانت ايجابية او سلبية، لأنها بحاجة الى دراسات موسعة، وسبق لي وان تناولتها في عدة دراسات.

لكن الأهم من كل هذا، هل اعتبرنا من العِبرْ التي مرت علينا سواء في القصص التاريخية، التي سمعنا عنها في الروايات او الوثائق، او تلك القصص التي عشناها، وما زلنا نتعايش معه؟ 

وللإجابة على هذا السؤال وباقتضاب، من الممكن ان تكون هذه الاجابة مفتاحاً للوصول الى إجابة اوسع مستقبلاً تكون شافية ووافية، وسأعرض لحالة واحدة تتعلق بعنوان هذه الورقة (توظيف القانون لمصلحة حزب او شخص معين بذاته) وتتمثل في السؤال الآتي هل كان توظيف القانون تجربة ناجحة ام انها من التجارب الفاشلة، وهل اعتبرنا من دروسها؟ ام كررها البعض ممن يتحكم بالقرار في البلاد ويتحكم برقاب ابناء الشعب؟، موظفاً كل ممكنات وظيفته وسلطته، لتحقيق منافعه الخاصة، على حساب المصلحة العامة، وهل هذا التوظيف الذي تمثل بمحاولة منع المواطن من التفكير، ومحاولة فرض فكر المتسلط على الغير قسراً قد نجح؟ وهل التنكيل بواسطة أدوات السلطة التي منحت له بحكم القانون قد أدت الى حماية الطغاة؟

ومن الطرائف ان التنكيل والقمع يصدر اما بقانون والقانون يصدر باسم الشعب!، او يطبق بفرض العقوبات القاسية، وايضاً يكون الحكم باسم الشعب!، بمعنى ان الشعب يعاقب نفسه من اجل خدمة شخصاً او فئة محدودة، تسلطت عليه واحتكرت سلطة القرار. 

ومن التجارب التي مر بها العراق، وليس في فترات بعيدة، وانما في فترة عايشها ممن ما زال من الاحياء من اقراني بالسن، حيث سعى النظام السابق الى تكميم الافواه وتقوية سلطة الفرد الحاكم، وتأسيس لنظام العائلة الحاكمة، وترسيخ الديكتاتورية، وكان سعيه دائما يؤطر باطار قانوني، ولم يقف الحال عند الشعارات، وانما من خلال تشريع قوانين وتوظيفها في تكريس الديكتاتورية، وانشاء محاكم خاصة، وظيفتها معاقبة من لا يرضى عليه الحاكم، وكانت هذه المحاكم تفصل الاحكام على وفق مشيئة الحاكم الديكتاتور.

 بل ان التشريع لعب دور حتى في مساءلة الانسان عن أفكاره السابقة التي كان يعتنقها قبل ظهور الحاكم وتسلطه، ومنها القانون رقم 107 لسنة 1974 قانون تعديل المادة (200) من قانون العقوبات العراقي النافذ رقم 111 لسنة 1969، عندما عاقب بالإعدام على كل من كان ينتمي لأي حزب غير حزب البعث حتى وان استقال منه او ترك العمل فيه، بمعنى رجعية العقوبة التي هي خلاف كل القواعد الدستورية، ومبادئ حقوق الانسان، لكن القابض على السلطة وظف هذه النصوص القانونية من اجل مصلحته.

لكن كل هذه الاعمال التي كان يسعى من خلالها القابض على السلطة لتحصين كرسي الحكم، ومنع الانقلاب عليه او خلعه، وقتل واعتقل من اجل ذلك عشرات الالاف من الضحايا، وكل هذا كان بحكم القانون وبموجب احكام قضائية.

السؤال هل نجحت هذه الاعمال بحماية ذلك النظام، او وفرت الحصانة للأشخاص المساهمين في ترسيخ الديكتاتورية؟

الجواب هو النفي حتماً، بل إنها تجربة حياتية فاشلة، لأننا شاهدنا النهاية المخزية، والاثار المأساوية التي حلت بالشعب، حتى بعد تلك النهاية، وكأنها امتداد بقسوة اشد لما كان عليه الحال، ومازال الشعب ينزف دماً من اجل تحصين كرسي الحكم للمتسلطين؟ 

لكن هل اعتبر هؤلاء المتسلطون من عبرة نهاية اولئك الحكام الذين سبقوهم؟

أرى انهم ما زالوا يعمهون في غيهم، وشهوة السلطة قد اعمت بصيرتهم، وانهم يظنون الظن الخائب، بان توفرهم على سلطة احتكار القرار، وقدرتهم على تسخير وتوظيف كل إمكانيات المؤسسة الدستورية التي اغتصبوا الحكم فيها، سوف تنجيهم من نهاية مماثلة لنهاية من سبقهم!

وهذا الامر يؤكد على ان المتسلط ما هو الا اعمى البصيرة، لا ينتفع من تجارب غيره، ولا يعتبر من العِبرْ التي حدثنا عنها التاريخ او التي عايشناها، بل انهم لا يملكون الالباب، لان الله سبحانه وتعالى قال في محكم كتابه يقول ان من يعتبر من القصص والحوادث هم أولوا الالباب، 

بل انهم كرروا تجارب من سبقهم الفاشلة، بقسوة اشد وضلالة أوسع، وهذه ستولد نتيجة حتمية، بان نهايتهم ستكون اشد خزياً ممن سبقهم، وأقسى على أنفسهم وعوائلهم ومتعلقيهم، وعلى المطبلين والمتملقين لهم.

واختم القول بما قاله أبو العتاهية لمثل هؤلاء الطغاة:

 كلْ ما بدَا لك فالآكالُ فانيةٌ --- وَكُلُّ ذي أُكُلٍ لا بُدّ مأكُولُ

كما يؤكد أبو العتاهية لكل طاغية ملول بانه لابد وان يرِد على حوض الموت بقوله: 

والموتُ حوضٌ كريهٌ أنت واردُهُ --- فانظرْ لنفسكَ قبلَ الموتِ يا مَذِقُ

* قاضٍ متقاعد

اضف تعليق