ليست رواية او قصة من نسج الخيال، انما نظره والتفاتة لواقعنا المؤلم، ولعلها اهون من غيرها بكثير، أنقل هذه القصة للمطالبة بحق الاطفال في العلاج في بلدهم العراق، ولتسليط الضوء على معاناة الفقير، وتقصير المسؤولين من الموظفين في وزارة الصحة، وعمال النظافة الذين يحملون الاسم فقط ولا يمتلكون الصفة.

عائلة ابتليت بأن يروا فلذة كبدهم الصغير محترق الجسد يصرخ من شدة الألم.

تروي الحادثة والدة الطفل (علي):

ترتعد اركان الغرفة من شدة صراخ ولدي، لا أحتمل ان اسمع صوت صراخه فهو يقتلني حزنا، ترى لو تمنيت ان اموت في ذلك اليوم هل سيأتي الموت لإنقاذي؟ ترى لو تمنيت ان يتحول ألمه لي هل سيتحول؟ هل اغمض عيني؟ لا استطيع ان أراه في تلك الحالة، هل أغلق أذنيّ بشدة كي لا اسمع صراخه؟ اتمنى ان اخفف عنه آلامه بأي طريقة؟ ولكن ليس باليد حيلة.

انه يرتجف ألماً، وعيناه تمتلأن بالدموع، يصرخ من الحروق في جسمه المحمر، المنزوع من الجلد، خلعتُ ثيابه بسرعة خوفا عليه من المجهول، ولكن فوجئت ان جلده الرقيق الذي لطالما كنت احميه حتى من اشعة الشمس ملتصق بثيابه، وفي حال اشبه بغيبوبة اصابني من هول ما ارى.

وبين مؤيد ومعارض صببت الماء على جسده، لم تكن لعائلتي أدنى فكرة (عن الاسعافات الاولية)، فصببت الماء على جسده لعله يخفف من المه او يقلل من حروقه، لففته بشرشف، واسرعت الى المستشفى، حاملة ولدي بين يدي، شعوري لا يوصف، آمالي تتحطم، شيء غرز في قلبي بقوة، ثقل ما قصم ظهري، ما ابعد المستشفى على الرغم من قربها من بيتي.

وعند وصولي للمستشفى اخذوه من بين يديّ وهو يصرخ لا.. لا تتركوني.. لا أريد (اجراء عملية) رباه كم تحمل قلبي في تلك اللحظة، لحظات الانتظار بدأت تتزايد فتزيد ثقل ما حصل، وانا في انتظار من يطمئنني على ولدي، وبعد اجراء الفحوصات عليه، خرج الطبيب، فأسرع الجميع إليه، يسألونه: أرجوك طمئنا على حالته ارجوك قل شيئا دكتور؟.

الطبيب: لا اخفيكم حالته خطرة والساعات القادمة اذا مرت على خير فإن الخطر سيزول، ولكن نصيحتي لكم ان تسافروا به وتعالجوه خارج العراق.

والده: لماذا؟

الطبيب: لدينا أدوية ممتازة ولدينا أطباء أكفاء ولكن (الفندقة تشكو التلوث).

على لسان الطبيب يقول المستشفى تشكو التلوث!!؟...

واغلب المحروقين يصابون بالتسمم من الجراثيم وسوء الخدمات وعدم وجود المرافق الصحية، ولكن ليس هذا فقط، هنالك بانتظار المريض اشياء واشياء سنعرفها من عائلة الطفل (علي) الذي قضى في تلك المستشفى ليلة واحدة فقط.

تقول الأم: بعد ان وضعوا ولدي على السرير واعطوه بعض المهدئات، دخلت على ولدي ادنو خطوة وارجع اخرى، ولدي هل هو تقصيري؟ أم هو القدر؟ ألوم نفسي، لم اشكر الله على نعمة وجودك الى جانبي طوال عمرك، ولدي ماذا اقول أأقول عفوا؟ وان قلتها فأنا لن اسامح نفسي على تقصيري اتجاهك ما حييت....

دنوت منه بصعوبة بالغة، فقد كانت عيناي مغمضتين، على الرغم من اشتياقهما له ولكني اشعر بالخجل من عينيه، وعندما وقعت عيناي على عينيّ ولدي الصغير سألني: امي ماذا جنيت ليحترق جسمي؟؟

لقد كان ولدي يتميز بالذكاء، وكان كثير الأسئلة، وكنت في بعض الاحيان لا اجيب على اسئلته ولكن هل سأستطيع ان اجيب على سؤاله اليوم وهو في هذه الحالة؟ أجبته وانا لا املك غير أملي بالله ان يحييه لي من جديد، ولدي اصبر فإن الله مع الصابرين، إن هو إلا امتحان من الله، يبتلي به المؤمنين ليرى درجة ايمانهم، نظرتُ الى جسمه وقد اصبح قطعة بيضاء.. لا ارى سوى رأسه قد لف (بالشاش)، جلست الى جانبه وقد منعوا الاخرين من الدخول عليه.

وقد انشغل البعض بالبكاء والبعض بالدعاء والبعض الاخر بالتحضير الى السفر (الى خارج العراق)، لعلاج ولدي بعد كلام الطبيب عن المستشفى، وقسم الحروق بالذات، اما انا فقد انشغلت بالنظر الى ولدي ورحتُ استذكر حياته من يوم ولادته وحتى بداية تميزه عن اقرانه، وصار يمشي، ويتكلم، ويلعب، ويركض، وحتى قبل ايام قليلة عندما ذهب في اليوم الاول الى (المدرسة) ليبدأ مشوار التعليم، وكم كنت فرحة في ذلك اليوم، ونثرت عليه الحلوى وذهبت معه وأوصيت به المعلمين، والطلاب، كنت اخشى أن يؤذيه احد، ولكن في كل لحظة، كان ثمة ما يوقف ذكرياتي، وهو سؤال أسأله لنفسي: لماذا لم اشكر الله على نعمة وجوده في حياتي؟..

ماذا لم اشكر الله على نعمة العافية؟..

قضيت تلك الليلة في المستشفى والى جانبي ولدي مسجى على السرير، وقد مُنع من تناول الطعام والشراب، وما هو جدير بالذكر، أنني أمضيت تلك الليلة أبعد الذباب عن وجهه!!. في تلك الغرفة المخصصة للمحروقين، حيث كانت تضم أربعة مصابين ومرافقيهم ولم تكن واسعة بما يكفي لمن فيها! عجبتُ من حال المستشفى، ولكن من حال بعض العاملين فيها أصبحت أكثر استغربا وعجبا.

في نفس اليوم ليلا ساءت حالة ولدي كثيرا فنبضه بدأ يقل، وحرارته ترتفع ورأسه مبتل من شدة ارتفاع الحرارة، وبدأ يئنّ، خرجت كالمجنونة ابحث عن احد يساعدني، رأيت مجموعة من الممرضين ممن يسمون (بملائكة الرحمة) الذين يعملون في المستشفى، كانوا يقفون وهم يتمازحون في ما بينهم، طلبت منهم المساعدة شارحة حالة ولدي الصغير، أشار احدهم بيده اذهبي الى هذه الغرفة، طرقت الباب بقوة، لم يخرج احد لي، انهم نائمون، بحثت هنا وهناك ولكن لا جدوى، صرختُ بأعلى صوتي .... ولدي سيموت...

ساعدوني... ارجوكم ...ارحموه ...عندها جاءوا لنجدة ولدي، أعطوه بعض الادوية وغيروا له جروحه، هدأ قليلا وبدأ يغمض عينيه مرة ويفتحها أخرى ليطلب الماء؟ مرت تلك الليلة بإعجوبة وانتظرت الصباح بفارغ الصبر، وبعد تلك الليلة وعند الصباح الباكر، نقلنا ولدي في إسعاف الى( مطار النجف) بعد اكمال جميع الإجراءات اللازمة، وبعد الحجز في مستشفى متخصصة في علاج المحروقين، وصلنا الى المطار ونقل ولدي الى داخل الطائرة في رافعة، لأنه لا يقوى على الحركة، وطارت الطائرة في سماء (العراق) مبتعدة كثيرا عن أرضه.....

للحظة قلت في نفسي ما كنت انتقد غيري عليه، سأغادرك دون رجعة، ما الذي قدمته لي في وقت حاجتي، سأغادرك لأعالج ولدي في دولة اخرى، ولكن أيقظني (الضمير)..لا،، إن بلدي بلد الخير ولكن تكالب عليه المفسدون والطامعون، فجعلوه يصبح هكذا. ونذرت حينها بعد شفاء ولدي وعودتنا بالسلامة سأنشر معاناة (الفقير) الذي لا يستطيع السفر الى خارج البلاد ولا يمتلك المال للعلاج، فهل سيكون الموت عليه محقق في مستشفى تفتقر لأبسط الخدمات وهي النظافة وموبوءة بالتلوث.

وفعلا وصلنا الى (خارج العراق) والى المستشفى بعد معاناة طويلة، وقبل ان يستلموا المريض استلموا المال، ما يسمى بـ تأمينات المستشفى وادخلوه، وبعد بقاء في المستشفى دام ثمانية عشر يوما، امتثل ولدي للشفاء، ليس التام، ولكن أنقذ ولدي من موت محتم، كان ينتظره في العراق، صدقاً وللأمانة أقول، إن الدواء لم يكن أفضل من دواء وزارة الصحة العراقية، ولكن المكان كان نظيفا بحيث انه تحت الارض، وكان الاهتمام من الناحية النفسية والجسدية يوازي الاهتمام الصحي.

لذا يرجى من وزارة الصحة، كما يرجى من الجمعيات الخيرية، وجمعيات حقوق الاطفال، بفتح دورات متخصصة في تعليم الاسعافات الاولية للحروق والحالات الاخرى، لأن اغلب من ليس لديهم تماس مع الصحة، لا يعرفون ادنى فكرة عن انقاذ الاخرين عند حصول اي طارئ.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق