تعد السيادة الركن الرابع لأركان الدولة الثلاث "الشعب والاقليم والسلطة"، وأحد أهم عناصر مقومات قيام الدولة المعاصرة، على الرغم من الجدل الدائر حول أهميتها كركن رابع لأركان الدولة أم لا، ويعكس هذا الجدل المدرستين "الفرنسية والألمانية"، فالأخيرة لا تشترط السيادة كركن من أركان الدولة، وهي عكس المدرسة الأولى "الفرنسية" التي تقر بوجود السيادة كركن مهم لقيام الدولة. وبغض النظر عن هذا الجدل القانوني، إلا أن اسقاط نظام صدام حسين في العام 2003 من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها أطاح بالركن الرابع من أركان الدولة العراقية، وجعلها دولة منقوصة السيادة حتى العام 2011 وانسحاب القوات الأمريكية من العراق، ما سمي في حينها "يوم السيادة الوطني".

إلا أن الواقع لم يؤشر على ذلك "يوم السيادة الوطني"؛ بسبب كثرة التدخلات الإقليمية والدولية في الشأن الداخلي العراقي، ومصادرة القرار "الوطني"، فضلاً عن احتلال تنظيم "داعش" الإرهابي لبعض المحافظات العراقية، والتي استطاع من خلالها أن يقوض سيطرة الحكومة المركزية في تلك المحافظات والأجزاء القابعة تحت سيطرته، وعلى الرغم من انسحاب القوات الأمريكية من العراق مطلع العام 2011، إلا أن الدولة العراقية بقيت منقوصة السيادة، ليست بآليات عسكرية خارجية فقط وإنما بآليات واشكال أخرى. هذه الآليات ربما تكون بطرق ناعمة أو بطرق أخرى، "بطريقة فك الارتباط مع الدولة الأم"، من خلال ضرب الدولة من الأسفل، "أي من الداخل"، والاتصال المباشر مع الطوائف، والمذهبيات، والأحزاب السياسية، وربما مع أجهزة الدولة الأمنية، كالجيش والقوى الداخلية، بحيث يتم بناء علاقات مع الأقليات والإثنيات والأحزاب والشخصيات المؤثرة في داخل الدولة، علي أساس مبدأ " شد الأطراف دينياً أو طائفياً أو قومياً"، ولعل عدم استقرار العراق واستمرار الازمات السياسية والانقسام الداخلي وتشظي القرارات السياسية العراقية، يؤشر على دور وأهمية مفهوم السيادة الوطني.

وعادةً ما يعزوا هذا الخطر في ضرب الدولة من الأسفل، وربط مكوناتها العرقية والأثنية بدول إقليمية، للفشل المتكرر في بناء الدولة نفسها داخلياً؛ لأن الفشل في بناء الدولة وإدارتها "إدارة رشيدة "وفق مفهوم المواطنة المعاصر، يعطي للدول المجاورة أو الإقليمية الباحثة عن مصالحها الخارجية مبررات التدخل وربط تلك الجماعات بها، مما يؤدي إلى " بروز الانتماءات الدينية الناتجة عن التنوع الاثني والمذهبي وربما بروز مشكله الأقليات كذريعة للتدخل واختراق سيادة الدولة، فضلاً عن الانقسامات الدينية في "الطائفة أو القومية" داخلياً اتجاه تلك التدخلات الخارجية.

إن فشل القوى السياسية العراقية بعد العام 2003 في مشروع إدارة الدولة وعدم الاتفاق على مشروع وطني، واصرارها على التمثيل الطائفي والقومي، أدى إلى افشال الدولة برمتها وزاد من حالة عدم الاندماج السياسي والاجتماعي في بيئة إقليمية مشحونة طائفياً، وبيئة خصبة لنمو التطرف والإرهاب. هذا الفشل السياسي انعكس على جوانب الحياة في العراق، واعطى الفرصة لكل الدول الإقليمية ودول الجوار أن تبحث عن موطأ قدم لها في الدولة العراقية الجديدة بأشكال وصور مختلفة سواء مع بعض الاحزاب السياسية أو بعض الشخصيات البارزة (حزبياً أو دينياً " طائفياً أو مذهبياً")، وقد عمدت بعض القوى السياسية إلى تشكيل اجنحة عسكرية تابعة لها، وبعض القوى ارتبطت بأجندة خارجية.

ولهذا فالدولة العراقية تعرضت لكل هذه الانواع من الاختراق المكوناتي والمذهبي والحزبي؛ بسبب التقاطعات السياسية وعدم الاتفاق على مشروع لإدارة الدولة العراقية، مما ساهم بشكل كبير في هذا الفشل المتكرر "الذي نعيشه اليوم" وتّسبب بتراكم الأزمات وحالة الانسداد السياسي الحالية، وهذا بالتأكيد ينذر بتداعيات خطيرة جداً في مستقبل العملية السياسية العراقية.

كل الدول الإقليمية ودول الجوار كانت وما تزال لها دور سلبي في العراق ولو بشكل متباين، فبعضها دورها يتراوح بين السلب والإيجاب والبعض الآخر سلبي فقط، فالدول الداعمة للإرهاب هي بالأصل لا تريد للعراق أن ينهض بقواه ويرجع إلى سابق عهده، وهذه الدول بالتأكيد دورها سلبي، أما الدول التي ما زالت تراهن على نفوذها بالعراق بأن يصبح العراق مقاطعة تابعة لسياساتها في المنطقة، تستطيع من خلاله ازعاج أو ابتزاز الدول الإقليمية والعالمية ( المتقاطعة معها سياسياً أو أيديولوجيا أو لتصدير نموذجها السياسي التي تتبناه)، فضلاً عن الدول التي ما زالت تبحث عن دور ريادي جديد لها يوازي دور الدول الإقليمية ودور بعض دول الجوار المتنفذة داخل الدولة العراقية، هي دول تبحث عن مصالحها السياسية والأمنية والاقتصادية بغض النظر عن مصالح الطرف الأخر، حتى وأن قدمت الدعم للدولة المعنية؛ لأن منطق العلاقات الدولية قائم على اساس المصلحة وليس على اساس العداوة أو الصداقة.

والساحة السياسية العراقية اليوم فيها الكثير من الحركات والفصائل المسلحة غير المرتبطة بالدولة، وهي خارجه عن سيطرتها وترتبط بدول إقليمية مجاورة من حيث التدريب والتمويل والتنظيم فضلاً عن الدعم العسكري وتلقي الأوامر، وهذه الفصائل في الغالب مرتبطة أيديولوجياً مع تلك الدول بدوافع دينية ومذهبية وتمتلك رؤية معينة في طرحها، ولربما هذه الفصائل لا تهدد أمن المواطن والأمن القومي للدولة الأم في الوقت الحاضر، إلا أنها تعطي مؤشر على الاختراق الداخلي للسيادة الوطنية وفق التفكير المعاصر، لاسيما إذا ما كانت هذا الحركات والفصائل عابرة للحدود القومية للدول وتتحرك ضمن أطار معين ورؤية محددة سلفاً، وأن بقاء هذه الفصائل تتحرك بحرية تامة ستقوض هيبة الدولة "داخليا وخارجياً"، داخليا من خلال فرض القانون وتقويض دور المؤسسة العسكرية، وخارجياً من خلال ضعف الشرعية الدولية للدولة المعنية وضياع لهيبتها، الذي بالتأكيد سيتسبب بضعف الدعم العسكري والسياسي للدولة المعنية عالمياً، فضلاً عن اضعافها اقتصادياً؛ بسبب عدم قدرة الشركات العالمية على الاستثمار فيها لكونها دولة غير مسيطر عليها داخلياً ومعرضة للتقلبات السياسية والأمنية.

وعليه فاليوم هناك هدف واحد مشترك في العراق يتوحد من خلاله كل العراقيين شعباً وحكومة، إلا وهو طرد تنظيم "داعش" وإعادة النازحين إلى ديارهم والحفاظ على هيبة الدولة العراقية من التدخلات الخارجية، وهذا الهدف لايمكن تحقيقه في ظل تراكم الأزمات السياسية والاقتصادية وتقاطع الرؤى، ولهذا يفترض أن يكون هناك مشروع سياسي شامل واضح لإدارة الدولة يعالج هذا الهدف "أنهاء داعش" برؤية وطنية ويساهم في تذويب التقاطعات السياسية ومعالجة الأزمة الاقتصادية من خلال:

تحييد المؤسسة العسكرية وإدراج قوات الحشد الشعبي بقانون يؤطر عملها وابعاد قياداتها السياسية، وانهاء المظاهر المسلحة في الشوارع والمدن من غير القوات الأمنية، فضلاً عن المضي بمشروع الإصلاح، وبناء علاقات خارجية مع كل الدول الإقليمية والعالمية على أساس مبدأ الشراكة والاحترام المتبادل بعيداً عن الطائفة والمذهب والدين والمصالح الحزبية والارتباطات الشخصية بما يحفظ هيبة الدولة وسيادتها؛ لأن بناء الدولة وإدارتها يكمن في الحفاظ على القرار الداخلي وسيادة الدولة الوطنية من كل التدخلات الخارجية.

* مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2016
www.fcdrs.com

اضف تعليق