ثقافة وإعلام - كتب

خلل بناء الدولة العراقية

القوى الخارجية والقبيلة والدين، نظرية الحداثة المفقودة

يهتم هذا البحث اذن بالتعرف على الأسباب العميقة للأزمة السياسية المتجددة في العراق وعلى سر تكرار الاضطرابات الدموية فيه، منذ سنة 1921 ولحد الآن. فهل نحن بصدد دولة انبثقت من المجتمع كنتيجة لصراعات اجتماعية ذاتية، كالتي حصلت في بلدان أوربا الغربية مثلاً، أم هي أساساً مجموعة مؤسسات فوقية...

صدر عن دار الرافدين في بغداد كتاب (خلل بناء الدولة العراقية، القوى الخارجية والقبيلة والدين، نظرية الحداثة المفقودة)، للكشف عن عملية تأسيس الدولة العراقية بين 1869 و1921، لمؤلفه الدكتور محمد سعيد الشكرجي. ويأتي هذا الكتاب بعد الكتاب الأول حول تطور المجتمع والدولة، بداية إرساء معالم الدولة الحديثة (العراق، جذور فشل بناء الدولة 1831- 1869، من أين أتينا ولماذا نحن بهذا الوضع.

تجيب هذه الدراسة على تساؤل الكثيرين حول مغزى وقائع وظواهر شهدها العراق خلال الفترة الراهنة، كغياب مفهوم الدولة وتعثر بناء الديمقراطية وسيطرة الحركات الإرهابية على أكثر من ثلث مساحة العراق، وما دور التقاليد القبلية أو الدينية في تشكيل حواضنها، وعن سبب غياب قيادة دينية أو اجتماعية قادرة على تجنيد الأتباع للقتال ضد حكم الإرهاب. ثم عن ظاهرة السيد السيستاني وقوة تأثير فتواه في استعادة المبادرة العراقية في الحرب على الإرهاب؟

تجيب هذه الدراسة، الأولى حول الدولة والمجتمع في عراق تلك الفترة، على هذه الأسئلة من خلال الإحاطة بعملية بناء الدولة الحديثة وتشخيص جذور خللها، كموقف المجتمع منها، في ظل سيطرة أجنبية وصراع دولي على هذا البلد. لا يتعلق الأمر اذن بدراسة تاريخية، بل اجتماعية سياسية تاريخية، تُسمى أيضاً بالتنقيب والحفريات، للكشف عن عملية تأسيس الدولة العراقية، بين 1869 و1921، استخدمنا فيها المعطيات بعد التأكد من صحتها للتوصل الى تحليل شامل، قدر الامكان، لمسار بناء الدولة الحديثة وخصائصها. ونشير الى اننا بصدد عملية (process) وليس بقرار أو اعلان تأسيس، ونعني بالعملية هنا: تفاعلات عناصر محددة تمخّضت، بمرور فترة زمنية معينة، عن تأسيس هذه الدولة.

أنتجت هذه الدراسة، ضمن أمور أخرى، نظريتنا عن (الحداثة المفقودة) لتفسير فشل هذه الدولة منذ تأسيسها سنة 1921، وتنطبق، في جوهرها، على العديد من البلدان التي استقلت بعد فترة طويلة من السيطرة الأجنبية. يهتم هذا البحث اذن بالتعرف على الأسباب العميقة للأزمة السياسية المتجددة في العراق وعلى سر تكرار الاضطرابات الدموية فيه، منذ سنة 1921 ولحد الآن. فهل نحن بصدد دولة انبثقت من المجتمع كنتيجة لصراعات اجتماعية ذاتية، كالتي حصلت في بلدان أوربا الغربية مثلاً، أم هي أساساً مجموعة مؤسسات فوقية تحاكي تلك الموجودة في تلك البلدان، فُرضت على المجتمع من قبل قوة أجنبية وما تأثير ذلك على مسار الدولة واخفاقاتها وعلى المجتمع نفسه؟ وربما تساعدنا الإجابة العلمية أيضاً على الخروج من الوضع الخطير المتمثل بتفكك المجتمع الكبير أو ضعف تماسكه، مقارنة بقوة الجماعات الجزئية، سياسية أم دينية أم قَبلية.

منهج البحث:

يمكن تلخيص منهج البحث الذي اعتمدناه، كما يلي:

أولاً: أجرينا تحقيقاً قائماً على كشف المعطيات وتدقيقها، وهو عمل شاق لتبعثرها بين العشرات من كتب التاريخ والدراسات عن الوثائق القديمة، العثمانية والبريطانية.

ثانياً: التزمنا بالمنهج النقدي وبمبدأ القطيعة مع الأحكام المسبقة السائدة، حول موضوعات البحث، والابتعاد عن تحويل النظريات العلمية، الغربية أساساً، الى نوع من الأيديولوجيات والديانات الجديدة، والتي استخدمت من قبل البعض كمفتاح لحل مختلف المشاكل.

ثالثاً: قمنا قدر الإمكان بعقد المقارنات في الزمن، بين الماضي والحاضر، وفي المكان بين المناطق العراقية ثم بين العراق وبلدان أخرى، وذلك بهدف تشخيص التغيّرات وتباينها وتقوية الخزين المعرفي عن أوضاع العراق السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي احتضنت عملية بناء الدولة وعن تأثيراتها على سير الدولة والمجتمع الى اليوم.

رابعاً: بناء على ذلك، قد يؤدي تراكم نتائج البحث العلمي الى بلورة تأصيل نظري، أي صياغة نظريات وقوانين خاصة بتفسير واقع المجتمع وتساعد على استشراف مستقبله، وهكذا تمكنّا بفضل تراكم نتائج البحوث التي أجريناها من بلورة نظريتنا (الحداثة المفقودة) حول تفسير الخلل في بناء الدولة الحديثة في العراق.

النتائج المهمة للدراسة

إضافة الى نظريتنا عن (الحداثة المفقودة)، توصلنا الى النتائج المهمة التالية:

- ركزت الإصلاحات العثمانية على استقدام وسائل حديثة اعتقدت الدولة انها سبب تفوق القوى الغربية في المجالات العسكرية والإدارية، بينما أهملت أساس هذا التفوق، أي التطور الاقتصادي وقوة التماسك الاجتماعي حول النظام القائم.

- رغم التقدم الذي أنجزه الوالي مدحت باشا في العراق لصالح الدولة وربطه لأهم امارات الخليج بولاية البصرة، أقيل من قبل الباب العالي بعد ثلاث سنين من حكمه العراق نتيجة الضغط البريطاني. وقد لاحظنا المفارقة بين تأكيد هذا الوالي على مبادئ الدولة الحديثة من جهة، ومن جهة أخرى مبادرته، كأسلافه، الى استخدام العنف المفرط ضد السكان، كعشائر الفرات الأوسط وأهالي بغداد، إضافة الى تعسفه في تطبيق قانون الأراضي (الطابو)، متسبباً في فوضى مُلكيات الأراضي وتخريب الإنتاج الزراعي. وهذا ما يشير الى حدود تأثير هذا الوالي على تطور العراق الحديث. لذلك لا نعتبره مؤسساً للدولة الحديثة بل كحلقة يتيمة في عملية تأسيس الدولة عادت بعدها الولايات العراقية الى سابق عهدها.

- الاستبداد هو عدو التقدم الاقتصادي وليس تعدد الهويات القومية والمذهبية، وقد استمرت دكتاتوريات القرن الماضي والى اليوم في القاء اللوم على هذه "الشماعة" وغيرها لتبرير فشلها في تنمية بلدانها وتراجع مستواها المعيشي.

- حاجة الاستبداد للخطاب الطائفي: بعد قتال النصارى لأكثر من مائتي سنة، تحول العثمانيون بقيادة سليم الأول، بداية القرن السادس عشر، الى محاربة الشيعة وتكفيرهم، وظل الوضع كذلك الى القرن التاسع عشر. حيث لم يتمتع الشيعة بحق الحج الى مكة، بينما تمتع حجاج الدول الغربية الى فلسطين بحماية السلطة العثمانية بموجب معاهدات الامتيازات.

- ضعف تماسك المجتمع في العراق: عانى العراق، كباقي البلدان الخاضعة للدولة العثمانية، من ممارسات تسببت في خراب العلاقة بين الدولة والجماعات المحلية المختلفة، كالقبائل والعشائر، مما أفقد المؤسسة الدينية الرسمية تأثيرها على المجتمع. فهل يفسر ذلك تعاظم الفجوة بين الدولة ومجتمعها حتى من أتباع المذهب الرسمي، أي السني؟ وكذلك تحول العديد من عشائر السنة، خلال القرن الثامن عشر، الى المذهب الشيعي الذي تميّز باستقلالية مراجعه عموماً عن الدولة وحظيَ بمصداقية أكبر في المجتمع، لا سيما عشائر الوسط والجنوب والتي شكلت نواته الصلبة، الى جانب سكان المدن المقدسة.

- المقارنة مع تماسك المجتمع في إيران، يفرض السؤال نفسه عن سبب الفارق الكبير بين تماسك المجتمع النسبي في إيران وضعفه الواضح في العراق؟ هل يمكن تفسير هذا الفارق بتزايد تماسك الإيرانيين تدريجياً منذ بداية القرن السادس عشر، بينما خضع العراق لسيطرة دولة أجنبية قامت سياستها، لمئات السنين، على امتصاص الثروات وتفريق السكان؟ وما عدا الثقافة الايرانية المتجذرة منذ القدم ودورها في هذا المجال، لاحظنا أن المذهب الشيعي لعب دوره في تقوية تماسك المجتمع الإيراني، إذ ساهم في تقليص الطابع الاستبدادي، منذ القرن السادس عشر، بفعل التزام السلطة باحترام موقع علماء الشيعة وحاجتها لهم كممثلين لشرعيتها الرسمية.

- على الصعيد العالمي، اهتمت الدراسة، ضمن أمور أخرى، بتفسير المفارقة بين نشوء دول ديمقراطية في دول غرب أوربا والولايات المتحدة أشاعت في ديارها عموماً قيم الحرية والمساواة واحترام القانون، بينما شنت الحروب الاستعمارية على بلدان العالم، في مختلف القارات، للسيطرة عليها وامتصاص ثرواتها ومنعت بذلك تطورها الطبيعي نحو الانعتاق وبناء النظم السياسية المناسبة.

- نقد الوعي الوطني العراقي

سمح تحليلنا للمعطيات المتوفرة عن الاجتماعات العامة والسرية للقوى الوطنية المعارضة للوجود البريطاني، خصوصاً بين 2018 و1920، بتشخيص ظاهرتين تتعلقان بالوعي الوطني الوليد وتفسران ولادة وعي وطني مشوه. ولا زال العراق يعاني من آثار هذا الوضع حتى اليوم، بعد فترة تطور إيجابي بهذا الخصوص خلال العهد الملكي. أولاً، الوعي الوطني العمودي، مقارنة بالوعي الوطني الأفقي، أي العابر للجماعات الجزئية المختلفة والمؤسس لثقافة وطنية في مجتمع ما. وثانياً، غياب القائد! اذ توصلنا الى تشخيص وتفسير ظاهرة فريدة من نوعها تمثلت بغياب قائد لعموم الحركة الوطنية، قبل وأثناء ثورة العشرين! وفي الوضع الحالي يساعد نقدنا للوعي الوطني العراقي على فهم الأسس العميقة للفشل الهيكلي المستمر للدولة. وكمثل على ذلك، استبعد واضعو دستور 2005 النظام الرئاسي وأسسوا نظاماً برلمانياً بمجلس نواب يخضع فيه رئيس الحكومة لتوازنات رؤساء الكتل السياسية، ممثلي الهويات الجزئية، ثم لتقاسمهم مواقع الدولة، دون الحديث عن الفيدرالية ومجلسها الاتحادي الذي لم يؤسس لحد الآن!

- حول صراع البداوة والحضارة، تؤكد نتائج بحثنا على تميّز العراق في موضوعة الصراع بين البداوة والحضارة، بما يمكن تسميته بـ "نسخة عراقية" إذ قدمنا تفسيراً لانبعاث أو ضمور هذا الصراع وانتشاره، كصراع ذاتي، بين أبناء المدن. وذلك من خلال ربطه بالسياق السياسي المتغير وساعدنا ذلك على تشخيص ملامح الوعي الوطني، كما بينّاه آنفاً.

- المفارقة حول الشيعة والدولة العثمانية بعد 1914، لا زال السؤال الكبير يفرض نفسه الى اليوم، لماذا انخرط علماء الشيعة، دون غيرهم من القيادات الدينية، الى جانب القوات العثمانية خلال الحرب العظمى؟ وكيف انخرط العديد من عشائر الوسط والجنوب في القتال دفاعاً عن "أعداء الأمس" في مواجهة القوات البريطانية؟ شجع هذا التطور العثمانيين على تنظيم حملة ثانية للجهاد، سنة 1915، خاصة بالشيعة، بينما غاب علماء المذهب الرسمي وأتباعهم عموماً عن المشهد رغم فتوى شيخ الإسلام، مفتي الدولة، بالجهاد ونصرة الدولة.

- "مثل السمك مأكول ومذموم"، بعد قتال العلماء والعشائر بداية الحرب العظمى وفي ثورة العشرين، نلاحظ ان من دافع عن العراق واستقلاله تم اقصاؤه عموماً من المواقع العليا للدولة الحديثة، بينما تبوّأت المواقع الأساسية فيها شخصيات عُرفت بمعارضة الحركة الاستقلالية وبتعاونها مع الادارة البريطانية. ثم أشاعت بعض هذه الشخصيات فكرة تبعية شيعة العراق لإيران وتبنى قانون الجنسية العراقية هذا الموقف.

نهتم بهذه المفارقة لتأثيرها السلبي الكبير على تماسك المجتمع وعلى فرص نجاح الدولة الوليدة؟ ونعتقد بأن عمليات التهجير لعرب وأكراد الشيعة الى إيران، نهاية الستينات وفي الثمانينات، شكلت ذروة هذا الوضع المَرَضي. وفي أيامنا هذه وبعد تشكّل الحشد الشعبي، بفتوى السيد السيستاني، من أبناء نفس عشائر الوسط والجنوب وبعد مساهمته الكبرى في تحرير مدن ومناطق يقطنها السنة، بين 2014 و2016، طالب بعض السياسيين المتزعّمين للهويات الجزئية بإبقاء هؤلاء المقاتلين "خارج المدن"، وكأنهم ينظرون الى شيعة العراق على أنهم (مثل السمك، مأكول ومذموم)، كما يقول المثل الشعبي. وتتحمل القيادات السياسية التي تتقاسم مناصب الدولة، على أساس تمثيل هذا المكون أو ذاك، مسؤولية بروز مثل هذا الخطاب وإعاقة اندماج الجماعات الجزئية بالمجتمع الكبير وبالدولة، وهو ما يهم موضوعنا مباشرة.

نبذة عن المؤلف

باحث أكاديمي وسفير سابق. بعد نيله البكالوريوس في العلوم السياسية من جامعة بغداد، سنة 1970، حصل على الماجستير من جامعة بواتييه (فرنسا) وعلى ماجستير الدراسات السياسية المعمقة من جامعة غرينوبل، ثم دكتوراه الدولة من معهد الدراسات السياسية بباريس Science po، كلية معروفة عالمياً. بعد الكتاب الأول حول تطور المجتمع والدولة، بداية إرساء معالم الدولة الحديثة (العراق، جذور فشل بناء الدولة 1831-1869، من أين أتينا ولماذا نحن بهذا الوضع، بغداد دار الكتب العلمية، 1917) والحالي حول عملية بناء الدولة بين 1869 و1921، سيتبع كتاب ثالث عن تأثيرات هذه العملية على المجتمع، باقتصاده وتنظيماته وثقافاته، خلال نفس الفترة. وبهذا سنستكمل ترجمة وإعادة كتابة أطروحة الدكتوراه، مع التنقيح الذي تفرضه ديناميكية البحث العلمي.

الكتاب: خلل بناء الدولة العراقية، القوى الخارجية والقبيلة والدين، نظرية الحداثة المفقودة
الكاتب: د. محمد سعيد الشكرجي
اصدار: بغداد، دار الرافدين، 2022.

اضف تعليق


التعليقات

د.مهندس هشام العاني
فرنسا
نجاح الدكتور محمد سعيد في وضع اليد على جرح العراق الدامي والمؤسف خلال عده عقود بين الحرب المذهبيه وضعف الوعي الجمعي الذي ساير المجتمع نتيجه التاثير الخارجي (الاستعماري ) وبيروقراطيه واستبداد رؤساء العشائر مكونين شكل دول داخل الدوله من اقطاعيين كانوا السبب الرئيسي في تشرذم المجتمع وعدم طاعه المرجعيه ،،2022-05-29
حسين وهاب علوان
العراق
إضافة الحلول المطلوبه القابله للتطبيق للوضع الراهن2022-05-29