يسير الاقتصاد العراقي منذ عقود في خط تنموي ملتوي ناجم عن الاعتماد المفرط على النفط وضعف الادارة الاقتصادية في توظيف الموارد والطاقات البشرية، والانخراط في حروب اقليمية زادت من هدر الامكانية وضيعت فرص البلد في تحقيق التنمية والعدالة والرفاه. ونتيجة الازمة المالية تسعى الحكومة منذ سنوات الى انتهاج سياسات اصلاح نوعية والتكيف مع الهبوط الحاد في الايرادات النفطية عبر اعادة هيكلة الاقتصاد وتنويع القطاعات المساهمة في الناتج المحلي الاجمالي لتجاوز الازمة المالية الحادة التي يمر بها البلد وتحقيق نمو اقتصادي مستدام بعيدا عن تقلبات الاسعار في اسواق النفط العالمية.

 في هذا السياق، تم مؤخراً إطلاق خطة التنمية الوطنية (2018-2022) بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. وتكتسب الخطة الجديدة اهمية بالغة نظرا لانطلاقها من واقع اقتصادي جديد يعيشه الاقتصاد العراقي بعد انهيار اسعار النفط الى دون النصف، والتحديات الامنية الخطيرة التي خلفها احتلال داعش وما ترتب عليها من تكاليف مادية وانسانية باهظة زادت من عمق الازمة الاقتصادية والمالية في البلد. كما تتزامن الخطة التنموية "الثالثة" مع اطلاق استراتيجية تطوير القطاع الخاص لسنوات (2015-2030) واجندة التنمية المستدامة العالمية التي اطلقتها الامم المتحدة لسنوات (2015-2030).

ولا شك بان التخطيط الاقتصادي يمثل اطار منهجي يستوعب كافة برامج الاصلاح الاقتصادي والمالي في البلد ويؤسس لتنمية اقتصادية مستدامة تحقق الاهداف الاقتصادية والاجتماعية. مع ذلك ينبغي رصد ومعالجة الاخطاء والتحديات التي مرت بها الخطط التنموية السابقة في العراق، فقد عانت الخطة التنموية الاولى (2010-2014) والخطة التنموية الثانية (2013-2017) من جملة من التحديات التي اعاقت تحقق الاهداف المرسومة وضيعت سنوات من التنمية ومليارات الدولارات النفطية المتدفقة ابان فورة اسعار النفط. ويمكن تحديد أبرز تلك التحديات بما يلي:

1- تأخر اقرار الموازنات العامة لخطة التنمية الاولى لشهور اسهم في عرقلة تنفيذ المشاريع الاستثمارية سواء على مستوى الحكومات المحلية (برنامج تنمية الاقاليم) او البرنامج الاستثماري للوزارات الاتحادية.

2- كثرة الاجراءات البيروقراطية للمشروعات الحكومية والمتمثلة بالإدراج والإعلان والإحالة اضعف نسب التنفيذ المالية والمادية لهذه المشروعات، والتي لم تتجاوز في احسن الاحوال (70%). فيما تُدوّر باقي الاموال المخصصة للوزارة او المحافظة الى العام التالي وللجهة المستفيدة نفسها مما زاد من استرخاء الجهات المعنية.

3- غياب الاطار القانوني اللازم لتنفيذ الخطط التنموية في العراق نظرا لعدم صدورها بقانون ملزم التنفيذ الامر الذي افقدها القوة والفاعلية، خاصة مع وجود استثناءات وتحديات متعددة تسهم في اخراج الخطة عن مسارها المحدد وبالتالي الاخفاق في تحقيق الاهداف النهائية للخطة.

4- لا يعود الاخفاق التنموي في العراق، في الغالب، الى قصور الجانب التنظيري والتخطيطي، وانما يتركز بشكل اساس بقصور الجانب التنفيذي، فضعف التنفيذ والمتابعة والرقابة اسهم بشكل اساس في انحراف خطط التنمية الاقتصادية عن مساراتها المرسومة.

5- غالبا ما تعمد المؤسسات الاقتصادية المعنية الى وضع اهداف وطموحات تفوق الواقع والممكنات المادية المتوفرة، مما يزيد من محاور الاختناق ويعيق امكانية نجاح الخطة وتحقيق اهدافها الاقتصادية والاجتماعية، خصوصا مع الاعتماد على المورد النفطي المتذبذب في تمويل النفقات الحكومية.

6- غياب الرؤية الاقتصادية الموحدة للاقتصاد العراقي بسبب الاختلاف المستمر بين المركز والاقليم، خصوصا فيما يتعلق بتقاسم الموارد المالية وحصة الاقليم من الموازنة العامة.

7- تغلغل افة الفساد المالي والاداري الى معظم الحلقات الادارية في الوزارات والمؤسسات الحكومية الاخرى ساهم بشكل كبير في انحراف التخطيط الاستثماري في البلد عن مسارات التنمية وتطوير البنية التحتية.

8- اغتراب القطاع الخاص بسبب غياب مظلة الحماية الجمركية وضعف القوانين والتشريعات الراعية لانطلاق مؤسسات الاعمال فضلاً على هشاشة البنية التحتية. الامر الذي قلل من قدرة الخطط التنموية في محاكاة التحديات الاقتصادية وتوفير الحاضنات المناسبة لتحفيز القطاع الخاص.

9- الحاجة الى اعادة هيكلة المنشئات والمؤسسات الاقتصادية المملوكة للدولة وجعلها اكثر انتاجية وربحية نظرا لما تمثله من عبء مالي على الموازنة العامة للدولة، حيث تكلف هذه المؤسسات الحكومة سنويا قرابة ثلاث مليارات دولار دون تحقيق عائد يذكر.

ان التدهور المستمر في اسعار النفط العالمية وضعف التوقعات حول عودة الاسعار لسابق عهدها يتيح فرصة للسياسة الاقتصادية في العراق لأخذ دورها المأمول في تصحيح الانحراف التنموي الذي صاحب وفرة الموارد النفطية وزاد من عمق الاختلالات الهيكلية وعزز من احادية الاقتصاد الوطني. وينبغي لصناع القرار والمؤسسات الاقتصادية المعنية رسم خارطة طريق تفصيلية ومرنة للتكيف مع الصدمات الاقتصادية المتعددة التي يعاني منها البلد فضلا على توفير آليات فعالة للتنفيذ والرقابة.

وفي السياق العام، تستوعب خطة التنمية الثالثة (2018-2022) معظم التحديات الاقتصادية التي تواجه الاقتصاد العراقي، كالتحدي الامني ومحدودية الموارد المالية والعجز في تمويل المشاريع الاستثمارية وشيوع ظاهرة الفساد الاداري والتحديات المؤسساتية. وقد تم وضع اهداف عامة وواسعة في الإطار العام للخطة منها ترسيخ الحكم الرشيد والشراكة بين القطاع العام والخاص وتوفير بيئة استثمارية ملائمة واصلاح النظام المصرفي وتبني سياسات التنمية المستدامة وحماية البيئة وتامين حقوق الاجيال المقبلة فضلا على التمكين المجتمعي وتكافؤ الفرص.

مع ذلك تجدر الاشارة الى ان امكانية نجاح الخطة التنموية الجديدة في اصلاح وتنويع الاقتصاد العراقي وفك الارتباط بالنفط قائمة على اعتماد الية مناسبة تعالج المشاكل التي رافقت الخطط السابقة وتستوعب اهم جوانب القصور فيها، وخصوصاً المتعلقة بمراحل التنفيذ والرقابة.

* باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2017
www.fcdrs.com

اضف تعليق