تمارس السياسة النقدية العديد من الادوار والمهام الاقتصادية لتحفيز النمو والاستقرار الاقتصادي والمالي والنقدي لأي بلد. وفي العراق حقق البنك المركزي تقدما ملحوظا في توجيه بوصلة السياسة النقدية بعد نفاذ قانون البنك عام 2004 وارساء قواعد الاستقلال النقدي طبقا للمادة 56 من القانون المذكور. حيث نجحت السلطة النقدية في تحقيق الاستقرار النسبي في مستويات الاسعار طيلة السنوات العشر الماضية (بعد صدمة اسعار الوقود عام 2007) الامر الذي ساهم تخفيض تكاليف المعيشة وتحقيق الثبات النسبي في المعدلات الحقيقية للدخول النقدية لكافة الشرائح الاجتماعية ومنها الموظفين بشكل خاص نظرا لثبات دخولهم في الامد القصير. كما ادت سياسات البنك المركزي العراقي الى تأمين مظلة استقرار مالي ونقدي كانت ضرورة لانطلاق الاستثمار واستئناف جهود التنمية والاعمار التي ضمنت في خطط التنمية الوطنية.

مع ذلك، لم تستغل فرصة الاستقرار السعري في البلد بالشكل الملائم، وتدهورت معدلات الاستثمار والتنمية الاقتصادية خلال السنوات الماضية بفعل كوابح الوضع السياسي الهش والاضطراب الامني الداخلي والاقليمي والنزاع المستمر بين المركز واقليم شمالي العراق فضلا على معوقات اخرى اهمها انهيار اسعار النفط وضعف التنسيق والتناغم بين السياسات الاقتصادية الكلية واحادية الاقتصاد الوطني وتغلغل الفساد المالي والاداري والاقتصادي والسياسي في معظم المؤسسات الحكومية وغير الحكومية.

معوقات السياسة النقدية

يمكن ابراز اهم التحديات التي تعيق البنك المركزي العراقي من تنفيذ سياسة نقدية مثلى في إطار نمو اقتصادي واستقرار مالي مستدام بما يلي:

1- احادية الاقتصاد العراقي وسيادة النمط الريعي في توليد الناتج المحلي الاجمالي على حساب انحسار مساهمة القطاعات الاقتصادية الاخرى كالصناعة والزراعة والسياحة، مما يزيد من عمق الاختلالات الهيكلية، ويضاعف من مصاعب السياسة النقدية في تحقيق اهدافها النقدية والمالية والاقتصادية.

2- ضياع وظيفة القطاع المصرفي العراقي كرابط اساس بين وحدات الفائض (الادخار) ووحدات العجز (الاستثمار) لصالح انخراطه في مزاد الدولار وتهريب العملة، مما أضعف من فاعلية تأثير الادوات النقدية في القطاع المصرفي وتوجيه الاموال صوب عمليات التنمية والاستثمار.

3- ضعف الوعي المصرفي للمواطن وسيادة ظواهر نقدية مشوهة كالاكتناز والدولرة والمضاربة على العملة، ساهم بشكل كبير في اضعاف مستويات التطور المالي والمصرفي في البلد مقارنة بمعظم بلدان المنطقة والعالم.

4- انعدام التنسيق والتناغم بين السياسات الاقتصادية، وبالأخص السياسة النقدية والسياسة المالية، نظرا لاختلاف الاتجاهات والرؤى الاقتصادية والمالية. ويلاحظ ان السياسة النقدية كانت أكثر انضباطا وتنظيما في تحقيق اهدافها، في حين لم تحظى السياسة المالية بملامح واضحة ولم تعكس برامج وسياسات اقتصادية محددة بقدر ما كانت مرآة لتدفق الايرادات النفطية وانحسارها.

5- هيمنة المورد النفطي على اتجاهات السياسة النقدية وابتلاع الاستقلال النقدي للبنك المركزي، بالمعنى الفني، نظرا لتحول المعروض النقدي من العملة المحلية الى دالة في الايرادات النفطية الحكومية، بدلا من ان تكون دالة لأهداف السياسة النقدية.

6- جمود عمل الادوات النقدية (سعر اعادة الخصم، عمليات السوق المفتوحة، الاحتياطي القانوني) لصالح اعتماد سعر الصرف كأداة رئيسة في تحقيق الاستقرار السعري. وقد الزم ضعف الجهاز الانتاجي في تلبية احتياجات الجمهور السلعية، والاتكال على الاستيرادات في توفير كافة انواع السلع والمتطلبات الاخرى، البنك المركزي العراقي في تركيزه على تحقيق الاستقرار في سعر الصرف كأداة وحيدة لتأمين استقرار مستويات الاسعار ومكافحة التضخم.

7- حولت طبيعة اقتصاد العراق النفطي البنك المركزي الى متجر للصيرفة عبر توفير الدنانير العراقية للحكومة مقابل حصوله على الدولارات النفطية. في المقابل ألزمت المعادلة النقدية القائمة البنك المركزي العراقي الى ان يكون العارض الوحيد للدولار مقابل العديد من الاطراف الراغبة في اقتناء الدولار كالتجار والافراد وغيرهم. وقد ادى ذلك الى تراكم الاحتياطيات الاجنبية لدى البنك في فترات الانتعاش النفطي، وانحسارها بحدة مع انهيار اسعار النفط.

8- تفاقم عمليات الفساد التي تعتري مزاد بيع العملة الاجنبية وهيمنة مافيات السياسة والمال على جزء كبير من الدولار المباع بالأسعار الرسمية واعادة بيعه في السوق الموازي بأسعار السوق لتحقيق هوامش ربح تصل لقرابة ملايين الدولارات شهريا على حساب تآكل الاحتياطي الدولاري لدى البنك المركزي.

ملامح تصحيح الانحراف

تفصح التحديات السابقة عن طبيعة الكوابح التي تعيق البنك المركزي العراقي في تحقيق السياسة النقدية المثلى، نظرا لاختلال البيئة الاقتصادية في البلد والاعتماد المفرط على النفط في تمويل الموازنة فضلا على انتشار الفساد وغيرها من التحديات الكامنة في بنية الاقتصاد العراقي. مع ذلك، قد تساعد بعض الاجراءات في تفعيل السياسة النقدية ونجاحها في تحقيق اهدافها النقدية والمالية والاقتصادية، لعل اهمها ايجاد قناة للتنسيق والتشاور والتعاون المشترك ما بين السياسة المالية (وزارة المالية) والسياسة النقدية (البنك المركزي) لأجل ابتلاع التضارب في الاتجاهات والمحافظة على عجوزات مالية منخفضة تحد من تمويل البنك المركزي للموازنة العامة (كما حدث عام 2016) من جهة، وتوقف نزيف الاحتياطي الدولاري لدى البنك (الاخذ بالتراجع بسبب تفاقم العجوزات المالية) من جهة اخرى.

من جانب اخر فان ايجاد منفذ جديد لتغذية الطلب على الدولار دون المرور بمزاد العملة الاجنبية سيكون خطوة طويلة صوب القضاء على حيتان الفساد والحفاظ على احتياطي البنك من العملة الاجنبية، كما يمكن لتطوير سوق العراق للأوراق المالية ان يزيد من امتصاص المدخرات والمكتنزات الفردية واعادة ضخها في مشاريع التنمية والاستثمار، فضلا على دور السوق المالي في اعادة الجدوى والفاعلية للأدوات النقدية وتوفير التمويل اللازم للحكومة والشركات.

* باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2017
www.fcdrs.com

اضف تعليق