تناولت هذه المذكرة المقتضبة كلفة النفط لاستدعائها الى وعي المهتمين بالانهيار الأخير للأسعار، ولا شك انها لا تفي متطلبات بحث الموضوع. فالكلفة معقدة من جهة ارتباطها بالجيولوجيا وتكنولوجيا الاستخراج، كما أنها تحدد نتائج تقلبات الأسعار في الإنتاج والاستثمار، وارباح وخسائر الشركات، إضافة على الريع الحكومي...

تناولت هذه المذكرة المقتضبة كلفة النفط لاستدعائها الى وعي المهتمين بالانهيار الأخير للأسعار، ولا شك انها لا تفي متطلبات بحث الموضوع. فالكلفة معقدة من جهة ارتباطها بالجيولوجيا وتكنولوجيا الاستخراج، كما أنها تحدد نتائج تقلبات الأسعار في الإنتاج والاستثمار، وارباح وخسائر الشركات، إضافة على الريع الحكومي. ومن المتوقع أن تقود الصدمة السعرية الأخيرة الى جولة لمراجعة التكاليف قد تطال التعاقدات السابقة في الحفر ومنشآت الآبار والبنى التحتية والتشغيل والنقل، وايضا موجة جديدة في البحث والتطوير التكنولوجي R&D تظهر ثمارها في المستقبل.

مفهوم الكلفة والسعر التعادلي:

تشمل الكلفة الكلية للبرميل الموارد التي وظّفت في عمليات الاستثمار والتشغيل لجميع المراحل: أي كافة ما ينفق رأسماليا من البداية الى النهاية بما في ذلك آبار الاستكشاف والتقييم، ثم حفر الآبار الإنتاج ية وإنشاتها الداخلية والسطحية... ومعدات ومكائن الحقن والفصل والضخ...، وشبكات الأنابيب الحقلية ومتعلقاتها وصولا الى نقاط تجهيز النفط الخام؛ ونفقات التشغيل مثل تعويضات المشتغلين والمستلزمات السلعية والخدمية والصيانة... ونفقات شراء الخدمات الإنتاج ية والتكميلية من شركات متخصصة، وتضاف الرسوم الحكومية عادة الى النفقات التشغيلية.

بينما يتضمن التعريف الاقتصادي للكلفة العائد الاعتيادي على رأس المال ويستبعد الرسوم الحكومية. وتعتمد بيانات التكاليف المستخدمة لأعداد العلاقات المعروضة في الشكل رقم (1) التعريف المحاسبي آنفا لعدم توفر بيانات بالتعريف الاقتصادي. والبيانات المتاحة ليست دقيقة تماما للمقارنة إذ تختلف الشركات والدول في وجود او عدم وجود الرسوم الحكومية وأيضا مدفوعات الفائدة، ويتعذر الحذف والتوحيد لأن التكاليف المتاحة بياناتها ليست دائما مفصّلة إذ تقتصر لعدد من الدول على تقسيمها الى رأسمالية وتشغيلية. والتكاليف موضوع البحث هي متوسطات على نطاق الدولة وتُعَد وتنشر في أوقات متباينة ومن جهات عدة ولذا تختلف، بهذا القدر أو ذاك، من مصدر لآخر. ومع ذلك لا تؤثر هذه الفروقات كثيرا في التعرّف على نمط العلاقة بين الكلفة والإنتاج. والقصد من هذا الإيضاح أهمية التحفظ وعدم الجزم في التعامل مع التقديرات المنشورة في المصادر الثانوية.

أما السعر التعادلي Break-Even Price للنفط فهو السعر الذي يساوي الكلفة الكلية للبرميل في البئر الحدي وهو البئر الأخير المُجزي أو الممكن ماليا للمستثمر في العالم. والسعر التعادلي هو السعر التوازني Equilibrium Price عندما تعرّف الكلفة اقتصاديا أي تحتوي عوائد جميع العناصر المشتركة في الإنتاج. ويحدد السعر التعادلي، بهذا المعنى، الاستثمار الذي ينحسر عن التراكيب الجيولوجية والبيئات الاقتصادية حيثما تتجاوز الكلفة الكلية المقدرة سعر النفط المتوقع، وقرار الاستثمار يعني الإنتاج في الأمد البعيد. أما السعر التعادلي في الأمد القصير فهو الذي يعين الإنتاج من عدمه في حقول الآبار المنتجة ويكون بالمقدار الذي يغطي النفقات التشغيلية، لأن النفقات الرأسمالية قد تكبّدها المستثمر في الماضي ولا يساعد إيقاف الإنتاج في استعادتها او خفضها.

وأحيانا تهتم الشركات بالنفقات التشغيلية المتغيرة أي المرتبطة بحجم الاستخراج عند النظر في برامج الإنتاج، لأن بعض النفقات التشغيلية بطيئة التغير اولا يمكن التخلص منها بإيقاف الإنتاج، فورا، نتيجة لالتزامات أو تعاقدات سابقة. ولذا نجد ان سعر النفط أواخر آذار عام 2020 هو دون الكلفة الكلية لبرميل النفط لحوالي نصف الإنتاج العالمي ومع ذلك يستمر الاستخراج. لأن قرار الإنتاج، في مثل هذه الأحوال، يستهدف استدناء الخسائر وليس تعظيم الأرباح.

وتتغير الأسعار المتوقعة للانسجام مع الأسعار الجارية دائما، ولذلك تعزف الشركات والحكومات عن تجديد الاستثمار في الحقول حيث تتجاوز الكلفة الكلية للبرميل السعر المتوقع، وتتجه الاستثمارات الى المناطق ذات التكاليف الأدنى. وفي نفس الوقت يجري البحث حثيثا عن تكنولوجيات بديلة وترتيبات تنظيمية مغايرة لخفض التكاليف؛ وايضا تظهر الشحة، فائض الطلب، في السوق، وتتفاعل جميع هذه العوامل لتعديل الأسعار والتكاليف والعرض والطلب. والمهم ان الأسعار الحالية، بداية نيسان، 2020 لا تتوفر لها أدنى مقومات الاستمرار، إذ لا يمكن لقطاع النفط في العالم إنتاج 100 مليون برميل في اليوم دون اسعار تتجاوز 50 دولار للبرميل وعلى أمل صعودها فوق 60 أو 65 دولار.

والآن من المفيد الانتباه الى تعريف الريع النفطي بأنه الفرق بين السعر والكلفة الاقتصادية للبرميل التي تتضمن العوائد على رأس المال. والريع بمفهومه هذا يتغير، فهو صفر في البئر الحدي ويزيد على 45 دولار للبرميل في بعض دول الشرق الأوسط عند سعر 55 دولار لبرميل النفط. ولا يكون الريع دائما للحكومة وحدها، بل ان الشركات التي تتقاضى أكثر من العائد الاعتيادي على رأسمالها المستثمر تقتطع جزءا منه.

وما دام السعر، في الأمد البعيد، يتحرك منسجما مع الكلفة الكلية للبرميل في البئر الحدي على مستوى العالم فالريع، تبعا لذلك هو الفرق بين الكلفة الكلية للبرميل في البئر الحدي والكلفة الكلية للبرميل في حقل معين لبلد ما. ولذلك كلما توغّل الإنتاج النفطي في تراكيب جيولوجية ذات تكاليف أعلى في العالم إزداد الريع النفطي في الدول واطئة التكاليف ومنها العراق والسعودية والكويت.

ويوضح الشكل رقم (1) تلك الحقائق فقد أعد من بيانات التكاليف لعشرين دولة تنتج 73.6% من نفط العالم. ولذا يمكن النظر اليها بصفتها تمثل الطيف العالمي للتكاليف. وقد رتبت الدول تصاعديا حسب الكلفة الكلية للبرميل ومراكمة انتاجها تباعا ومجموعه يمثل كل انتاج العالم، حسب الفرض، 100%. والمحور الأفقي هو الإنتاج العالمي تصاعديا وعلى المحور العمودي بقية المتغيرات وهي التكاليف والفوائض والسعر. والنمط المعروض مرتسم لمعادلات الانحدار بين كل من المتغيرات والإنتاج العالمي للنفط.

ولدراسة النمط الذي يعرضه الشكل نبين أن: الكلفة الكلية للبرميل tc، يمثلها المنحنى الصاعد الأعلى، تتزايد مع تزايد حجم الإنتاج العالمي للنفط وتكون في نطاق 50 دولار في البئر الحدي، والسعر السائد هو خط أفقي يوازي حجم الإنتاج، وتعين نقطة تقاطع السعر مع منحنى التكاليف حجم الإنتاج المسموح به في العالم عند ذلك السعر. والمنحنى الصاعد الأسفل يمثل الكلفة المتغيرة oex وتتجاوز 25 دولار في التخوم.

اما الفوائض فقد جرى حسابها على فرض سعر البرميل 55 دولار وهي: المنحنى النازل الأعلى فهو فائض العمليات الجارية OSU لبرميل النفط والذي يغطي النفقات الرأسمالية والعائد على راس المال والريع. والمنحنى النازل الأسفل su يعادل العائد على راس المال والريع. والسعر 55 دولار قريب من السعر التعادلي في البئر الحدي المنتج في العالم. ونلاحظ الخط الأفقي 25 دولار كيف يتجاوزه منحنى التكاليف الكلية للبرميل دون 60% من إنتاج النفط العالمي، بل وتتجاوزه التكاليف التشغيلية في الطرف القصي من اليمين. إن منحنى التكاليف الكلية للبرميل محسوب من البيانات المذكورة آنفا ولو أضيف العائد الضروري على رأس المال يرتفع المنحنى tc الى الأعلى ويتقاطع مع خط السعر 25 دولار الى اليسار من نقطة تقاطعه الحالية بمعنى ان جزءا أكبر من الإنتاج النفطي في العالم يدخل نطاق الخسارة.

الشكل رقم (1) كلفة برميل النفط بالدولار والفائض إزاء المتجمع الصاعد للإنتاج النفطي في العالم

خسائر انخفاض الأسعار:

كما سلف ان الخسائر المقدرة مع مستويات الأسعار الحالية ومتوسطها 25 دولار للبرميل اعتمدت التعريف المحاسبي للكلفة ولو أضيف العائد على راس المال تظهر على نحو أكبر. ويعبر عنها حسب دول العينة الشكل رقم (2). اما في الدول ذات الإنتاج النفطي الذي لا زال مربحا فقد انخفض فيها الريع الى حد الأزمة لبعضها. والريع النفطي للدول المصدرة هو نقد أجنبي إضافة على تمويل الأنفاق الحكومي ما يعرّضها الى عجز مزدوج. ومن الخطأ الفادح تهويل مخاطر انخفاض الأسعار، أذ من غير الممكن استمرارها لمدة لا تستطيع معها الحكومات تدارك تبعاته.

كما ان المشكلة، على الأقل هذه المرة، لا تخص الدول المصدرة للنفط والمعتمدة على موارده بل تطال دولا أخرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وغيرها إذ تعاني الشركات النفطية هناك خسائر ضخمة.

وتواجه صعوبات في الاقتراض واسعار أسهمهما تتدهور فلا تستطيع الاستمرار في الإنتاج مع هذه الأسعار ويصعب عليها التوقف أيضا.

الشكل رقم (2) الخسائر والأرباح عند السعر المنخفض 25 دولار للبرميل

ولو ارتفع سعر النفط الى 55 دولار او نحو ذلك، واقعيا، تختفي الخسائر وتتفاوت الدول، آنذاك، في الريع. وينتعش الاستثمار في النفوط غير التقليدية إذا تجاوز سعر النفط 65 دولار للبرميل، وتبقى مع ذلك مخزونات نفطية ليست اقتصادية لأن الكلفة الكلية للبرميل تتخطى 90 دولارا.

ملاحظة حول النفط الصخري واستقرار قطاع النفط:

ازداد إنتاج النفط والغاز في الولايات المتحدة الأمريكية بنسبة 84% عام 2020 عما كان عليه عام 2012. و20% بين عامي 2006، حيث وصل أدنى مستوياته، وعام 2012. وكانت نقطة التحول في التوجه الحاسم عام 2005 في اعتماد استراتيجية لخفض الاعتماد على الخارج في الطاقة. وتتجه السياسة هناك للتوقف عن استيراد النفط كليا نهاية العقد الحالي والاكتفاء الذاتي من مجموع الطاقة قبل ذلك. والنفط، والغاز، الصخري، خلف قصة النجاح تلك. ومما له علاقة اصبحت اسعار النفط التعادلية ذات أهمية كبيرة للولايات المتحدة. لكن المسألة لا تنحصر في النفط الصخري والأسعار إنما التكنولوجيا في غاية الأهمية. النفط الصخري مثال واقعي يبين ان مفهوم الاحتياطيات النفطية اقتصاديا، لأن النفط في المكان يكون احتياطيات، او لا يكون، تبعا للأسعار والتكاليف وللتكنولوجيا الدور الكبير في الأخيرة.

النفط الصخري Shale Oil أبرز ما يصطلح عليه النفط غير التقليدي ويعتمد استخراجه على الحفر الأفقي، بعد مسافة عمودية، والتكسير، التثقيب، الهيدروليكي، Hydraulic fracturing. الحفر العمودي يتعمّق لإلاف الأقدام ثم آلاف أخرى أفقيا، بزاوية 90 درجة مع الحفر العمودي، وتستخدم التكنولوجيا الهيدروليكية لرشق الصخور وتثقيبها لاستدرار النفط ثم رفعه الى سطح البئر. يتطلب إنتاج النفط الصخري كميات هائلة من الماء، ممزوجة بمواد كيمياوية لبقاء الثقوب مفتوحة، وهذه من اسباب التحفظ على التوسع في إنتاجه، لأن كثرة استخدام المياه، مع مواد أخرى، في إنتاج النفط الخام تتضمن إضرارا بيئية لا يستهان بها. وإضافة على تعقيدات الحفر والتكنولوجيا الهيدروليكية تضاف تكاليف إيصال المياه الى البئر وسحبها.

كلفة برميل النفط الصخري تتراوح بين أقل من 40 دولار الى أكثر من 90 دولار. وعندما يتجاوز سعر النفط 55 دولار وإلى 65 دولار فإن الكثير من احتياطيات النفوط الصخرية في الولايات المتحدة الأمريكية تصبح اقتصادية وينشط الاستثمار لاستخراج المزيد منها. بينما كلفة النفط التقليدي تبدأ من مستويات واطئة دون 10 دولار للبرميل في الشرق الأوسط، وتصل الى 40 دولار أو أكثر في العالم. وتتخطى كلفة البرميل في بعض النفوط التقليدية، البحرية، 50 دولار للبرميل من المنتجة فعلا، ومنها في بريطانيا على سبيل المثال.

يسمى النفط الصخري احيانا المحصور Tight Oil ولذلك فإن عملية التثقيب او التخريم ضرورية لاستخراجه. وهو يختلف عن الصخر النفطي Oil shale الذي يوصف بالصلابة ويحتاج الى تسخين لتسييله، وتكاليف انتاجه عالية كثيرا لا تسمح بها مديات الأسعار الحالية.

العمر الإنتاجي لبئر النفط الصخري قصير، ولذا يوصف الاستثمار في هذه النفوط بالحساسية العالية للتغيرات في أسعار النفط. فمن المتوقع توقف الاستثمار عندما يقترب سعر النفط من 50 دولار نزولا، وينشط عند ارتفاع السعر ويتواصل مع توقع بقائه فوق مستويات التعادل مع الكلفة المتضمنة لمعدل العائد الكافي على راس المال. وبعد ان أصبحت الولايات المتحدة المنتج الأكبر للنفط في العالم وفي نفس الوقت بتكاليف عالية لذا من المتوقع أن تستدرج للتوافق مع كبار المنتجين على سياسات للحفاظ على مستويات مرضية للأسعار.

لكن، أيضأ، من الخطأ تصور ان اسعار النفط لها أولوية في الولايات المتحدة مثلما هي في روسيا او المملكة السعودية. فالاقتصاد الأمريكي الذي اعتاد على تحمل عجز في ميزان المدفوعات الخارجية الجارية يقارب 800 مليار دولار أقدر على التعايش مع صدمات سعرية تضع اقتصاد الدول الأخرى في محنة. وروسيا انجزت تاريخيا تنويع اقتصادها ولو انها لم تزل ضمن الدول الناهضة بمعيار متوسط الناتج المحلي للفرد؛ واعتادت على تغير أسعار الصرف بمديات واسعة تمكنها من المناورة. والمملكة السعودية لديها احتياطيات كبيرة نسبيا بالنقد الأجنبي من فوائض سابقة في ميزان مدفوعاتها الخارجية وتستطيع إدامة الأنفاق الحكومي بعجز لمدة كافية.

ومن المتوقع ان يفضي الحوار او التفاوض بين الأطراف الثلاثة الى تسوية تعيد الاستقرار الى قطاع النفط عبر توزيع مناسب لأعباء تنظيم الإنتاج. فالمباراة Game بينهم ليست صفرية في جوهرها لأن الهدف المشترك هو الأسعار المناسبة. فهب ان الأسعار المتدنية أخرجت الإنتاج عالي التكاليف، ومنه النفط الصخري، من الساحة فإن هذا الخروج مؤقت. والنفط الصخري سرعان ما يعود بعد ارتفاع الأسعار لأن المدة بين بداية الاستثمار والإنتاج الفعلي قصيرة في ميدانه وهذه من مزايا التكنولوجيا الأحدث وتعدد المنتجين هناك.

إن انتشار انتاج النفط في العالم على مدى واسع من التكاليف هو علة الريع النفطي لدول الشرق الأوسط، كما تبين، لأن السعر التعادلي في نهاية المطاف هو الكلفة الكلية للبرميل في البئر الحدي. وتضييق دائرة الإنتاج نحو النفوط واطئة التكاليف يعني خفض الريع الذي يقوم عليه اقتصاد هذه الدول.

* مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2020
www.fcdrs.com

اضف تعليق