الدور الذي اضطلعت به الشركات الكبرى في توفير الرعاية الاجتماعية لموظفيها لم يعوض عنه أحد بعد تراجعها. الأسوأ من ذلك أن قانون تافت-هارتلي لعام 1947 فتح الباب أمام قوانين "الحق في العمل" على مستوى الدولة والتي أثبتت فعاليتها العالية في تقليص العضوية في النقابات في القطاع الخاص...
بقلم: ويليام جانواي

كمبريدج ــ في كتابه الجديد "المسيرة المتخاذلة نحو المدينة الفاضلة"، يشير الخبير الاقتصادي جيه. برادفورد ديلونج إلى أن "مختبرات البحوث الصناعية والمؤسسة التجارية الحديثة" كانت المفتاح إلى إطلاق العنان لزيادة جذرية في معدل الإبداع العملي والتكنولوجي، وبالتالي النمو الاقتصادي، بداية من عام 1870 فصاعدا. وهو محق في ذلك. كما اعـتَـبَـر ديلونج معاهدة ديترويت، وهي التسوية البارزة في عام 1950 بين شركة جنرال موتورز ونقابة "عمال السيارات المتحدون"، ركيزة أساسية للديمقراطية الاجتماعية على النمط الأميركي خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. ولكن ماذا حدث للشركات العملاقة التي فتحت الباب لعقود من الزمن من النمو في حين عملت على رعاية التأمين الصحي ومعاشات التقاعد لموظفيها؟

مع حلول الاكتشاف العلمي محل أعمال السمكرة الميكانيكية كأساس للإبداع الحقيقي في أواخر القرن التاسع عشر، كانت الشركات التي تولدت عن الثورة الصناعية الثانية (الصلب، والسكك الحديدية، والإنتاج الضخم) هي التي وفرت التمويل اللازم للبحوث. كتب ديفيد مويري وناثان روزنبرج في كتابهما المشترك بعنوان "التكنولوجيا والسعي وراء النمو الاقتصادي"، "في شركات مثل شركة التليفون والتلغراف الأميركية، أو جنرال إلكتريك، أو الأميركية للصلب، أو DuPont، كان تطوير مكتب مركزي قوي مرتبطا بشكل وثيق بتأسيس منشآت بحثية مركزية أو توسعها بشكل كبير".

من خلال تخصيص أرباحها الاحتكارية للبحث العلمي وتطوير التطبيقات التكنولوجية، وسعت هذه الشركات قوتها السوقية في حين خدمت أيضا غرضا اجتماعيا أكبر. قبل الحرب العالمية الثانية، لم يتحقق هذا الغرض بواسطة الحكومة الأميركية، التي بدءا من إدارة لينكولن لم تقدم الدعم الفيدرالي إلا للأبحاث في قطاع الزراعة. بحلول عام 1940، كانت الحكومة الأميركية تخصص قدرا من التمويل للبحوث الزراعية أكبر من كل ما تخصصه الهيئات التأسيسية التي شكلت وزارة الدفاع بعد الحرب.

سواء كانت تدين بمراكزها لاتفاقيات مع الحكومة الفيدرالية (شركة AT&T)، أو احتكارات براءات الاختراع (RCA وXerox)، أو خليط من البحوث المبدعة والهيمنة التجارية (DuPont وIBM)، كان بوسع مختبرات الأبحاث الرائدة أن تتحمل تكاليف الاستثمار في المنبع في العلوم الأساسية التي قد تنشأ منها الإبداعات التكنولوجية ذات الأهمية التجارية.

ثم اندلعت الحرب العالمية الثانية، فانخفض معدل البطالة إلى 1%، واضطر كبار أرباب الأعمال في الولايات المتحدة، الذين قيدتهم ضوابط الأجور، إلى التنافس بشراسة على العمالة. وبفضل التسوية العملية مع الحكومة، سُـمِـح لهم بتقديم مزايا هامشية، مثل التأمين الصحي ومعاشات التقاعد ذات المزايا المحددة. كان هذا في حكم الممكن بفضل المعاملة الضريبية غير المتماثلة لهذه المزايا: إذ كان بوسع أرباب العمل خصم التكاليف، ولم يكن لزاما على الموظفين إدراجها كدخل.

كانت معاهدة ديترويت بمثابة تصديق في وقت السِـلم على التسوية وإشارة عريضة إلى القطاع الخاص، حيث بلغت عضوية النقابات ذروتها في خمسينيات القرن العرشين عند نحو ثلث القوة العاملة. وقد وسعت بشكل جذري الدور الذي اضطلعت به الشركات المهيمنة في المجتمعات التي كانت تتخذها مقرا لها ــ كان ذلك هو العصر الذي سبق هيمنة أولوية المساهمين على فِـكـر إدارة الشركات.

لكن في غضون جيل واحد، خضعت الأرباح الاحتكارية المتاحة لتمويل مشاريع البحث والتطوير والمنافع الاجتماعية لضغوط متنامية. واستسلمت شركات التكنولوجيا العظيمة من حقبة الحرب العالمية الثانية الواحدة تلو الأخر لقوى التدمير الـخَـلّاق التي تحدث عنها شومبتر فضلا عن فرض قوانين مكافحة الاحتكار الفيدرالية.

كانت شركات مثل AT&T وIBM من الأهداف المتكررة لقسم مكافحة الاحتكار في وزارة العدل؛ لكن من المهم أن نشير هنا إلى أن كل حالة من حالات تدخل الدولة أثبتت كونها مفيدة بشكل مباشر للمشروع الأوسع للإبداع الأميركي. في مرسوم الموافقة لعام 1956، وافقت شركة AT&T على ترخيص كل براءات اختراعاتها التي لم تكن مرتبطة بشكل مباشر بالاتصالات مجانا. وفي استجابة وقائية للهجوم الثالث من جانب وزارة العدل، في عام 1969، قررت شركة IBM "فصل" البرمجيات عن أجهزة الكمبيوتر التي تنتجها، فسمح هذا بخلق صناعة البرمجيات المستقلة.

فشلت شركات عملاقة أخرى من تلقاء ذاتها. فقد دُهِـسَـت شركة الأميركية للصلب من قِـبَـل مجموعة من المنتجين الأجانب الأكثر كفاءة فضلا عن ظهور "المصانع الصغيرة" المحلية التي ازدهرت على الخردة المعدنية. ووقعت شركة RCA وشركة Westinghouse ضحية للهندسة المالية القصيرة النظر التي استعاضت عن القدرة الفنية الاستراتيجية بإشباع سوق البورصة اللحظي في زمن هوس التكتلات في ثمانينيات القرن العشرين. انتهت صلاحية براءات الاختراع الرئيسية لشركة DuPont، وانحدرت إنتاجية استثماراتها في مشاريع البحث والتطوير في مواجهة المنافسة الدولية الشرسة.

حتى مع انسحاب شركات القطاع الخاص الكبرى في القرن العشرين من الحدود العلمية والتكنولوجية، عوضت عن غيابها وزيادة الحكومة الفيدرالية الأميركية، التي أصبحت الممول الرئيسي لمشاريع البحث والتطوير. ومع امتداد جذورها إلى مكتب البحث العلمي والتطوير من زمن الحرب العالمية الثانية، عملت وزارة الدفاع على تمويل التطوير عبر جميع التكنولوجيات التي شكلت في مجموعها الثورة الرقمية ــ من وادي السليكون إلى البرمجيات. وبغرض استغلال الفرص التجارية التي أتاحتها المنتجات النهائية، نشأت صناعة رأس المال الاستثماري المحترف، أولا لتمويل الإبداع الرقمي، ثم لإطلاق الشركات البادئة في مجال التكنولوجيا الحيوية بعد "الحرب على السرطان" التي شنها الرئيس ريتشارد نيكسون.

لكن الدور الذي اضطلعت به الشركات الكبرى في توفير الرعاية الاجتماعية لموظفيها لم يعوض عنه أحد بعد تراجعها. الأسوأ من ذلك أن قانون تافت-هارتلي لعام 1947 فتح الباب أمام قوانين "الحق في العمل" على مستوى الدولة والتي أثبتت فعاليتها العالية في تقليص العضوية في النقابات في القطاع الخاص على مدار عقود ما بعد الحرب.

بحلول ذلك الوقت، بعد هزيمة الجهود التي بذلها الرئيس هاري ترومان في عام 1949 لتأسيس الرعاية الصحية الشاملة باعتبارها استحقاقا فيدراليا، كان إقرار الرئيس ليندون جونسون لبرنامجي Medicare (التأمين الطبي لكبار السن) و Medicaid (التأمين الطبي للفقراء) بمثابة حدود الرعاية الصحية العامة المكتسبة في أميركا. بالتوازي مع ذلك، أدى تحول جهازي من المزايا المحددة إلى المساهمات المحددة في معاشات التقاعد إلى نقل عبء مخاطر الاستثمار من صاحب العمل إلى الموظف. اليوم، نستطيع أن نقول إن الشركات الكبرى التي حفزت الإبداع ورعت الرفاهة الاجتماعية جاءت ورحلت، لكن قوة السوق تظل قائمة ومؤثرة، مما يثير التساؤل حول المكان الذي تذهب إليه هذه الأرباح الاحتكارية.

أثناء الحقبة النيوليبرالية التي بلغت منتهاها الآن، نشأ هدف جديد للفرصة لتوظيف التدفق النقدي الفائض في هيئة عمليات إعادة شراء أسهم الشركات. في السابق، كانت الهيئات التنظيمية تحظر هذه الممارسة باعتبارها شكلا من أشكال التلاعب بالسوق. لكن لجنة الأوراق المالية والبورصات غيرت القاعدة في عام 1982. الآن نجد أن أكثر من 60% من الشركات الأميركية تعيد شراء أسهمها كل عام، وتتجاوز المبالغ السنوية لهذه المشتريات عادة مدفوعات الأرباح النقدية (وهو أمر غير مستغرب، وخاصة في ضوء المعاملة الأكثر تفضيلية الممنوحة لمكاسب رأس المال).

تزامن صعود النظام النيوليبرالي، الذي جرى توثيقه وتحليله بغزارة في كتاب حديث من تأليف جاري جيرستل من جامعة كمبريدج، مع زوال المؤسسة التجارية النافعة اجتماعيا. اليوم أصبحت شركات التكنولوجيا الرقيمة العملاقة غير متحمسة وغير مجهزة للاضطلاع بهذا الدور، وهذا أحد الأسباب وراء كفاحها لنيل الشرعية. بالنظر إلى المستقبل، أستطيع أن أتنبأ بأن الاستثمار المعزز في الدينامية التكنولوجية والرفاهة الاجتماعية، تحت الضغوط التي يفرضها تغير المناخ، ستأتي في الأغلب الأعم من القطاع العام، إن وُجِـد. تُـرى هل يتمكن قانون الشرائح والعلوم الأميركي وقانون خفض التضخم من إطلاق العنان لعصر جديد من الإبداع؟ بوسعنا أن نأمل ذلك، لكن الأمل ليس فِـعلا مبنيا لمعلوم.

* ويليام جانواي، شريك محدود خاص في شركة الأسهم الخاصة واربورغ بينكوس، هو محاضر منتسب في الاقتصاد في جامعة كامبريدج ومؤلف كتاب "القيام بالرأسمالية في اقتصاد الابتكار"
https://www.project-syndicate.org

اضف تعليق