q
الآن بعد أن سقطت النيوليبرالية من عليائها، ينبغي لنا أن نتذكر توكيدها ذات يوم على الحوكمة الاقتصادية وفقا لقواعد واضحة يمكن التنبؤ بها وقابلة للتطبيق، والتي بدونها ستكون نوبات عدم اليقين والذعر المحتمل حاضرة دائما. علاوة على ذلك، في عالم تغيب عنه القواعد، يفوز القوي دائما على حساب الضعيف...
بقلم: هارولد جيمس

برينستون ــ كانت أزمة مصرفية صغيرة الحجم نسبيا كافية لإثبات هشاشة التعددية اليوم. لقد قَـلَـبَ فشل البنوك في الولايات المتحدة وأوروبا التوقعات، لأن الحكومات لم تتظاهر حتى بأنها تتبع أي كتاب قواعد مشترك في التعامل مع التداعيات. ورغم أن النظام المصرفي العالمي في حال أفضل مما كان عليه قبل الأزمة المالية العالمية التي اندلعت عام 2008، فإن الآليات التي تأسست على مدار السنوات الخمس عشرة الأخيرة للتعامل مع الإجهاد المالي أثبتت كونها غير كافية.

تنطوي الأزمة الأخيرة على تداعيات أوسع انتشارا تؤثر على الكيفية التي يستطيع العالم ــ وينبغي له ــ من خلالها التصدي للمشكلات الجماعية. لقد واجهت التعددية أوقاتا عصيبة بالفعل. ورغم إصرار قادة العالم على نحو متكرر بعد أزمة 2008 على وجوب عدم العودة إلى سياسات الحماية، فقد أصبحت منظمة التجارة العالمية عاجزة، وغير قادرة على إبرام اتفاقيات جديدة أو حتى الفصل في المنازعات على أساس الاتفاقيات القائمة. وقد تبنت كل الاقتصادات الكبرى ــ الولايات المتحدة، والصين، والاتحاد الأوروبي ــ أشكالا متباينة من تدابير الحماية.

يمكننا فهم هذا الاتجاه على أنه مزيد من الحماية المالية والتدابير الحكومية التعسفية. كان الدرس الحاسم المستفاد من أزمة 2008 هو أن الأجهزة التنظيمية المفتتة لا تخلو من مشاكل معقدة، وأن القواعد الواضحة مطلوبة في حال حدوث صدمة فجائية أو انهيار. لكن التعامل مع فشل بنك سيليكون فالي أدير جزئيا من قِـبَـل بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي وجزئيا من جانب جهة تنظيمية تابعة لولاية كاليفورنيا، والتي اتخذت قرار إغلاق البنك في منتصف يوم تداول، مما أدى إلى تهافت المودعين على نطاق أوسع كثيرا لاسترداد ودائعهم من البنوك الأصغر حجما.

بعد عطلة نهاية أسوبع عامرة بالفوضى، نسقت وزارة الخزانة الأميركية إعلانا يضمن كل الودائع في بنك سيليكون فالي، وليس فقط الودائع الـمؤمَّـنة بحد أقصى 250 ألف دولار. لكن هذه الاستجابة سرعان ما أثارت مزيدا من التساؤلات. فهل كانت السلطات المالية الأميركية في حقيقة الأمر تضمن كل الودائع في البنوك الأميركية؟ قالت وزارة الخزانة "كلا"، لكنها كانت تريد أن يفسر المودعون استجابتها على أنها تعني "أجل".

يتمثل درس آخر مستفاد من أزمة 2008 في أن المؤسسات المالية ذات الأهمية الجهازية يجب أن تخضع لآليات حل جيدة الإعداد. لكن جولات لا تنتهي من المناقشات والمفاوضات التنظيمية أثبتت كونها بعيدة تماما عن الموضوع عندما جرى اختبار النظام الجديد أخيرا. جاءت لحظة الحقيقة عندما رفض البنك السعودي الوطني، وهو المستثمر الأكبر في كريدي سويس، تزويده بأي قدر إضافي من السيولة. في مواجهة الحاجة إلى التحرك بسرعة، ابتكرت الهيئة القائمة على التنظيم في سويسرا، الحكومة السويسرية، والبنك المركزي السويسري استجابة خاصة، بتنظيم صفقة شراء مثيرة للجدال من قِـبَـل UBS. وظلت كل الخطط التي جرى التفاوض عليها دوليا حبيسة الأدراج.

على الرغم من سداد مستحقات المساهمين في كريدي سويس في هيئة أسهم في UBS، فقد سُـحِـق حاملو السندات الإضافية من الدرجة الأولى (Additional Tier One) بقيمة 17 مليار دولار. في نظر العديد من المراقبين ــ ناهيك عن أولئك الذين يحملون السندات الإضافية من الدرجة الأولى ــ بدا هذا وكأنه انتهاك صادم للفهم الضمني للتسلسل الهرمي للمطالبات. ومع ذلك، كان القرار قابلا للدفاع عنه تماما، نظرا للطباعة الدقيقة لعقود السندات، والحاجة إلى تمكين المنظمين السويسريين من تحديد شروط إعادة الهيكلة.

أينما ننظر في الأزمة الحالية، نجد حكومات تصر على عدم وجود أي تهديد جهازي شامل، حتى عندما تعيد تحديد استجابتها بما يتماشى مع ما يشكل تهديدا جهازيا واضحا. الواقع أن هذا التناقض، إلى جانب الاستجابة المتغيرة على نحو مستمر، أصبح مصدرا رئيسيا لعدم اليقين. فكل شيء ــ سلامة الودائع المصرفية، وأقدمية مطالبات الائتمان، واحتمال التهافت المودعين على البنوك لاسترداد ودائعهم ــ يبدو غارقا في ضباب كثيف.

الآن بعد أن سقطت "النيوليبرالية" من عليائها، ينبغي لنا أن نتذكر توكيدها ذات يوم على الحوكمة الاقتصادية وفقا لقواعد واضحة يمكن التنبؤ بها وقابلة للتطبيق في عموم الأمر، والتي بدونها ستكون نوبات عدم اليقين والذعر المحتمل حاضرة دائما. علاوة على ذلك، في عالم تغيب عنه القواعد، يفوز القوي دائما على حساب الضعيف.

لنتذكر هنا عمليات الإنقاذ في عام 2008. بين أمور أخرى، أظهرت تلك العمليات أن البلدان الضخمة مثل الولايات المتحدة (أو الصين) يمكنها دوما أن تتدخل لإنقاذ أنظمتها المصرفية، في حين لا تملك البلدان الأصغر حجما مثل هذا الخيار. وفي حين استوعبت أيسلندا وأيرلندا هذا الدرس، فإن سويسرا لا تزال في مرحلة الخطر. بعد نجاتها بالكاد من الانهيار بإنشاء بنك خارق جديد يملك أصولا تعادل ضعف حجم الناتج المحلي الإجمالي السويسري، تخلق سويسرا خطرا جهازيا آخر أكثر شمولا.

إن السماح لبعض البلدان باتباع قواعد مختلفة عن غيرها يمثل تهديدا عميقا للتعددية. في أعقاب جائحة كارثية والحرب التي تشنها روسيا ضد أوكرانيا ــ بكل ما تنطوي عليه من تأثيرات عالمية سلبية ــ هل يوجد أي بديل للمفاوضات الدولية الـمُـرهِـقة سعيا وراء أطر وقواعد مشتركة؟

تُـعَـد الاستجابة لتغير المناخ من المجالات التي يمكن فيها تحسين النهج المعياري المتعدد الأطراف. لسنوات عديدة، عمل أهل الاقتصاد وصناع السياسات على ابتكار آليات لتسعير الكربون أو مقايضة الانبعاثات، وسعى الأوروبيون إلى قيادة الطريق من خلال تطوير أسواق كربون محلية. لكن الولايات المتحدة تخلت فعليا عن هذا النهج باستنان قانون خفض التضخم عام 2022. وبدلا من التفاوض مع أي حكومة أخرى، اختارت ببساطة تنفيذ برنامج استثماري ضخم لدعم الإنتاج المحلي والطاقة المتجددة.

على الرغم من شجب قانون خفض التضخم باعتباره من سياسات الحماية، فإنه كفيل بخفض تكاليف إنتاج الطاقة غير الكربونية بشكل جذري ــ في الولايات المتحدة وعلى مستوى العالم. في كل الأحوال، يجب أن يكون الوقود غير الكربوني أرخص من الوقود الكربوني إذا كانت الإشارة السعرية لتقود الانتقال إلى اقتصاد الصِـفر الصافي. إذا تعذر تحقيق هذه النتيجة عن طريق التفاوض على فرض رسوم أو ضرائب على الانبعاثات، فسيظل من الممكن تحقيق التقدم من خلال تقليص تكاليف الوقود المنافس.

مع ذلك، ليس من الواضح ما إذا كان السباق المفيد إلى القمة أفضل من التعددية التقليدية. تقود حالة انعدام اليقين والإشارات غير الواضحة إلى سلوك هَـدّام، لأنها توجه الجميع نحو الأمد القريب وتنثر بذور خيبة الأمل والإحباط. لا شك أن الاستراتيجيات الفَـعّالة الأطول أمدا تتطلب القدرة على التنبؤ والشفافية بناء على قواعد بسيطة واضحة. والنظام القائم على القواعد الذي يحتاج إلى إعادة اختراعه على نحو مستمر هو في النهاية نظام غير مستدام. هل من الممكن جعل العمل المصرفي أقل تعقيدا، وأقل عُـرضة لنوبات التهافت على البنوك لاسترداد الودائع، وأقل احتياجا إلى تعديلات تنظيمية مستمرة؟ الإجابة على هذا التساؤل ستكون اختبارا للحوكمة عبر عدد كبير من القضايا بخلاف العمل المصرفي.

* هارولد جيمس، أستاذ التاريخ والشؤون الدولية بجامعة برينستون، وهو زميل أقدم في مركز الابتكار الدولي للحكم ومتخصص في التاريخ الاقتصادي الألماني والعولمة، ومؤلف مشارك لكتاب: اليورو ومعركة الأفكار ومؤلف كتاب إنشاء وتدمير القيمة: دورة العولمة
https://www.project-syndicate.org

اضف تعليق