q
إن التدخل المباشر في أنشطة أو قطاعات اقتصادية معينة ينطوي على تكاليف باهظة ويشوه النشاط الاقتصادي، ويرفع الأسعار، ويقلل النمو كما أن بعض التدخلات، مثل إعانات الدعم، يمكن أن تكون خطيرة وذلك لأسباب ليس أقلها انها قد تشير إلى المحسوبية بل وحتى الفساد الصريح. ومع التغير التكنولوجي السريع...
بقلم: آن أو. كروجر

واشنطن، العاصمة ــ يُقال إنك إذا وضعت ضفدعاً في ماء مغلي، فإنه يقفز خارج الماء على الفور ولكن إذا وضعته في ماء بارد وقمت برفع درجة الحرارة تدريجياً، فإنه لا يستجيب وفي نهاية المطاف يغلي حتى الموت علمًا أنه من الممكن أن يحدث شيء مماثل للاقتصادات.

عند تسارع التضخم، فإن عامة الناس يطالبون القادة بكبح جماح الأسعار من خلال تطبيق سياسات أكثر صرامة فيما يتعلق بالاقتصاد الكلي، ولكن إذا بدأت السلطات في التدخل بالصناعات المختلفة من خلال تعريفات جمركية مصممة لأغراض محددة ومراقبة الأسعار وإعانات الدعم والضرائب والقواعد التنظيمية، فلن يكون هناك رد فعل شعبي مماثل، وبالتالي يُسمح للتدخلات بالاستمرار في خلق حالة من انعدام الكفاءة وتقويض النمو.

إن كل من التضخم والتدخلات المصممة لأغراض محددة - التي يشار إليها أحيانا بالسياسة الصناعية – يساهمان في تشويه الاقتصاد مما يؤدي إلى انخفاض النمو الاقتصادي، لكن التضخم يؤدي إلى استجابة سريعة، وهي ظاهرة تشمل الاقتصاد بأكمله وتكتسب زخمًا مع سعي مجموعة تلو الأخرى إلى استعادة عوائدها الحقيقية أو زيادتها، ولكن عند نقطة معينة، يبدأ الناس في الاعتراض وعندئذ ومع ارتفاع معدل التضخم تشتد الضغوط على صناع السياسات لحملهم على خفضه وبمجرد تراجع التضخم، يمكن استئناف النمو.

وعلى النقيض من ذلك، فإن تأثير التعريفات الجمركية المستهدفة والتدابير الخاصة بالصناعة في أي وقت أو في أي قطاع من قطاعات الاقتصاد عادة ما يكون محدود نسبيًا وعلى الرغم من أنها تساهم في الضغوط التضخمية، وتحد من مرونة الاقتصاد، وتضعف النمو، فإنها عادة لا تثير الانتباه كما هو الحال عند ارتفاع التضخم، لذا فمن غير المرجح أن يرفضها عامة الناس. علاوة على ذلك، فإن احتمال خفض التعريفة الجمركية أو إلغاء الدعم عادة ما يقابل بمقاومة قوية من جانب الصناعة المتضررة. لذا، ففي حين يشكل كبح جماح التضخم ضرورة سياسية، فإن وقف التدابير التشويهية المصممة لأغراض محددة يعتبر أمرًا صعبًا من الناحية السياسية.

تعكس الولايات المتحدة اليوم هذه الديناميكية حيث أعربت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن عن استيائها من الضغوط التضخمية ودعمت الاحتياطي الفيدرالي الأميركي في جهوده الرامية إلى كبح زيادات الأسعار، ولكنها عملت أيضاً على زيادة الإنفاق الحكومي بشكل كبير وذلك من خلال قانون خفض التضخم كما أدخلت أو أبقت على أحكام تنظيمية واسعة النطاق خاصة بالصناعة وأغلبها تضخمية.

وربما بلغ التضخم ذروته في الولايات المتحدة، ولكن التدخلات المصممة لأغراض محددة لا تزال تتمتع بقدر كبير من الزخم. لقد أدت التعريفات الجمركية التي فرضها دونالد ترامب على واردات الفولاذ والألومنيوم ــ والتي لم يقم بايدن بإلغائها ــ إلى أكبر ارتفاع في تكاليف الفولاذ في العالم، وهذا يعني أن تكاليف الإنتاج آخذة في الارتفاع في أي صناعة تعتمد على كميات كبيرة من الفولاذ مثل شركات تصنيع السيارات، وفي الوقت نفسه، يتلقى منتجو السيارات الكهربائية الأمريكيون إعانات الدعم والاعفاءات ضريبية.

تفرض إدارة بايدن أيضًا تعريفات جمركية على واردات الألواح الشمسية وعلى الرغم من اهتمامها بالبيئة. لقد أدخلت إدارة بايدن إعانات دعم كبيرة وحوافز أخرى للاستثمار في أشباه الموصلات والبطاريات كما وضعت حداً أقصى لأسعار بعض الأدوية التي يتم وصفها طبياً مثل الأنسولين لمرضى برنامج ميديكير من كبار السن، مع تحديد سقف أسعار للمزيد من الأدوية كل عام وقامت أيضًا بفرض متطلب يقضي بأن تتفاوض الحكومة على أسعار بعض الأدوية ــ وهي التدابير التي من الممكن أن تؤدي إلى نقص الأدوية بالإضافة الى إعاقة تطوير الأدوية الجنيسة الرخيصة.

لقد قام بايدن أيضًا بزيادة الحد الأقصى للمحتوى المحلي للمشتريات الحكومية واشترط أن تعمل المشتريات الحكومية على تحقيق أقصى قدر ممكن فيما يتعلق باستخدام المدخلات الأمريكية ودعم إنتاج محلي أكبر، وهذا يعني أن بايدن قد قام بتقييد نطاق الاتفاق الذي مضى عليه عقود من الزمن بين أعضاء منظمة التجارة العالمية والذي يلزمهم بعدم التمييز في المشتريات الحكومية ضد البضائع من الدول المشاركة في الاتفاقية.

لقد أدت اتفاقية منظمة التجارة العالمية إلى انخفاض التكاليف بالنسبة لجميع الموقعين عليها مما أدى إلى توفير أموال دافعي الضرائب حيث دفعت الولايات المتحدة الأمريكية اموالاً أقل مقابل السلع التي اشترتها في حين كانت تصدر السلع إلى حكومات أخرى بتكاليف أمريكية أقل بالنسبة لتلك الحكومات، ويعمل تدخل بايدن الآن على رفع تكلفة مشتريات الحكومة الأميركية (بما في ذلك المواد اللازمة للاستثمار بموجب قانون خفض التضخم) وزيادة احتمالات قيام دول أخرى بالانتقام مما يؤدي إلى انخفاض المشتريات من أميركا.

وفي أغلب الاقتصادات المتقدمة، يتم تنظيم الزراعة بطرق تدعم أسعار المنتجات الزراعية. لقد أدى دعم الأسعار والقيود المفروضة على الزراعة إلى رفع أسعار المواد الغذائية وخفض كفاءة القطاع. وتنظم الولايات المتحدة أيضًا كمية واردات السكر وعلى الرغم من وجود عدد قليل فقط من منتجي السكر في البلاد، لذلك يدفع الأمريكيون ما يقرب من ضعف المتوسط العالمي لشراء السكر، وهذا يضع صناع الكعك والحلوى في الولايات المتحدة الأمريكية في وضع تنافسي غير جيد.

إن المثال الأخير على التدخلات المصممة لأغراض محددة في الاقتصاد ــ ومن المستحيل تعدادها كلها ــ يتعلق بحليب الأطفال الصناعي، فخلال جائحة كوفيد-19، كان هناك نقص كبير في هذه السلعة الحيوية بعد أن اضطر مصنع رئيسي واحد إلى الإغلاق. إن المنتجين الأجانب، كما هو الحال في كندا، يستوفون نفس المعايير التي يطبقها نظراؤهم في الولايات المتحدة الأمريكية ولكن القيود المفروضة على الكمية المستوردة، والرسوم الجمركية المرتفعة على السلع التي تدخل الولايات المتحدة الأمريكية، تجعل الآباء الأمريكيين غير قادرين على الوصول لحليب الأطفال الكندي.

إن من العوامل غير المساعدة أن برنامج التغذية التابع للحكومة الفيدرالية بالنسبة للنساء والرضع والأطفال قد اقتصر تاريخيَا في كل ولاية على شركة مصنعة واحدة لحليب الأطفال، وبما أن هذا البرنامج يمثل حوالي نصف إجمالي مشتريات حليب الأطفال في الولايات المتحدة، فقد ساهم ذلك في أن عددًا قليلاً من العلامات التجارية قد أصبحت مهيمنة على السوق.

إن التدخل المباشر في أنشطة أو قطاعات اقتصادية معينة ينطوي على تكاليف باهظة ويشوه النشاط الاقتصادي، ويرفع الأسعار، ويقلل النمو كما أن بعض التدخلات، مثل إعانات الدعم، يمكن أن تكون خطيرة وذلك لأسباب ليس أقلها انها قد تشير إلى المحسوبية بل وحتى الفساد الصريح.

علاوة على ذلك ومع التغير التكنولوجي السريع نحتاج إلى الداخلين الجدد إلى السوق علمًا أن القواعد التنظيمية ستكون مكلفة بالنسبة لهم، وما يزيد المشكلة تعقيدًا هو أن الهيئات التنظيمية الحكومية، لكي تقوم بعملها على أكمل وجه، يتعين عليها أن تفهم النشاط الذي تقوم بتنظيمه، لكن الحكومة تدفع لموظفيها أقل من القطاع الخاص حيث يمكن للخبراء في مجال الصناعة العمل في أي من القطاعين.

لقد وصلت الولايات المتحدة الأمريكية إلى التفوق العالمي وهذا يعود جزئيًا إلى التزامها بضمان تكافؤ الفرص للقطاع الخاص حيث تتوافق السياسة الصناعية التي طبقتها ــ مثل الاستثمارات في التعليم، والبنية الأساسية، والأبحاث ــ مع هذا الالتزام، ولكن مع زيادة التدخلات وتعمقها، تتزايد كذلك المخاطر التي تهدد صدارة أميركا الاقتصادية العالمية.

* آن أو. كروجر، كبيرة الاقتصاديين سابقًا في البنك الدولي والنائب الأول السابق للمدير الإداري لصندوق النقد الدولي، وأستاذة أبحاث أولى في الاقتصاد الدولي في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز وزميلة أولى في مركز التنمية الدولية في جامعة جونز هوبكنز. جامعة ستانفورد.
https://www.project-syndicate.org/

اضف تعليق