لا احد يستطيع ان يبني لك جسرا لأنك انت وحدك منْ يعبر نهر الحياة. هناك ربما تجارب وجسور لا نهاية لها وربما هناك اناس محترمون جدا يحملونك وهم مسرورين للعبور ولكن فقط على حساب ان تكون انت رهينة وتتخلى عن نفسك. هناك فقط ممر واحد...

يسأل نيتشة هل لدينا الشجاعة الكافية لإخراج الكنوز المختبئة فينا؟ هذا السؤال هو من أقدم الاسئلة في حياتنا، وان تاريخ الابداع الانساني من فنون وشعر وفلسفة هو تاريخ لتلك المحاولات الهادفة للاجابة على ذلك السؤال.

اعتقد فردريك نيتشة (1844-1900) ان احتضان الصعوبة هو الشرط الضروري لتحقيق حياة تامة وسعيدة، واعتبر رحلة اكتشاف الذات هي واحدة من أعظم واكثر الصعوبات الوجودية خصوبة. في عام 1873 وعندما كان يقترب من ميلاده الثلاثين عالج نيتشة هذا السؤال الأبدي في كيفية العثور على أنفسنا وإطلاق مكنوناتنا وذلك في مقال جميل اسماه (شوبنهاور كمعلم) كجزء من تأملاته المبكرة. كتب نيتشة:

عندما يرغب كل كائن انساني ليكون جزءا من جموع الناس فهو يحتاج فقط الامتناع عن جعل الاشياء سهلة لنفسه. دعه يتّبع ضميره الذي يناديه: "كن نفسك، فان كل ما تقوم به الان، وترغب به وتفكر فيه، هو ليس انت". كل روح شابة تستمع الى هذا النداء بالنهار وفي الليل وترتجف بحماس في توقّعها لما هو غير سار لذلك المقدار من السعادة التي اعّدتها الأبدية لاؤلئك الذين فكروا بحريتهم الحقيقية.

لا توجد هناك طريقة لمساعدة اي روح في حصولها على هذه السعادة طالما تبقى مكبلة بسلاسل الرأي والخوف. وكم ستصبح الحياة خاوية بلا أمل وبلا معنى بدون هذا التحرير؟ لا يوجد مخلوق في الطبيعة اكثر كسلا وأسفا من الانسان الذي خسر عبقريته وأغمض احدى عينيه مرة نحو اليمين ومرة نحو اليسار او الى الخلف وفي اي اتجاه. نيتشه مكررا ادّعاء بيكاسو "لكي تعرف ما تنوي رسمه عليك ان تبدأ بالرسم"، اعتبر ذلك العلاج الحقيقي الوحيد لهذا الجفاف الوجودي:

لا احد يستطيع ان يبني لك جسرا لأنك انت وحدك منْ يعبر نهر الحياة. هناك ربما تجارب وجسور لا نهاية لها وربما هناك اناس محترمون جدا يحملونك وهم مسرورين للعبور ولكن فقط على حساب ان تكون انت رهينة وتتخلى عن نفسك. هناك فقط ممر واحد في هذا العالم لا احد يقطعه مشيا الاّ انت، لا تسأل اين سيقود؟ عليك ان تمشي.

يشير نيتشة الى ان هذا المسار الذي نقطعه لكي نجد انفسنا هو ليس بالمهمة السهلة:

كيف يمكن للإنسان معرفة نفسه؟ انها مهمة معتمة وشائكة: اذا كان للأرنب البري سبعة جلود فان الانسان قد يخدع نفسه سبعين مرة دون ان يكون قادرا على القول "انا الان حقيقي، لم اعد شيئا خارجيا." انه ايضا عمل مؤذ و خطير حين نحفر في الذات، نتسلق مباشرة وبمشقة الى أنفاق الذات. كم من السهل اذاً ان نعطي لشخص ما مثل هذه الجروح وحينما لا يوجد طبيب يستطيع العلاج. كذلك، لماذا يجب ان يكون من الضروري ان كل شيء يثبت حقيقة وجودنا- صداقاتنا وعداواتنا، نظراتنا وهز ايدينا، ذكرياتنا وكل ما ننساه، كتبنا واقلامنا.

لغرض الاستكشاف الاكثر اهمية، هناك طريقة معينة. دع الروح الشابة تستجوب حياتها الخاصة بالنظر الى السؤال التالي: "ماذا حقا احببت حتى الان؟ ما الشيء الذي حفز روحك، ما الذي سيطر على روحك وأسعدها في نفس الوقت؟ ضع هذه الاشياء الثمينة امامك على شكل صف فهي ربما تكشف عن قانون بطبيعتها ونظامها، القانون الاساسي لذاتك. قارن هذه الاشياء، انظر كيف تتكامل، تنمو، تتفوق، تتغير الى شيء آخر، كيف هي تكوّن سلّما كنت تتسلق على درجاته الى ذاتك، لأن ذاتك الحقيقية لاتقبع مدفونة عميقا في داخلك، وانما ترتفع فوقك الى علو شاهق جدا، او على الاقل فوق ما اعتدت اعتباره ذاتك.

بهذا، يلتفت نيتشة الى الدور الحقيقي للتعليم في الكشف عن هذه الذات الحقيقية – كشيء عالجه (باركر بالمر) بعد مرور قرن في تأملاته الجميلة عن التعليم كرحلة روحية – يكتب:

معلموك ومربوك الحقيقيون سيكشفون لك المعنى الاصلي والخصائص الاساسية لوجودك، شيء ما ليس قابلا للتعليم والتربية من اي شخص اخر، وانما هو دائما يصعب الوصول اليه، شيء ما مقيد وغير متحرك، معلمك لا يمكنه الذهاب الى ما وراء كونه محرر لك. وهذا هو سر كل ثقافة حقيقية: هي لا تعرضنا بأذرع اصطناعية تتحرك بسهولة الى اي اتجاه، بنظارات طبية – لأن هذه النماذج تتركنا فقط مع صورة مخجلة للتعليم. بدلا من ذلك، انها تحرير، سحب للأعشاب الضارة، ازالة الانقاض، مطاردة القوارض التي تلتهم الجذور الرقيقة وتقتل النبتة. انها انبعاث الضوء والدفء، تدفّق رقيق للمطر الليلي.... يرى نيتشة ان هذا النوع من التعليم لايمكن صياغته ضمن مؤسساتنا الحالية ولا يمكن تسويقه للجماهير ولا يحترم مصالح الدولة والسوق ولا يمكن الحصول عليه بمجرد الانخراط في نظام الدرجات والشهادات. اولئك الذين يكتسبون الثقافة والتعليم الذاتي هم وحدهم يدركون "ذواتهم الحقيقية".... يستنتج نيتشة: هناك ربما طرق اخرى للعثور على الذات، للاستيقاظ من المخدر الذي نختبئ فيه كما لو كنا في غيمة داكنة، هو أدرك ان لا شيء أفضل من التفكير في المعلمين والمربين.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق