حقيقة العدالة أو لازمها أن يغلب العقل الذي هو خليفة الله على جميع القوى حتى يستعمل كلا منها فيما يقتضي رأيه، فلا يفسد نظام العالم الإنساني، فإن الواجب سبحانه لما ركب الإنسان بحكمته الحقة ومصلحته التامة عن القوى الكثيرة المتضادة، فهي إذا تهايجت وتغالبت ولم يقهرها قاهر خير...

إيقاظ قد ظهر مما ذكر أن الكمال كل الكمال لكل شخص هو العدل والتوسط في جميع صفاته وأفعاله الباطنة والظاهرة، سواء كانت مختصة بذاته أو متوسطة بينه وبين أبناء نوعه، ولا تحصل النجاة والسعادة إلا بالاستقامة على وسط الأشياء المتخالفة، والتثبت على مركز الأطراف المتباعدة. فكن يا حبيبي جامعا للكمالات، متوسطا بين مراتب السعادات، ومركزا لدائرة نيل الإفاضات. فكن أولا متوسطا بين العلم والعمل جامعا بينهما بقدر الإمكان، ولا تكتف بأحدهما حتى لا تكون واحدا من الرجلين القاصمين (1) لظهر فخر الثقلين صلى الله عليه وآله وسلم.

وكن في العمل متوسطا بين حفظ الظاهر والباطن، فلا تكن في باطنك خبيثا وظاهرك نقيا، حتى تكون كشوهاء ملبسة بزي حوراء مدلسة بأنواع التدليسات، ولا بالعكس لتكون مثل درة ملوثة بأقسام القاذورات، بل ينبغي أن يكون ظاهرك مرآة لباطنك حتى يظهر من محاسنك بقدر ما اقتضته ملكاتك الفاضلة الباطنة. وكن في جميع ملكاتك الباطنة وأفعالك الظاهرة متوسطا بين الإفراط والتفريط على ما يقرع سمعك في هذا الكتاب.

ثم كن في العلوم متوسطا بين العلوم الباطنة العقلية والعلوم الظاهرة الشرعية، فلا تكن من الذين قصروا أنظارهم على ظواهر الآيات ولم يعرفوا من حقائق البينات، يذمون علماء الحقيقة وينسبونهم إلى الإلحاد والزندقة، ولا من الذين صرفوا أعمارهم في فضول أهل يونان وهجروا ما جاء به حامل الوحي والفرقان، يذمون علماء الشريعة ويثبتون لهم سوء القريحة، يدعون لأنفسهم الذكاء والفطانة وينسبون ورثة الأنبياء إلى الجهل والبطالة.

ثم كن في العقليات متوسطا بين طرق العقلاء من غير جمود على واحدة منها بمجرد التقليد أو التعصب، فتوسط بين الحكمة والكلام والإشراق والعرفان، واجمع بين الاستدلال وتصفية النفس بالعبادة والرياضة، فلا تكن متكلما صرفا لا تعرف سوى الجدل، ولا مشائيا محضا أضاع الدين وأهمل، ولا متصوفا استراح بدعوى المشاهدة والعيان من دون بينة وبرهان. وكن في العلوم الشرعية متوسطا بين الأصول والفروع، فلا تكن إخباريا تاركا للقواعد القطعية، ولا أصوليا عاملا بقياسات عامية.

وقس على ذلك جميع أمورك الباطنة والظاهرة، واعمل به حتى يرشدك إلى طريق السداد، ويوفقك لاكتساب زاد المعاد.

دفع إشكال

إن قيل: قد تلخص مما ذكر: أن الفضيلة في جميع الأخلاق والصفات إنما هو المساواة من غير زيادة ونقصان، مع إنه قد ثبت أن للتفضل محمود وهو زيادة فلا يدخل تحت العدالة الراجعة إلى المساواة. (قلنا): التفضل احتياط يقع لتحصيل القطع بعدم الوقوع في النقصان، وليس الوسط في طرفين من الأخلاق على نهج واحد، فإن الزيادة في السخاء إذا لم يؤد إلى الإسراف أحسن من النقصان عنه، وأشبه بالمحافظة على شرائطه، فالتفضل إنما يصدر عن فضيلة العدالة، لأنها مبالغة فيها ولا يخرجها عن حقيقتها، إذ المتفضل من يعطي المستحق أزيد مما يستحقه، وهذه الزيادة ليست مذمومة بل هي العدالة مع الاحتياط فيها، ولذا قيل: "إن المتفضل أفضل من العادل "، والمذموم أن يعطي غير المستحق أو يترك المساواة بين المستحقين لأنه أنفق فيما لا ينبغي أو على ما لا ينبغي، وصاحبه لا يسمى متفضلا بل مضيعا، ولكون التفضل احتياطا إنما يحسن من الرجل بالنسبة إلى صاحبه في المعاملة التي بينهما، ولو كان بين جماعة ولم يكن له نصيب في ما يحكم فيه لم يسعه إلا العدل المحض ولم يجز له التفضيل.

تتميم

قد تلخص أن حقيقة العدالة أو لازمها أن يغلب العقل الذي هو خليفة الله على جميع القوى حتى يستعمل كلا منها فيما يقتضي رأيه، فلا يفسد نظام العالم الإنساني، فإن الواجب سبحانه لما ركب الإنسان بحكمته الحقة ومصلحته التامة عن القوى الكثيرة المتضادة، فهي إذا تهايجت وتغالبت ولم يقهرها قاهر خير، حدثت فيه بهيجانها واضطرابها أنواع الشر، وجذبه كل واحدة منها إلى ما يقتضيه ويشتهيه، كما هو الشأن في كل مركب. وقد شبه المعلم الأول مثله بمن يجذب من جهتين حتى ينقطع وينشق بنصفين أو من جهات كثيرة فيتقطع بحسبها. فيجب على كل إنسان أن يجاهد حتى يغلب عقله الذي هو الحكم العدل والخير المطلق على قواه المختلفة، ليرفع اختلافها وتجاذبها ويقيم الجميع على الصراط القويم.

ثم كل شخص ما لم يعدل قواه وصفاته لم يتمكن من إجراء أحكام العدالة بين شركائه في المنزل والبلد، إذ العاجز عن إصلاح نفسه كيف يقدر على إصلاح غيره، فإن السراج الذي لا يضئ قريبه كيف يضيء بعيده، فمن عدل قواه وصفاته أولا واجتنب عن الإفراط والتفريط واستقر على جادة في أرضه، وإذا كان مثله حاكما بين الناس وكان زمام مصالحهم في قبضة اقتداره، لتنورت البلاد بأهلها، وصلحت أمور العباد بأسرها، وزاد الحرث والنسل، ودامت بركات السماء والأرض.

وغير خفي أن أشرف وجوه العدالات وأهمها وأفضل صنوف السياسات وأعمها هو عدالة السلطان، إذ غيرها من العدالات مرتبطة بها ولولاه لم يتمكن أحد من رعاية العدالة، كيف وتهذيب الأخلاق وتدبير المنزل يتوقف على فراغ البال وانتظام الأحوال، ومع جور السلطان أمواج الفتن متلاطمة، وأفراج المحن متراكمة، وعوائق الزمان متزاحمة، وبوائق (2) الحدثان متصادمة، وطالبو الكمال كالحيارى في الصحارى لا يجدون إلى منازله سبيلا ولا إلى جداوله مرشدا ودليلا، وعرصات العلم والعمل دراسة الآثار، ومنازلهما مظلمة الأرجاء والأقطار، فلا يوجد ما هو الملاك في تحصيل السعادات، أعني تفرغ الخاطر والاطمئنان وانتظام أمر المعاش الضروري لأفراد الإنسان.

ولذا لو تصفحت في أمثال زماننا زوايا المدن والبلاد واطلعت على بواطن فرق العباد، لم تجد من الألوف واحدا تمكن من إصلاح نفسه ويكون يومه خيرا من أمسه، بل لا تجد دينا إلا وهو باك على فقد الإسلام وأهله، ولا طالبا إلا وهو لعدم المكنة باق على جهله، ولعمري أن هذا الزمان هو الزمان الذي أخبر عنه سيد الأنام وعترته الأبرار الكرام عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام من أنه: "لا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه".

وبالجملة: المناط كل المناط في تحصيل الكمالات وإخراج النفوس من الجهالات، هو عدالة السلطان، واعتناؤه بإعلاء الكلمة، وسعيه في ترويج أحكام الدين والملة، ولذا ورد في الآثار: (إن السلطان إذا كان عادلا كان شريكا في ثواب كل طاعة تصدر عن كل رعية، وإن كان جائرا كان سهيما في معاصيهم). وقال سيد الرسل صلى الله عليه وآله وسلم: "أقرب الناس يوم القيامة إلى الله تعالى الملك العادل وأبعدهم عنه الملك الظالم".

وورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم: " عدل ساعة خير من عبادة سبعين سنة ". والسر أن أثر عدل ساعة واحدة ربما يصل إلى جميع المدن والأمصار ويبقى على مر الدهور والأعصار، وقال بعض الأكابر: لو علمت أنه يستجيب لي دعوة واحدة لخصصتها بإصلاح حال السلطان حتى يعم نفعه.

تنوير

لا حاجة إلى العدالة مع رابطة المحبة لو استحكمت رابطة المحبة وعلاقة المودة بين الناس لم يحتاجوا إلى سلسلة العدالة، فإن أهل الوداد والمحبة في مقام الإيثار ولو كان بهم خصاصة، فكيف يجور بعضهم على بعض. والسر أن رابطة المحبة أتم وأقوى من رابطة العدالة، لأن المحبة وحدة طبيعية جبلية، والعدالة وحدة قهرية قسرية. على أنها لا تنتظم بدون المحبة، لكونها باعثة للإيجاد، كما أشير إليه في الحديث القدسي: "كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف". فالمحبة هو السلطان المطلق، والعدالة نائبها وخليفتها (3).

* مقتطف من كتاب (جامع السعادات) لمؤلفه الشيخ محمد مهدي النراقي المتوفى 1209ه‍.

.......................................
(1) إشارة إلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (قصم ظهري رجلان: عالم متهتك وجاهل متنسك).
(2) البائقة: الداهية والشر. ويقال: رفعت بائقة فلان أي غائلته وشره، جمعه بوائق.
(3) ولذلك إن الشريعة الإسلامية أول ما دعت فيما دعت إلى الأخوة والتآلف بين الناس، وكثير من أحكامها مثل الجماعة والجمعة والإيثار والاحسان وتحريم الغيبة والنبز ونحو ذلك تستهدف إيجاد رابطة الحب بين الشعوب والقبائل والأفراد، ليستغنوا عن الأخذ بقانون العدل الصارم المر.

اضف تعليق