التضخم البيروقراطي في الدول النامية لا يمثل خاصية مشوهة بل هي أهم مصادر تشوه وظيفة الدولة، وبالمحصلة تؤدي إلى تمكين الموظف من استغلال سلطة وظيفته إذا ما إنعدمت نزاهته، ومن ثم سوف يسمح ذلك الجهاز البيروقراطي بممارسة وظيفة النهب والفساد بدلاً من السير بخدمة المواطن...

البيروقراطية ظاهرة إجتماعية تتعلق بالكيانات والتنظيمات الإجتماعية الضخمة أياً كان نشاطها أو طبيعة عملها، وتظهر في أجهزة الإدارة الحكومية في الدول النامية والمتقدمة على حد سواء ولكن بدرجات متفاوتة.

أولا: البيروقراطية والفساد الإداري

الفساد الإداري يعرف بأنه (استغلال منصب ما، من أجل القيام بأعمال وخدمات لمجموعة من الأشخاص بشرط الحصول على مقابل مادي لذلك)، ويعرف أيضاً بأنه (الاستخدام السيئ للوظيفة، وعدم تطبيقها باسلوب مناسب، ولايعتمد الفساد الإداري على وظيفة معينة، بل على طبيعة الشخص الذي يقبل الحافز نحو الفساد)، ويرتبط عادة بقبول الرشوة التي هي عبارة عن مقابل يحصل عليه الشخص لإتمام عمل ما دون وجه حق، أي بالاحتيال على قوانين العمل من أجل تمرير شيء ما يحقق مصلحة لفرد، أو مجموعة من الأفراد، على حساب أفراد أخرين.

ومما تجب الإشارة اليه هو أن البيروقراطية تمثل الداعم الاقوى لمثل هذا النوع من الفساد، (تربة للفساد)، فالبيروقراطية مفهوم يستخدم في علم الإجتماع والعلوم السياسية يشير الى تطبيق القوانين بالقوة في المجتمعات المنظمة، فينتهي بها الأمر الى الفساد في الإجراءات (1).

وتوضع صفات محدّدة للفعل الذي يدخل ضمن توصيف الفساد الإداري ومن هذه صفات:

عدم احترام قانون العمل، ويشمل حالة عدم الالتزام الدقيق بالواجب الوظيفيّ، وهناك عدة أطراف تدخل في عمليات الفساد الإداري من هذه الأطراف، الموظف، والشخص الذي يسعى لتحقيق شيء ما عن طريق الفساد، وتتم خطوات الفساد الإداري بشكل سريّ، يعتمد على منفعة متبادلة بين الأطراف التي تشترك في إبرام صفقة الفساد سواءً كانت بسيطة أم ضخمة ومعقدة.

وأن التضخم البيروقراطي في الدول النامية لا يمثل خاصية مشوهة بل هي أهم مصادر تشوه وظيفة الدولة، وبالمحصلة تؤدي إلى تمكين الموظف من استغلال سلطة وظيفته إذا ما إنعدمت نزاهته، ومن ثم سوف يسمح ذلك الجهاز البيروقراطي بممارسة وظيفة النهب والفساد بدلاً من السير بخدمة المواطن، فالبطء في أداء العمل وهدر الوقت والأموال والروتين وتأخير إنجاز المعاملات وكسر القوانين والخروج عن المألوف وغيرها من مظاهر البيروقراطية وأثارها التي ضاق بها الناس ذرعاً وتذمراً وأضحت تؤثر أيضاً في بطء دوران عجلة المشاريع التنموية وتؤخر برامجها، وأن انتهازية البيروقراطية وفي ظل غياب الرقابة الفاعلة وبروز العقود والصفقات بأحجام ومبالغ هائلة، ساعد القطاع الخاص ليكون متواطئاً في أكثر الحالات مع البيروقراطية لممارسة الفساد الإداري والمالي وتكوين الثروات، مما ساهم في إهدار الأموال اللازمة.

فمثلا (ذهاب أي مسؤول أو أي شخص آخر إلى إحدى الدوائر الرسمية، كدوائر الضريبة، أو دوائر التقاعد، أو مديريات التسجيل العقاري، أو سواها من الدوائر التي تقدم خدمات إدارية للمواطنين، يمكنه أن يكشف أسلوب استخدام الرشوة في إنجاز معاملات المواطنين، ويمكن أن نجزم القول بأنه من المحال أن يتم إنجاز معاملة من قبل موظف بشكل طبيعي، من حيث وقت الإنجاز وسلاسته ورسوماته المستحقة رسميا من دون أن يكون هنالك مقابل يحصل عليه هذا الموظف أو ذاك من صاحب المعاملة).

وما يساعد على تفشي هذا النوع من الفساد عاملان:

الأول: القوانين المعقدة، والروتين القاتل، والحجج المفتعلة التي يضعها الموظف كحجر عثرة في طريق انجاز معاملات المواطنين، حتى يتم إجباره على دفع رشوة من أجل الخلاص من دوام الذهاب والإياب الذي قد يستمر شهورا في معاملة يمكن إنجازها خلال أيام أو حتى ساعات.

الثاني: المواطن أو المراجع الذي يتعاون مع الموظّف ويشجعه على ابتزازه وإجباره على تقديم الرشوة، فهناك مراجعون يبحثون عن وسطاء أو (معقّبين) يقومون بمهمة الوساطة بينهم وبين الموظف لإنجاز المعاملة مقابل رشوة، ففي هذا نوع من التعاون الضمني من قبل المراجع لكي تستمر عمليات الفساد الإداري.

علما أن في جميع الدوائر الخدمية للدول يوجد صناديق شكاوى، وخطوط اتصال ساخنة، ولكن كل هذه الوسائل لا تؤدي عملها كما يجب بعد أن وصلت حالة اليأس بالمواطن إلى ذروتها، فيبقى السبيل الوحيد المفتوح أمامه التعامل بالرشوة من أجل إنجاز معاملته.

ثانياً: البيروقراطية والفساد الحكومي

يظهر الفساد الحكومي بأوضح ما يكون، عندما يتعلق الأمر في بعض العاملين في المستويات الوظيفة العليا: فمن جهة، يلاحظ أن هؤلاء يتمتعون عادة بامتيازات متنوعة تنسجم مع واجباتهم الخاصة التي يقومون بها، وهي واجبات ذات علاقة بشؤون الدولة العليا، خاصة وأنه في بعض الأحيان يسود الاعتقاد بين المصلحة العامة تحقق على نحو أفضل عندما تبقى الشؤون العامة، الحالية والسابقة بعيدة عن اطلاع الجمهور.

كما ان الاثار المتبقية للقداسة القديمة للقوة والسلطة تلعب دورا مهما، حيث ينظر إلى المسؤول الحكومي بانه ذو مرتبة أعلى من الانسان العادي أو من الشخص الذي يشغل منصبا متواضعاً، بخاصة إذا كان منصب المسؤول الحكومي يمثل أحد رموز السيادة الوطنية، وهذان العاملان الرئيسيان يبطلان من وجهة نظر الرأي العام، فعالية الطرق العادية للرقابة على عمل الموظفين العموميين.

وثمة عامل ثالث تمثل في العزلة التقنية للأعمال الحكومية التي تتم في هذا المستوى المتميز، مما يجعلها بمنأى عن الرقابة العامة، بينما تتجه الدول الى عصر الحكومة الالكترونية والذي يعني تخفيف العبء عن المواطن المسؤول، أي يمكن القول، أنه كلما ارتفع المنصب الوظيفي للشخص، ضاقت دائرة الأشخاص الذين يستطيعون الاتصال معه بشكل مباشر، كما يصبح الاتصال بين المستويات الوظيفية العليا والدنيا في أضيق حدوده، مما يفقد الجهاز البيروقراطي فعاليته، ولذا قامت العديد من الدول مؤخرة (وبشكل متزايد)، بمحاولات لإيجاد مدخل مناسب للربط بين هاتين الفئتين من الموظفين.

كما تم اتخاذ عدد من الإجراءات لوضع حد لغياب الرقابة العامة عن فئة الموظفين ذوي المناصب العليا، وتم تطوير بعض الإجراءات والمفاهيم الخاصة بمدى مسؤولية هؤلاء، مقارنة بالمسؤولين في الوظائف ذات الدرجات الأخرى والذين يعملون تحت ظروف مختلفة.

* باحثة سياسية عراقية-طالبة دكتوراه كلية العلوم السياسية/جامعة النهرين

...................................
المصادر:
1- محمد المعموري وأخرون، العلاقة بين البيروقراطية والفساد وأثرها على التنمية الاقتصادية، نشر في كتاب الشفافية في النشاط الاقتصادي العراقي، كلية الإدارة والاقتصاد،بغداد، 2005.
2- ناظم عبد الواحد الجاسور، موسوعة المصطلحات السياسية والفلسفية والدولية، دار النهضة العربية، بيروت، 2008.
3- أزر ناجي حسين، المعلوماتية والبيروقراطية: دراسة نظرية،أطروحة دكتوراه غير منشورة قدمت الى جامعة النهرين لنيل شهادة الدكتوراه فلسفة في العلوم السياسية، العراق، 2006.
4- عبد الرزاق عبد الحسين، الفساد الإداري والتضخم البيروقراطي، شبكة النبأ المعلوماتية، العراق، 8 /كانون الثاني/2019.

اضف تعليق