ثمة ظاهرة وصفها علماء اللغة بمصطلح معرفة ما فوق لغوية، وهو أمتلاك بعض الاشخاص وحتى بعض الامم والاقوام تجربة تقنية لغوية خاصة يمكن تسميتها فطرية ما فوق اللغة دونما أن تمر تلك التجربة اللغوية بدراسة نحو وقواعد ونظام اللغة التي يتكلمونها ويستخدمونها كتابة، وهي نظرية صحيحة مثبوتة في علوم اللسانيات...

اسئلة مفتاحية

هل مبحث نشأة اللغة مقتصرا على اثنولوجيا (تاريخ) الاقوام البدائية فقط؟ هل أعتمدت علوم اللسانيات اركيولوجيا التنقيبات الاثارية الاحفورية والتاريخية الانثروبولوجية في تأصيل نشأة اللغة تدوينا تصويريا قبل ظهور أختراع اللغة المنطوقة والمكتوبة بالحروف الابجدية الصوتية الخاصة بكل لغة لوحدها؟ هل كان فلاسفة البنيوية على صواب ومحقين حين أعتبروا نشأة اللغة مبحثا لا يمكن معاملته تأصيليا على وفق استقصاءات علمية غير انثروبولوجية وسايكولوجية كما ذهب له شتراوس؟ وهل اللغة هبة الهية أم اختراع بشري؟ وهناك عشرات من تساؤلات أخرى حول تأصيل نشأة اللغة غير التي ذكرناها.. وثمة آراء متباينة مختلفة بل متناقضة حول أهمية تاصيل نظرية نشأة اللغة قبل أختراعها كنظام صوتي دلالي في التعبير عن المقصودات من الاشياء والظواهر الطبيعية تقوم على أبجدية الحروف واصواتها الدلالية في التعبير اللغوي عن شيئية الموجودات بالاشارة الى مدلولاتها في الواقع. وكذلك التعبير عن معاني مفاهيم ومصطلحات تجريدية ليس لها وجود شيئي متعين في الواقع مثل كلمات، شجاعة، اخلاق، ضمير، خوف، مروءة، حب وهكذا.

بعض نظريات أصل اللغة

يرى علماء اللغة ان اللغة ليست حكرا على الانسان دون غيره من كائنات الطبيعة وخاصة عند الحيوانات التي تمتلك لغة تحاورية مع نوعها من الحيوان مثل لغة التحذير من الخطر،ولغة الغضب، ولغة التعبير عن رغبة الجماع، ولغة التعبيرعن حاجات التواصل واللقاء، وكانت بدايات أختراع الانسان للغة هي محاكاة لاصوات الحيوانات التي حاول تقليدها على أختلافها، ويرى العلماء أن بدايات اللغة الصوتية عند الانسان في محاكاته تقليد اصوات الحيوانات رافقه تطور بيولوجي نوعي مختلف عن الحيوان في حنجرته ساعدته نطق أصوات خاصة بنوعه.

كما أن القول من جنبة أخرى اللغة هبة فطرية الهية فلا سند تاريخي علمي انثربولوجي يثبت ذلك ويدعمه تصويبا، ماعدا ما تقوله ادبيات الاديان التوحيدية المعاصرة، والنظريات التي تذهب أن اللغة هي أختراع متطور تدريجيا لملكة توليدية فطرية عند الانسان هي أكثر النظريات شيوعا ترجيحيا. ولعل أبرز من التقى مع فطرية ملكة اللغة عند الانسان كأستعداد هو عالم اللغة الفيلسوف جومسكي في مفهوم توليدية اللغة، لكنه أنكر أن تكون فطرية اللغة عند الانسان تعود الى هبة الهية في أقراره أن اللغة ملكة فطرية نوعية مشّفرة وأستعدادا وراثيا وبداياتها الاولى كانت من أختراع الانسان لغته المنطوقة والمكتوبة ككائن نوعي متفرد...كما وأنكر جومسكي أن يكون تطور اللغة عند الطفل هو بتاثير الاسرة والمجتمع فقط من غير استعداد فطري يمتلكه الطفل في تعلم اللغة. جومسكي يتعامل مع العامل الفطري اللغوي من منطلق أنه موروث جيني مشّفر خاص يحمله الطفل بالولادة. ويرى هيردر أن أبتداع اللغة وأختراعها هو من خصائص الوعي البشري، وكان رأيه تفنيدا أدحاضيا لما جاء به كوندياك في نظريته أبتداع اللغة كان تلبية اشباع حاجات بيولوجية راودت مخيلة الانسان، أو هي أستجابة لهوى نفسي ونزوة عشوائية عفوية لم يكن الانسان في وارد تفكيره أختراعها كما يذهب له كل من روسو وفيكو...أي نشأة اللغة ناتج عرضي للانسنة الاجتماعية غير مقصدود بذاته. ولهذه النظريات اتباع معاصرين كما سيتضح معنا لاحقا. ومن النظريات التي لها مقبولية هي نظرية الفرنسي (نويرة) التي تذهب الى أن بدايات اللغة كانت مقاطع صوتية انشادية ينشدها الانسان بمرافقة عمله للتهوين من المشقة والتعب ولا زالت هذه العادة مترسبة في أعماق وجود الانسان يرددها العمال في اماكن عملهم الى يومنا هذا.

أما أقرب النظريات التي تحمل التكامل اللغوي فهي النظرية العفوية التي كان أشار لها روسو، والتي أعتمدها شتراوس تقريبا. تلك أن اللغة طفرة نوعية عفوية تلقائية تعتمد اربعة مراحل هي :

- مرحلة الاصوات الانبعاثية الساذجة التي تشترط اكتمال تطور الحنجرة عند الانسان.

- مرحلة مقاطع صوتية في تقليد ومحاكاة الحيوانات.

- مرحلة الاصوات المعبرة عن رغبات مصحوبة باشارات من الوجه واليدين.

- مرحلة تكوين كلمات من مقاطع صوتية وهي المرحلة الحقيقية في نشوء اللغة. ( نقلا عن ويكيبيديا الموسوعة)

كما يرى شتراوس أنه رغم الكثير الذي قيل عن نشأة اللغة، فاللغة لم تولد الا دفعة واحدة ومرجعية تأكيد وتصويب هذا الرأي نجده عنده في دراسة نشأة اللغة في الانثروبولوجيا واثنولوجيا دراسة الاقوام البدائية، وعلم النفس تحديدا وليس فيما يقوله العلم الطبيعي،، مؤكدا شتراوس أن تكون نشأة اللغة مرت بمراحل مترابطة في سلسلة من البناءات التراكمية العمودية التي هي مجمل أشكال متطورة عن بدايات صيحات صوتية عفوية عشوائية تلازمها تعابير الوجه واليدين والاشارات والايماءات الحركية للجسم، هذه كانت بدايات مهدت لما بعدها في أختراع اللغة كاصوات لحروف تحمل معها دلالة عن معنى مفهومي غير حسي أو دلالة عن شيء معين كموجود.

بدايات اللغة

الرسومات التصويرية الكهفية للعصور الحجرية الاولى لم تكن لا هي لغة شفاهية تواصلية بالمعنى الدقيق تماما ولا هي لغة كتابة تدوينية للكلام المنطوق في التعبير عنه برسومات تصويرية للدلالة عن اشياء بعينها. أذ كانت تلك الرسومات البدائية هي لحيوانات وادوات يصنعها الانسان دفاعا عن النفس، وهي خالية تماما من أية دلالة صوتية ترافق تلك الرسومات البدائية فالرسم البدائي كان تشييئا لمعنى محسوس لا كما هو المفروض أن تكون عليه بدايات اللغة رموز يؤدي قراءتها نطقا صوتيا شفاهيا. كون الصوت الدلالي يلازم الحرف أو المقطع أو الكلمة المنطوقة أي أن اللغة هي بالمقام الاول أبجدية حروف صوتية بالدرجة الاساس وليست رسومات علاماتية تشييئية صامتة. وفي مراحل تاريخية طويلة لاحقة أنحرفت تلك الرسومات البدائية عن قصديتها الشيئية في دلالة معنى التعبيرلتدخل تلك الرسومات فضاءا اوسع هو مرحلة التوظيف الخرافي السحري والطوطمي لها في عبادة وتقديس شكل الحيوان أو تمثاله البدائي المصنوع من الحجر، وفي مراحل متقدمة أخرى دخلت عبادة الرسومات والمنحوتات ميدان الاسطورة والميثالوجيا في مزاوجة أعضاء من جسم الانسان رأس الملك مثلا أو الاله مع أجزاء من جسم حيوان كما هو في الاساطير البابلية والاشورية في بلاد الرافدين كتمثال الثور المجنّح الذي يكون الرأس أنسيا يشير الى الملك اشوربانيبال أو غيره من الملوك والجسم على هياة جسم ثور مجنّح له أجنحة طيوروقوائم اربعة، وبالمناسبة هذا التمثال الذي لا يقدّر بثمن سرقت النسخة الاصلية منه في الموصل التي كانت تسمى نينوى عاصمة الاشوريين، أثر توالي موجات الاستعمار القديم وموجات الاستشراق والتنقيبات الاثرية، وحتى النسخ غير الاصلية مع غيرها من نفائس اثارية نادرة ثمينة تم تهديمها وتجريفها بالكامل في مناطق أثرية عديدة من الموصل ونينوى على أيدي الدواعش أبان سيطرتهم على مدينة الموصل عام 2014 وأجزاء من العراق تقدر بثلث مساحة العراق قبل طردهم واندحارهم في حرب تحريرية عام 2017م...

اللغة والكتابة

الكتابة المسمارية السومرية والاكدية في وادي الرافدين والكتابة الهيروغليفية في مصر الفرعونية، والسنسكريتية في الهند ، ولغات البوذية الصينية، واللغة اللاتينية المأخوذة عن الفينيقية في اليونان، والسامية في الجزيرة العربية واليمن ألمأخوذة عن الارامية والنبطية والسبأية، لم تظهرارهاصات هذه اللغات كلغات شفاهية ومكتوبة في التاريخ البشري الا مع بدايات ظهور عصر الزراعة سبعة الاف سنة قبل الميلاد ، وتدجين الحيوانات وتربيتها وخزن الحبوب وبناء المجمّعات القبائلية كقرى صغيرة متناثرة على حافات الانهر والمياه في فترة متقاربة نسبيا من التاريخ جمعت هذه اللغات في معرفة الكتابة والتدوين رغم بعدها الجغرافي الشاسع فيما بينها وفي مرحلة تاريخية طويلة تمتد بدءا من ثلاثة الاف سنة قبل الميلاد الى سبعمائة سنة قبل الميلاد هو تاريخ ظهور اللغة كتابة أي معرفة تدوين اللغة كأبجدية تصويرية. وتعتبر تلك المراحل التاريخية بداية صنع الانسان للحضارة في معرفته التدوين والكتابة ونشوء القبائل في موازاة ظهور الاشكال الدينية الوثنية بين تلك الاقوام وبناء المعابد الفخمة وبداية نفوذ وهيمنة طبقة الكهنة ورجال الاديان الوثنية.

بموجز التعبير أن تنوع أختراع اللغات لم يكن نتيجة تواصل ثقافي بين هذه الامم بقدر ما كانت كل أمة تنشيء لغتها البدئية من الصفرضمن خصائص بيئتها الاجتماعية واسلوب معيشتها وطقوس عباداتها... لكن هذا لا ينفي التثاقف اللغوي المتداخل بين هذه اللغات البدئية نتيجة التواصل بين تلك الجماعات والاقوام في تبادل المعارف البسيطة والسلع والنساء والمتاجرة والافادة من تجارب تطعيم اللغات واللهجات بعضها مع البعض الاخر. وأصبحت معظم هذه اللغات بمرور العصور لهجات هجينة غير أصيلة في دخول مفردات لغوية غريبة عليها.

أي من هذه النظريات يحدد نشأة اللغة؟

يبدو للمتمّعن في تباين الرؤى المتنوعة التي أوردناها باجتزاءات قصيرة حول البدايات الاولية لنشأة اللغة أنها في حقيقتها الظاهرة لنا اليوم تبدو متناقضة، ولا صحة لأحدها الا في بطلان وجهات النظر الاخرى، لكن الحقيقة تشير عكس ذلك تماما أن هذا الاختلاف في وجهات النظر هو في محصلته تداخل يصب في منبع واحد ويلتقي مع صواب تكامل هذه التقديرات النظرية الافتراضية على أختلاف تنوعاتها والتقائها في حقيقة واحدة هي لم تكن نشأة اللغة نتيجة سبب واحد فقط وأنما منشأ اللغة هو في تكامل تلك الرؤى والنظريات مجتمعة مهما بدا لنا تقديرها على أنها وجهات نظر وأجتهادات متضادة لا يمكن التوفيق بينها.

فعندما نذهب مع هيردر أن اللغة وعي بشري نوعي، فهو يمثل وجهة نظربدئية صحيحة في تدعيم ماذهب له شتراوس بأننا يتوجب علينا البحث في الانثروبولوجيا وعلم النفس عن نشاة اللغة ولا فائدة من مرجعية ما يقوله العلم الطبيعي. وعندما نقول أن الوعي في نشأة اللغة بمعناها الشفاهي كلاما تواصليا بدئيا بسيطا، هو وعي كيفي (ذكي) يفتقده غير الانسان من الكائنات، وهذا الوعي النوعي الذكي هو رغبة الانسان الدائبة في أكتشاف أو أختراع ما يديم تواصل بقائه كمجموعات صغيرة في درء خوف الموت وافتراس الحيوانات والانقراض، فكل شيء توصّل الانسان أختراعه انما كان يمثل (حاجة) ماسّة ضرورية بحياته يدرك أهميتها. وليس اللغة هنا استثناءا من تلك الحاجات ما يدعم نظرية كوندياك أن اختراع اللغة هو لاشباع حاجة ضرورية لادامة تواصله لغويا مع نوعه. لكن ذلك لا يمثل السبب الوحيد أو الاكثر ترجيحا دون غيره من وجهات نظر متعددة ونظريات مختلفة.

كما أن عفوية أختراع الكلام التخاطبي سّهلت عليه كثيرا حاجته التواصلية في الاستفادة الجماعية في أمور عديدة صعبة جدا واجهت مسيرة تلك الاقوام في تلك العصور السحيقة. التواصل اللغوي الاشاري البسيط بين المجموعات البشرية جاءت في مساعدة أعتماد اشارات وحركات اليدين وتعبيرات الوجه والايماءات الاشارية والصيحات لدرء الخوف الذي يعتري انسان ذلك العصر وتعبيره عن حاجات أخرى يحتاجها في تواصله مع الاخرين من نوعه. كل هذه التعابير التواصلية المرافقة للكلام الشفاهي التخاطبي لم تفقد الى اليوم تاثيراتها كلغة عند المتكلم عندما تظهرعلامات الفرح أو الغضب أو الاكتئاب والحزن والرقص والغناء وغيرها على تعابير الوجه وحركات الايدي وبعض اعضاء من الجسم ولا زالت الايماءات وحركات اليدين والجسم تلعب دورا تواصليا في فعاليات نجدها معاصرة سواء في الكلام التحاوري أو في كلام الخطابة على شاشة التلفزيون والمسرح والسينما وبعض الطقوس الدينية وخطب المناسبات وغيرها مما يقوم به الانسان من حركات تعبيرية تساعده في كلامه الشفاهي باليدين والجسم وتعابير الوجه بغية توصيل ما يرغبه الى المتلقي الحاضرأمامه أو الغائب على السواء وكأنما لغة اللسان الناطقة غير كافية للتعبير.

من الجدير الاشارة له أن ليفي شتراوس وفلاسفة البنيوية كانوا على صواب تماما حين أكدوا على مرجعية علمي الانثروبولوجيا وعلم النفس ولا غيرهما يمكن أعتماده في تاصيل نشأة اللغة. الحقيقة التي يبدو بعض علماء اللغة واللسانيات يتحفظون عليها هو أن اللغة سرد صوتي تحاوري في تعبير شفاهي انثروبولوجي متطور من تاريخ الوجود الانساني أكثر منه علما يقوم على دعائم تستبعد تاريخ الاناسة كدعامة وركيزة أساسية في البحث عن حل لغز تأصيل نشأة اللغة بشكل تقديري أفتراضي تصل صدقية صوابه أحيانا مديات بعيدة لا بديل أفضل مقبولية عنها في حال رفضنا لها.

النظرية اللسانية الصحيحة أفتراضا أستقرائيا التي تذهب الى تعيين مراحل تطور اللغة تبدأ في أختراع اللغة بابسط اشكالها البدائية التصويرية في رسم شكل الشيء المراد التعبير عنه لتليها مرحلة أخرى اكثر تجريدا في الوصول الى أبجدية الحروف ودلالاتها الصوتية ثم المقاطع فالكلمات فالعبارة...وتطور اللغة في قبيلة أو في مجتمع معيّن يمكن أن يكون للتبادل التجاري والثقافي دورا مهما حتى في أبسط اشكاله نعثر عليه في تداخل مؤثرات لغة على أخرى أو أكثر نتيجة الاختلاط التجاري والمصاهرة والنزاعات والحروب والتحالفات بين القبائل والترحال الدائم هي نظرية لا يتوفر ما يدحضها في خطوطها العامة العريضة التي تتقبل الرؤى الجديدة عليها والاضافات والادحاضات الجزئية كلما تقدمت اركيولوجيا حفريات معرفة تاريخ الحياة الانسانية عبر تطوراتها التاريخية الصعبة الضاربة عميقا في جذور التاريخ.

الكتابة والتحول النوعي باللغة

تعتبر الكتابة في ابسط تعبير عنها أنها عملية تدوين الافكار اللغوية ونقلها من حالة الكلام الشفاهي الصامت المخزون بالذهن والكلام المنطوق لسانيا صوتيا الى حالة الكتابة العقلية الفكرية الفردية الصامتة لسانا الصوتية قراءة. وبتعبير ارسطو ان اللغة مجرد ترجمة لفكرة توجد قبلها، والكتابة هي مجرد ترجمة للغة الشفاهية.

والكتابة طفرة نوعية عظيمة في مسار اللغة ترقى في أهميتها أختراع لغة الكلام التخاطبي الشفاهي. ويجمع علماء اللغة على أن الكتابة مرحلة انتقالية نوعية في العقل اللغوي التوليدي، كما عبر (غودي) عن ذلك قوله (الكتابة ارتقاء الى شكل جديد من اشكال التقنيات الفكرية، وبالتالي هي انتقالة الى شكل جديد من العقلية)1 بمعنى أن الكتابة نقلت التفكير العقلي من صورته الكلامية في التواصل والتخاطب الحواري الى مرحلة هي نوع من عقلية تدوين الافكاركتابة التي تكون في تدوينها المكتوب أكثر قيمة في الاهمية من الكلام الشفاهي المعرّض الى التلاشي السريع والزوال.. بهذا المعنى تكون الكتابة هي أس بدء الحضارة الانسانية كونها تدوينا تاريخيا وليس كلاما عابرا زائلا غير متوفرلما بعده ولا موجود له أثر يشيراليه.الكتابة بهذا المعنى أخرجت لغة الكلام اللسانية من المشافهة التحاورية في نطاقها التداولي الحواري المحدود المؤقت الزائل الى فضاء التلقي الجماعي القار في انتقالات بعضه عبر الاجيال والعصور الذي لم تدمره الحروب والحرائق والاتلاف العمد عبر التاريخ. وبالكتابة التدوينية للافكار أصبحت اللغة من أهم الركائز التي قامت عليها حضارات الشعوب المتنوعة،(كما يبين لنا التاريخ بطريقة لا ريب فيها أنه في الحضارات التي ظهرت فيها معرفة لغوية، فأن هذه المعرفة بدون أدنى شك وجدت بعد أن تمت السيطرة تماما على تقنية الكتابة )2 .

أنه بات من المفروغ منه أن بداية نشوء أي نوع من الحضارة الانسانية البدئية القديمة أنما كان يرافق أشادتها وبنائها ملازمتها أختراع تقنية الكتابة والتدوين في ذلك العصر. فالكتابة اللغوية هي تدوينات لمعارف في مختلف مجالات الحياة من حصة أجيال متعاقبة لا تندثر معطياتها الكبيرة في جيل دون أجيال متعاقبة لاحقة . على خلاف أضاعة الكلام الصوتي الشفاهي وزواله قبل أختراع الكتابة معلومات تاريخية هامة جدا في مختلف نواحي الحياة على مر العصور بسبب أن الكلام الشفاهي عرضة للاندثار والتلاشي بفترة زمنية محدودة ما لم يجر تدوينه وحفظه كتابة في أي شكل من الاشكال التي أستخدمها الانسان في تدوينه الكتابة عليها مثل الواح الطين والاحجار وجلود الحيوانات والبردي وغيرها من وسائل أخترعها الانسان لتدوين كتابة ما يرغبه عليها عبر العصور...بهذا المعنى يمكن القول أن لغة الكلام الشفاهي هو كل ما لم يتمكن الانسان حفظه والمحافظة عليه بأحدى وسيلتين متاحتين لنا الان التدوين الكتابي على الورق أو غيره، أو التدوين الآلي في حفظ الكلام الشفاهي من الضياع في تسجيل كل منطوق لساني لغوي شفاهي أو تفكير لغوي على آلة تسجيل وما اكثرها اليوم التي أبتدعتها تكنولوجيا العلوم والصناعة بما يحفظ الكتابة مقروءة أو مدونة (مقروءة مسموعة) معا لا تندثر في تقادم الزمن عليها.

مصطلح ما فوق اللغة

ثمة ظاهرة وصفها علماء اللغة بمصطلح معرفة ما فوق لغوية، وهو أمتلاك بعض الاشخاص وحتى بعض الامم والاقوام تجربة تقنية لغوية خاصة يمكن تسميتها (فطرية ما فوق اللغة) دونما أن تمر تلك التجربة اللغوية بدراسة نحو وقواعد ونظام اللغة التي يتكلمونها ويستخدمونها كتابة، وهي نظرية صحيحة مثبوتة في علوم اللسانيات، فمثلا عندنا في لغتنا العربية نجد تجربة مصطلح ما فوق اللغة كان في أمتلاك شعراء العصر الجاهلي عصر ما قبل الاسلام وعصر صدر الاسلام ايضا هذه الخاصية المافوق لغوية، أي أمتلاك شعراء ما قبل الاسلام وصدره (ملكة) قابلية نظم الشعر الموزون المقفى على السليقة بالفطرة اللغوية ولم يكن يعرفون في عصرهم أن لهذا النظم الشعري الذي يقوله شعراؤهم ويتناقلوه الرواة شفاهيا أو مكتوبا بين القبائل، له قواعد عروضية تصل حوالي ستة عشر بحرا بما يسمى بحور الشعر التي وضع قواعدها عبقري اللغة العربية الخليل بن احمد الفراهيدي الذي توفي عام 170 هجرية الموافق 786 ميلادية، بمعنى بعد مضي قرون طويلة تقارب اربعمائة عاما على نظم وتداول الشعر العربي الجاهلي على السليقة الفطرية وصولا الى تاريخ صدر الاسلام لقرنين هجريين تقريبا قبل وضع الفراهيدي عروض الشعر زمن الدولة الاموية في خلافة عبد الملك بن مروان، ولم يكن واحدا من اؤلئك الشعراء قبل ذلك ولا من متلقيه من عوام القبائل لهم معرفة مسبقة أن قواعد النظم الشعري المّقفى الموزون يقوم على قواعد لسانية لغوية نحوية في التزام ضوابط البحور في قول الشعر الموزون المقفى التي أجملها الفراهيدي كما قلنا في 16 بحرا أكثر أو أقل حسب التطورات الفنية التي طرأت على الشعر العربي عبر العصور والتاريخ... والاكثر أدهاشا أن العرب تناقلت منظوم الشعرالموزون المقفى شفاها ومكتوبا ولم يخطر ببال أحد لا من الشعراء ولا من العامة التشكيك أن هذا القول الشعري يختلف تماما عن النثر السردي بالكلام العادي الشفاهي كما لم يشكك أحد في اختلاف الشعر تماما عن لغة القران الكريم الذي يحتوي الآيات الكثيرة التي فيها السجع النثري في وحدة قافية الروي لكن تلك الآيات المسجوعة بقافية موحدة لا يشابه السجع فيها موزون القافية عروضيا كما في الشعر...وكانت للذائقة العربية الفطرية في تلقي انشاد الشعر منظوما ومقفى هو نوع من ملكة ما أطلق عليه علماء اللغة تعبير ما فوق اللغة. فالعرب كقبائل ايضا كانوا متلقين للشعر يقدسونه ويفاخرون به وهم لا يعرفون أن لهذا القول الشعري ضوابط وقواعد عروضية سيضعها عبقري اللغة العربية الفراهيدي بعد قرنين من ظهور الاسلام أي بعد مضي مائة وسبعين سنة على مجيء الاسلام تحديدا. ومارس الشعراء النظم الشعري العمودي صدرا وعجزا موزونا مقفّى فطريا على السليقة...ويؤكد علماء اللغة هذه الحقيقة قولهم (لا يوجد علم لغة الا اذا كان هناك علم ماوراء لغوي، أي عندما تكون لدينا لغة ماورائية (ماوراء اللغة) لتمثيل لغة أخرى اللغة الموضوع التي تعني أن فنون اللغة تنشا قبل علوم اللغة).3

هذا تاكيد ماسبق لنا ذكره أنه لا يشترط في أبداع اللغة ضرورة أتقان قواعد نحو تلك اللغة قبل الكلام فيها والكتابة بها وهو ما يذهب له جومسكي في نظريته التوليدية التي تقوم على ملكة فطرية مستقلة عن قواعد أتقان نحو اللغة والقواعد التقنية الفنية المتعالقة بها. لكنما يبقى هذا الامر من وجهة نظرنا نسبيا في التسليم بصحته ولا يمكن تعميمه على بعض اللغات منها على سبيل المثال لغتنا العربية، كان على المتكلم أو الخطيب في اللغة العربية في عصري الجاهلية وصدر الاسلام من المعيب والمخجل أن (يلحن) أي أن يخطأ في كلامه أعرابا نحويا، في عدم تفريقه بين المرفوع والمنصوب والمجرور، وكانت تكتب اللغة العربية منذ العصر الجاهلي الى عصر الامام علي بن ابي طالب، كما تكتب لغة القرآن بلا تنقيط وبلا حركات على الحروف وكان العرب يتخاطبون ويكتبون لغتهم بلا أخطاء نحوية أو بلاغية مربكة للمتلقي وبقيت تلك الحال سارية عبر العصور، علما أن عرب الجاهلية وعرب صدر الاسلام كانوا يتكلمون العربية بلهجات متعددة مختلفة عن عربية لغة القران الفصحى التي نقرأها ونكتب بها اليوم، ولم تجمع تلك اللهجات المتنوعة والمختلفة سوى لغة القران المكتوبة بعد جمعه وتدوينه وتنقيطه التي أدخلت هذه اللهجات العربية اللغوية المختلفة هي الاخرى قراءات متعددة لآيات القران( القراءات السبع) ما جعل أهمية وضرورة ضبط نحو كتابة وتلاوة القران الكريم تقوم على لهجات لغوية موحدة في القراءة بمرجعية أعتماد مدونة كتابة القرآن بالعربية الفصحى... وبقيت الحال كما هي الى أن وضع الفراهيدي 100- 170 هجرية أيضا ضرورة تنقيط المصحف لدرء الالتباس الحاصل في اللغة فوضع الحركات الاربع على حروف الكلمات التي هي (الكسرة والضمة والفتحة والسكون) كما وضع الشدّة والتنوين أيضا، فأصبح بعدها (اللحن) أي الخطأ في نحواللغة العربية وقواعدها شفاها أو كتابة من الامور المعيبة المخجلة للعربي وأنتقاص من مهابة وحرمة اللغة العربية وجمالها الموسيقي المتناغم، وليس معنى هذا أن الاخطاء النحوية قبل أنجاز الفراهيدي قواعد ضبط نحو اللغة العربية كانت تمر بسهولة قبل أن يضبط الفراهيدي التنقيط ويضع الحركات الاربع على حروف الافعال والاسماء ويخترع ايضا التنوين والشدّة لتمييز لفظ الحروف أو الكلمة بنحو لغوي سليم بعيدا عن اللحن اللغوي... فقد كانت السليقة الفطرية الجمعية في تلقي اللغة العربية الفصحى بفطرة مافوق اللغة يقظة تماما تجاه أي خرق معيب في النحو والغريب أن هذه الذائقة السماعية لدى متلقي الكلام أو الخطاب كانت فطرية تماما أي أنها كانت ملتزمة بمصطلح ما فوق اللغة بالسليقة. حيث توجد رواية تقول أن عرب الجاهلية أي عرب ماقبل الاسلام كانوا يلفظون الكلمات مشّكلة في علامات الاعراب شفاهيا قبل وضع الفراهيدي لها كتابة وتركوها كتابة أي تركوا وضع الحركات التي كانوا يلفظونها ولا يكتبونها بعد مجيء الاسلام وكتابة القران غير منقّط ولا مشكّل نحويا.

ملحق** مسألة تنقيط القرآن وأن كان هذا ليس موضوعنا أن القرآن كان يتلى قراءة مكتوبة وكلاما شفاهيا في عهدي الرسول محمد (ص) والصحابة ولم يكن منقوطا ولا مشكّلا بالحركات الاربع والشدّة والتنوين التي وضعها الفراهيدي لاحقا. وتوجد في مسألة تنقيط القران أكثر من رواية واحدة منها أن الخليفة علي بن ابي طالب(ع) حين وجد اللحن في تلاوة القرآن مستشريا بين المسلمين طلب من ابي الاسود الدؤلي وكان عالما مشهودا له الامانة والصلاح في تدينه واسلامه واتقانه نحو اللغة العربية مهمة القيام بتنقيط القرآن ليخلفه أثنان من تلامذته من بعده هما نصر بن عاصم الليثي ويحيى بن يعمر أكمال المهمة التي لم تكتمل بشكلها النهائي القويم الا بجهود الفراهيدي في القرن الثاني الهجري، ورواية أخرى تقول أن الخليل بن احمد الفراهيدي قام بأتمام مهمة تنقيط القران وتشكيله بالحركات وضبط قواعد النحو فيه بطلب من الحجاج بن يوسف الثقفي في عصر الدولة الاموية تنفيذا لتوصية من عبد الملك بن مروان، وبالتاكيد يوجد من هم أختصاص ضليعين في مسائل دراسة اللغة العربية يعرفون الصحيح من هذه الروايات ويتركون المنحول منها التي ليس لها سند توثيقي تاريخي..وبالتاكيد يوجد رواية صادقة ثابتة واحدة تنهي الاشكال المفتعل بهذا الموضوع لاغراض سياسية تكمن وراءه.. وهذا ليس من مهامنا في هذا المقال.

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.
الهوامش: فلسفة اللغة/سيلفان اورو،جاك دريشان،جمال كولوغلي/ترجمة د.بسام بركة /1 ص 114/2 ص 116/ 3 ص 117

اضف تعليق