اخبار

كيف تُصنَع ثقافة التنبؤ بالمستقبل؟

رؤى من أفكار الإمام الشيرازي

ان ثقافة التنبؤ أصبحت اليوم حاجة فردية، ومجتمعية، وعالمية أيضا، لأننا نحتاج أن نضمن مستقبلا مناسبا وآمنا، ولعل المحاولات العالمية التي تجري اليوم لمحاصرة تداعيات تغييرات المناخ (القاتلة) مستقبلا، قد تأتي متأخرة رغم أنها مفيدة، لذا من الأهمية بمكان أن ينحو الجميع (أفراد، دول، أمم)...

(تتم صناعة المستقبل عبر برنامج يضعه الإنسان لتحقيق أهدافه الكبيرة)

الإمام الشيرازي (رحمه الله)

التنبُّؤ (اسم)، كما جاء في معجم المعاني العربي، وهو مصْدَر الفعل (تنبّأَ)، وجمعه (تنبّؤات)، ومعناه تكهُّن أو استشفاف أو توقُّع النتائج أو أحداث المستقبل قبل وقوعها عن طريق التخمين، أو دراسة الماضي، أو التحليل العلميّ والإحصائيّ لوقائع معروفة، مثال ذلك الـ (تنبؤات جوّيّة/ ماليّة.... إلخ).

المستقبل هو أحد الأبعاد الثلاثة للزمن، الماضي، الحاضر، المستقبل، والأخير يخص الأحداث التي لم تقع بعد، ولكن يمكن للإنسان أن يكتشف تلك الأحداث بدرجة معينة من الدقة، بحسب قدرات وأدوات وأساليب التخمين أو التوقّع أو التكهّن، فالمستقبل هو وعاء الأحداث القادمة بمختلف أنواعها وأحجامها وأشكالها.

لماذا يستوجب على الإنسان سواء كان (فردا، أو أمة) معرفة المستقبل، وكيف تتم هذه المعرفة؟؟

السبب الأهم الذي يحتّم على الناس والأمم معرفة مستقبلهم، يتمثل بالاستعداد والتحسّب لوقوع الأحداث المقبلة، لاسيما الصعب أو الخطير منها، فهناك مفاجآت وأزمات مختلفة الأنواع والمصادر تحدث في المستقبل، منها الطبيعية كالزلازل والفيضانات والبراكين، أو الجفاف وسوى ذلك، وكما نلاحظ اليوم في أزمة المناخ التي يناقشها كبار قادة العالم بسبب الارتفاع الكبير بدرجة الحرارة، وانعكاس ذلك على كوكب الأرض بأكمله!!

ومنها أيضا الأزمات البشرية التي تخص السياسة والاقتصاد والاجتماع وسواه، بمعنى يجب على الإنسان كشف المتوقَّع من أحداث المستقبل، لتحاشي أزماته ومفاجآته كي يستعد الإنسان لمواجهتها، ولا يُفاجَأ بوقوعها، وهذا يحتاج إلى ترويج ونشر ثقافة التنبّؤ على مستوى الأفراد والدول والأمم أيضا، لاسيما في مجال الاقتصاد الذي يمثل عصب الحياة الأول.

ما هي آفاق قراءة المستقبل؟

الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (فقه المستقبل):

(الإنسان الذي يتنبأ بأوضاعه الاقتصادية في المستقبل، إذا استطاع أن يستشف المستقبل ويقرأ آفاقه بصورة جيدة، فإنه سيأخذ الحيطة والحذر في ذلك، وإلاّ فإنّ كارثة مّا ستحلّ عليه، ويخسر كلّ شيء في صفقة الزمن المملوء بالاحتمالات).

كيف ننمّي ثقافتنا في هذا المجال وما هو المطلوب كي تتطور قدرتنا على التنبّؤ، سواء على مستوى الأفراد أو المجتمع عموما، هناك خطوات مهمة وواضحة يجب أن يتوخاها الفرد بشكل ذاتي، حتى يطوّر قدرته على التنبّؤ، يقع في المقدمة منها دراسة الماضي بشكل دقيق، ومعرفة ما يجري في الحاضر من أحداث، ثم يربط بين الاثنين، ليستنتج عددا من التوقعات والتخمينات كي تصل به إلى بعض النتائج التي تبقى درجة دقتها متذبذبة بالسلب والإيجاب، تبعا لقدرة الفرد وعلميته وقوة ملاحظته وخبراته في الاستنتاج.

على مستوى الأمة أو المجتمع، يجري التكهّن أو التنبّؤ بشكل مختلف، يقوم على العمل العلمي الجماعي، من خلال مؤسسات ومنظمات متخصصة في هذا المجال، يقع عليها مسؤولية دراسة الماضي والحاضر، واستخلاص التنبّؤات الأكثر دقة فيما سيحصل في المستقبل، فعلى صعيد التنبؤات الطبيعية، تقوم الأمم والدول الرصينة بدراسة حيثيات شحة المياه على سبيل المثال، يجري ذلك وفق خطوات علمية منتظمة وصولا إلى نتائج تنبّؤية قريبة مما سيحدث مستقبلا.

يؤكد الإمام الشيرازي في هذا الإطار على أن (الأمم التي لا تتمكن من التنبؤ بمستقبل شِحة المياه، فإنّها ستعاني من الجفاف وقلة الزرع وكثرة الأمراض، وربما الحروب الناتجة عن ذلك، وربما أودى ذلك إلى سقوط الدولة وهلاك الشعب. بينما من تنبأ بالمستقبل فإنه يستعد لذلك الخَطر، ويقوم بتخزين المياه، وترشيد صرفها فإذا حدث نقص بالماء لم يضرّه بشيء).

هذا ما يجري اليوم في العراق علي سبيل المثال، فهناك أزمة مياه تلوح في الأفق تم الإعلان عنها منذ سنوات طويلة، وها نحن في السنة الحالية (2021)، نواجه حالة جفاف أجبرت وزارة الزراعة العراقية على تقليص المساحة الزراعية إلى النصف (50%)، وقد تسبب هذا بقلة الإنتاج الزراعي وفتح الاستيراد، وألحق أضرارا فادحة بسكان الأرياف، وأدى إلى هجرة مضاعفة نحو المدن، وهذه كلها مؤشرات على التدني الاقتصادي والاجتماعي المتدني.

التقدم والتنبّؤ بالمستقبل

تلك التنبؤات بشحة المياه مستقبلا لم تكن خاطئة، لكن المشكلة تكمن في عدم الاهتمام الحكومي بالتحذيرات من الشحة المائية المتوقعة، وهذا يثبت أن صحة التنبؤ وحدها لا تجدي نفعا ما لم يتخذ المسؤولون الإجراءات الكفيلة بمواجهة مخاطر تلك التوقعات.

فما كان يقع على الجهات الخاصة بالتنبّؤ تم تقديمه وفقا لمعلومات دقيقة وواقعية، لكن المطلوب هو تحويل التنبّؤ إلى حالة استعداد عملية، تجنّب العراق خطر الجفاف الذي لا يزال وسوف يستمر بتهديده، مما يمنعه من مواصلة التقدم إلى أمام، وهذا الأمر له علاقة تامة بالإرادة السياسية والتخطيط.

الأسباب التي تؤدي إلى ضعف أو عدم وجود ثقافة التنبؤ بالمستقبل شائعة، يأتي في المقدمة منها الإهمال الرسمي أو الحكومي للمؤسسات والمنظمات العلمية التي تتصدى لهذا النوع من التنبؤات، وكذلك الحال بالنسبة للمنظمات غير الحكومية التي تهتم بالأحداث المستقبلية فهي قد تكون متقاعسة في هذا الجانب، وبالنسبة للأفراد فإن النسبة الأكبر منهم قد لا يهتمون بثقافة التنبّؤ أو حتى التخطيط لمستقبلهم، مما يعني أننا نعاني من حالة خلل في هذا الميدان.

أما نتيجة ذلك، فيمكن إجمالها وتأكيدها بحدوث أزمات ومفاجآت قاهرة، تعود بأضرار كبيرة على الدولة وقاتلة بالنسبة للمجتمع، فبعضها قد يصل إلى تهديد الوجود للدولة ومواطنيها أيضا، وهذا الأمر بات اليوم يمثل خطرا عالميا بسبب ظاهرة الاحتباس الحراري، لذا فإن من يستعد لتوقعات المستقبل هو الذي سوف يكون حاضرا في ميدان التقدم بشكل متواصل.

يقول الإمام الشيرازي:

(إن الذي يعي المستقبل ويخطط له في راحة، فإنه يكون مستعداً حتى لو حلّت الكارثة؛ لأنه قد تدبّر لكل أمرٍ أمراً، ووضع لكل احتمالٍ حلاً. فهو متطلع دائماً للزمن القادم، ممّا سيجعله في سباق مع الزمن وفي تقدم مستمر).

المهم في هذا الجانب، أن يستمر العمل المدروس على صناعة فرد قادر على التنبؤ، بل ولابد أن تصبح قضية بناء المستقبل والتخطيط له، وفهم الأحداث المتوقعة فيه، ثقافة تفكير وسلوك لدى الجميع، فالإنسان الذي يتحلى بمثل هذه الثقافة ويكون حريصا على إتقانها وتطويرها، فإنه سوف يكتسب امتيازات مهمة منها وأهمها، أنه يكون عارفا بالفرص المتاحة له فيقوم باستثمارها جيدا.

كذلك سوف يكتسب مهارة في معالجة المفاجآت المستقبلية، بعد أن يتوقّع حدوثها مستقبلا، وإذا حدث بالفعل، فإنه سوف يكون قادرا على درء مخاطرها، وإن لم تحدث فإنه لن يتعرض إلى خسارة أو خطر، لهذا من أهم الخطوات التي يستحسن بالفرد المبادرة إليها تنمية ثقافة التنبؤ لديه والتركيز على ذلك بطريقة علمية.

يقول الإمام الشيرازي:

(الإنسان الذي يتطلّع إلى ما قد سيحدث له في المستقبل، ويُميّز الأخطار، ويميز الفرص المواتية، سيأمن جانبه، وسيبعد عن نفسه الأخطار المهلكة وسيستفيد من الفرص المواتية، أما أولئك الصنف من الناس الذين فرضوا على أنفسهم العزلة عن التفكير بالمستقبل، فإنهم عادة ما سيصبحون مَحرَقَةً للأحداث القادمة).

هكذا نفهم أن ثقافة التنبؤ أصبحت اليوم حاجة فردية، ومجتمعية، وعالمية أيضا، لأننا نحتاج أن نضمن مستقبلا مناسبا وآمنا، ولعل المحاولات العالمية التي تجري اليوم لمحاصرة تداعيات تغييرات المناخ (القاتلة) مستقبلا، قد تأتي متأخرة رغم أنها مفيدة، لذا من الأهمية بمكان أن ينحو الجميع (أفراد، دول، أمم)، إلى تطوير ثقافة التنبؤ لديهم بصورة مستمرة.

اضف تعليق