q
تبنَّى النهج السلوكي وجهةَ نظرٍ مُفادها أنه نظرًا لأن ما يحدُث في ذهن الشخص غيرُ قابل للملاحظة؛ ومن ثَم غير قابل للدراسة العلمية، يمكن تجاهل جميع العمليات اللاواعية وركَّز عوضًا عن ذلك على دراسة السلوك الذي يمكن ملاحظته، وعلى تطويرِ النظريات لتفسير كيف تعلَّم الشخص هذا السلوك (نظرية التعلُّم)...

أدركَ الإنسانُ دَور السلوك في تحديد الاستجابات الانفعالية منذ وقتٍ طويل. فقد قال أرسطو في كتابه «الأخلاق النيقوماخية» إن «التصرُّف بشجاعةٍ هو ما يجعل منا شجعانًا»، بينما أشار يوهان فولفجانج فون جوته (١٧٤٩–١٨٣٢) إلى أنه «في علاج الاعتلالات النفسية … الفهمُ لا يفيد بشيءٍ، والمنطقُ يفيد قليلًا، أما الوقتُ فيفيد كثيرًا، ولكن العمل العازم الحثيث هو كلُّ شيء».

هذه هي الفكرة الأساسية وراء العلاجات السلوكية المعرفية؛ وهي أن إدراكنا (أي: أفكارنا أو الأحداث العقلية الأخرى) وسلوكياتنا يؤثران على الطريقةِ التي نشعر بها، والعكس صحيح. كما أن الأفكار والمشاعر تلعب دورَ الوسيط بين ما يحدُث لنا واستجابتنا له. على سبيل المثال، تعرَّض كلٌّ من جاك وجيل للخَدش من قطةٍ عندما كانا طفلَيْن. تطوَّر خوف جاك إلى رُهابٍ من القطط، بينما لم يحدُث ذلك لدى جيل. يوجد العديد من المتغيِّرات التي كانت السبب في استجابتهما بشكلٍ مختلف، بما في ذلك العوامل البيولوجية مثل القابلية الوراثية للإصابة بالقلق، والعوامل البيئية والاجتماعية الثقافية مثل التعرُّض للقطط الأخرى، والدَّور الذي تلعبه القطط في ثقافتهما. ومع ذلك، قد يكون لدينا الفرصةُ لتحسين الرُّهاب الذي يعاني منه جاك، من خلالِ التحليل الدقيق لأفكاره حول القطط وسلوكه تجاهها.

في السنوات الأخيرة، أصبحَ العلاج السلوكي المعرفي هو النموذجَ السائد للعلاج النفسي، في كلٍّ من المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية، وأصبحَ استخدامه أكثرَ انتشارًا. والدليل على فعاليته كافٍ ليكون تدخلًا موصًى به في معظمِ مشكلاتِ الصحة العقلية الشائعة، المدْرَجةِ في الإرشادات الخاصة بالمعهد الوطني للتميُّز السريري التابعِ لحكومة المملكة المتحدة (https://www.nice.org.uk). ومع ذلك، فإن جزءًا من أسباب نجاح العلاج السلوكي المعرفي هو قدرته على التطوُّر، وهذا التطوُّر مستمر.

ولذلك، يختلِف العلاج السلوكي المعرفي اليوم عمَّا كان عليه قبل عَقد أو عَقدين مَضيا، ومن المرجَّح أن يختلف أيضًا بعد عَقد أو عَقدَيْن آخرَيْن. من الناحية التاريخية، نشأ العلاج السلوكي المعرفي من نظرياتٍ حول كيفية تَعَلُّمنا، لا سيما حول كيفيةِ تَعَلُّم السلوكيات، وكذا من عملِ العديد من علماء النفس الذين درسوا العملياتِ المعرفيةَ التي تكمُن وراء كيفية إدراكنا للعالم، وكيف نفكِّر ونتذكَّر.

قبل خمسينيات القرن الماضي، كان العلاج النفسي الديناميكي لسيجموند فرويد هو النموذجَ السائد للعلاج النفسي. ولكن التحليل النفسي الفرويدي ركَّز على العمليات غيرِ القابلة للرصد التي تحدُث داخل العقل، مما يعني أنه كان غيرَ قابلٍ للقياس؛ ومن ثَم غير قابل للاختبار إلى حدٍّ كبير، أي إنه لم تكن هناك طريقةٌ لتقييم الأدلة على أساسه النظري أو فعاليته. ومن ثَم، كانت فائدته موضعَ تساؤل لدى علم النفس العلمي، الذي اعترضَ على غيابِ العمليات والنتائج التي يمكن ملاحظتها وقياسها. ونتيجةً لذلك، نشأ العلاج السلوكي من علم النفس العلمي.

تبنَّى النهج السلوكي وجهةَ نظرٍ مُفادها أنه نظرًا لأن ما يحدُث في ذهن الشخص غيرُ قابل للملاحظة؛ ومن ثَم غير قابل للدراسة العلمية، يمكن تجاهل جميع العمليات اللاواعية (غير القابلة للرصد)، وركَّز عوضًا عن ذلك على دراسة السلوك الذي يمكن ملاحظته، وعلى تطويرِ النظريات لتفسير كيف تعلَّم الشخص هذا السلوك (نظرية التعلُّم).

درس مُنظِّرو السلوك والتعلُّم الارتباطاتِ بين الأحداثِ التي يمكن ملاحظتها، ولا سيما «المثيرات» (وهي جانبٌ من جوانب البيئة)، و«الاستجاباتِ» (أي: ردود الفعل، التي يمكن ملاحظتها أو قياسها، الصادرة من الشخص أو الحيوان الخاضع للدراسة) لفَهْم كيف يتعلَّم الناس تكوينَ ارتباطاتٍ جديدة بين المثيرات والاستجابات؛ على سبيل المثال، كيف تتطوَّر مخاوفُ لدى الناس من أشياءَ غير ضارة.

كان الهدف هو استخدام النظريات الخاصة بكيفية تَعَلُّم الناس، بغرضِ تعديل الاستجابات الانفعالية أو السلوكية غير المرغوب فيها، مثل الخوف. فبدلًا من النظر إلى أنواع الرُّهاب باعتبارها وسيلةَ دفاع ضد القلق من الرغبات المُلحَّة المكبوتة، كما كان يرى فرويد، رأى منظِّرو السلوك والتعلُّم أنها ارتباطاتٌ مكتسَبة. ولذا، كان يُنظَر إلى أنواع الرُّهاب على أنها استجاباتٌ اكتُسِبَت، إما من خلال التجربة المباشرة أو عَبْر شكلٍ من أشكال الملاحظة أو التوجيه. وإذا كان الرُّهاب استجابةً مكتسَبة نتعلَّمها، فمن المنطقي أنَّ ما يمكن اكتسابه يمكن تركه أيضًا.

استخدمَ المنظِّرون السلوكيُّون الحيواناتِ لدراسة عملية التعلُّم علميًّا، وحدَّدوا ثلاثة أنواعٍ رئيسية من التعلُّم. الأول هو «الارتباط الشرطي الكلاسيكي»، وهو التعلُّم الذي يعتمد على الارتباط بين الأحداث، مثل الشعور بالجوع عند سماع جرس العشاء؛ لأنك أصبحت تَربِط بينه وبين مواعيد الوجبات. والثاني هو «الارتباط الشرطي الاستثابي»، وهو التعلُّم الذي يعتمد على نتائج السلوك؛ ومن ثَم تؤدي النتائج الإيجابية إلى تَكرار السلوك، بينما تؤدي العواقبُ السلبية إلى التقليل من تَكرار السلوك.

ومن الأمثلة على ذلك تعلُّم عدم لمس الأشياء الساخنة لأنها تؤلم، والعمل سعيًا إلى كسبِ المال. الشكل الثالث والأخير للتعلُّم، هو «التعلُّم القائم على الملاحظة»؛ أي التعلُّم من خلال مشاهدة الآخرين، مثل تعلُّم استخدام لعبة كمبيوتر من خلال مشاهدة شخصٍ آخرَ يلعبها.

* مقتبس من كتاب (العلاج السلوكي المعرفي: مقدمة قصيرة جدًّا)، لمؤلفه فريدا مكمانوس، مترجم من قبل مؤسسة هنداوي

اضف تعليق