q
تعرضت مصانع وبنوك ومتاجر للنهب أو التخريب في أنحاء الخرطوم وتعطلت إمدادات الكهرباء والمياه. وأفاد السكان بارتفاع حاد في الأسعار ونقص في السلع الأساسية. وخلت أحياء بأكملها من سكانها الذين ينتابهم الخوف على منازلهم. لكن الفرار يقودهم الى جحيم آخر. وقال مسؤولون إن أكثر من 100 ألف لاجئ...

تسببت المعارك المستمرة منذ منتصف أبريل نيسان في سقوط مئات القتلى وآلاف المصابين وتعطيل إمدادات الإغاثة وفرار 100 ألف لاجئ إلى الخارج وتحويل أحياء سكنية في الخرطوم إلى ساحات حرب.

وعلى الرغم من إعلان وقف إطلاق النار لمرات عدة، بدا أن الجانبين يتصارعان للسيطرة على أراض قبل محادثات مقترحة.

ويهدد صراعهما على السلطة باستقطاب قوى خارجية مما يزيد من زعزعة الاستقرار في منطقة مضطربة بالفعل.

وتعرضت مصانع وبنوك ومتاجر للنهب أو التخريب في أنحاء الخرطوم وتعطلت إمدادات الكهرباء والمياه. وأفاد السكان بارتفاع حاد في الأسعار ونقص في السلع الأساسية. وخلت أحياء بأكملها من سكانها الذين ينتابهم الخوف على منازلهم. لكن الفرار يقودهم الى جحيم آخر.

وقال مسؤولون بالأمم المتحدة إن أكثر من 100 ألف لاجئ عبروا حتى الآن من السودان إلى دول مجاورة هربا من الصراع الذي اندلع الشهر الماضي بينما نزح مئات الألوف داخل البلاد.

وقالت المتحدثة باسم المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أولجا سارادو في إفادة صحفية بجنيف "يقدر عدد اللاجئين الذين عبروا الآن إلى الدول المجاورة بما في ذلك اللاجئون السودانيون بأكثر من 100 ألف لاجئ".

وذكرت المنظمة الدولية للهجرة في نفس الإفادة الصحفية أن 334053 شخصا نزحوا داخل السودان منذ 15 أبريل نيسان.

وقال بول ديلون، المتحدث باسم المنظمة "في حالات كثيرة، تواجه القوافل الصغيرة نوعا ما التحدي القائم بين الفصائل المتحاربة، وهو وضع صعب وخطير للغاية بالنسبة لأولئك الذين يشرعون في القيام بهذه الرحلات".

وقال مسؤول في الأمم المتحدة إن أكثر من 800 ألف شخص قد يفرون من السودان بسبب الصراع الحالي، منهم كثيرون ممن كانوا قد وصلوا إلى السودان كلاجئين.

وأضاف رؤوف مازو في إحاطة للدول الأعضاء بالأمم المتحدة في جنيف "بدون حل سريع لهذه الأزمة، سنستمر في رؤية المزيد من الناس يضطرون للفرار بحثا عن الأمان والمساعدات الأساسية".

ومضى يقول "بالتشاور مع جميع الحكومات والشركاء المعنيين، توصلنا إلى رقم تخطيطي يبلغ 815 ألف شخص قد يفرون إلى الدول السبع المجاورة".

وأضاف أن هذا التقدير يشمل نحو 580 ألف سوداني ولاجئين آخرين سبق أن جاءوا إلى السودان من جنوب السودان وبلدان أخرى.

وقال إن نحو 73 ألفا فروا بالفعل إلى الدول المجاورة للسودان وهي جنوب السودان وتشاد ومصر وإريتريا وإثيوبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى وليبيا.

وحذر عبده ديانج منسق الشؤون الإنسانية بالأمم المتحدة في السودان من تحول الأزمة الإنسانية هناك إلى "كارثة شاملة"، وقال إن احتمال امتداد الأزمة السودانية إلى دول أخرى مبعث قلق كبير.

وقال ديانج في إحاطة للدول الأعضاء عبر اتصال بالفيديو "مر أكثر من أسبوعين من القتال المدمر في السودان، صراع يحول الأزمة الإنسانية في السودان إلى كارثة شاملة".

عالقون بلا مخرج

مدينة بورتسودان هي مركز للشحن وتتحول في بعض الفترات إلى وجهة سياحية، لكنها تعاني في مواكبة أعداد السودانيين والسوريين واليمنيين الذين يصلون كل يوم.

وتصل تكلفة حجز الغرفة إلى 100 دولار في الليلة، وهو مبلغ أعلى من قدرات الكثير من اللاجئين الذين يضطرون إلى النوم في العراء في الحدائق العامة وتحت الأشجار وأمام المباني الحكومية.

وأقامت بعثات دبلوماسية تابعة لدول أجنبية وأخرى تابعة للأمم المتحدة قواعد هناك وسط تنافس فيما بينها من أجل الحصول على مساحات من الأرض. وتقول السعودية التي تقع على البحر الأحمر في الجهة المقابلة لبورتسودان إنها أجلت نحو ثمانية آلاف شخص.

لكن كثيرين يشكون من صعوبة التواصل واندلع عدد من الاحتجاجات المحدودة.

كانت هنادي السر من بين آلاف هرعوا إلى بورتسودان على أمل الفرار بحرا أو جوا من القتال العنيف الدائر بين الجيش وقوات الدعم السريع.

وبعد مرور عشرة أيام، لا تزال هنادي تخيم في المدينة الواقعة على البحر الأحمر وسط درجات حرارة مرتفعة للغاية إلى جانب آخرين ينتظرون في الخيام وأماكن الإيواء من أجل الحصول على تذكرة للسفر.

وقالت هنادي (37 عاما) "أنام علي الأرض وليس لدي أموال لاستئجار غرفة في فندق .. هنا لا توجد خدمات".

وقال المهندس السوداني أحمد حسن "كل ما نتلقاه وعود ولكن لا نعرف متي يتم اجلاؤنا".

ويعمل حسن مهندسا في السعودية لكنه حضر للسودان قبل شهر لتلقي العزاء في وفاة والدته.

لم تدر معارك تذكر في مدينة بورتسودان لكن المدينة تتأهب حاليا لتداعيات أزمة اقتصادية عامة.

وقال مسؤول بأحد الموانئ إن تعطل الإجراءات البنكية والجمركية أضر بعمليات الشحن الذي يشكل النشاط الرئيسي للاقتصاد المحلي.

وأدى تعطل أنظمة الاتصالات والبنوك إلى صعوبة حصول اللاجئين على الأموال.

وقال سالم الذي كان ينتظر تحت إحدى الخيام المؤقتة "لقد خارت قوانا، ليس لدينا خصوصية أو حرية. تمنيت عدم مغادرة الخرطوم أبدا. لقد تحركنا لإيجاد مخرج، ولكن لا يوجد مخرج حتى الآن".

وقالت روان عبد الرحمن، وهي طبيبة متطوعة في الهلال الأحمر السوداني، إن العيادات الميدانية تفحص يوميا "حوالي 400 مريض من سودانيين وأجانب وأكثرهم من السوريين واليمنيين".

وأضافت أن العيادات تعاني من نقص في الأدوية والأطباء والمستلزمات الطبية.

والكثير من المرضى الذين تعالجهم روان هم أشخاص حضروا إلى السودان في الأصل فرارا من الحرب في بلادهم.

وقال أبو منير، وهو مواطن سوري يملك مطعما صغيرا في الخرطوم، إنه واحد من خمسة آلاف سوري ينتظرون مغادرة البلاد.

وقال لرويترز وقد بدا عليه الإرهاق بعد أن أمضى أكثر من أسبوع في الشارع "أنا حضرت من سوريا للسودان قبل تسع سنوات هربا من الحرب والآن الحرب تطاردنا في السودان... أملنا الوحيد أن نرجع سوريا رغم الحرب في بلدنا ".

لاجئات في تشاد بلا مأوى

في مخيم للاجئين في شرق تشاد النائي، توشك آمنة مصطفى على الولادة، وتصيبها تقلصات الحمل بالدوار، كما تتورم قدماها بسبب ارتفاع درجات الحرارة. ويبني زوجها كوخا من العصي والحبال لإيواء المولود المنتظر.

وفرت آمنة (28 عاما) من قريتها في السودان قبل ثمانية أيام، وهي واحدة من آلاف الأشخاص الذين فروا من بلادهم منذ بدء القتال بين قوات الجيش وقوات الدعم السريع شبه العسكرية قبل أسبوعين.

لكن العديد من الدول التي تستضيف الوافدين الجدد، ومن بينها تشاد، لديها مشاكلها الخاصة مثل نقص الغذاء والجفاف وارتفاع الأسعار، وهو ما خلق أزمة إنسانية خارج حدود السودان تكافح الوكالات الدولية لاحتوائها.

وقالت آمنة وهي جالسة تحتمي بظل شجرة، ملاذها الوحيد من حرارة الشمس أثناء النهار ومن الرياح أثناء الليل "لا أعرف ماذا أفعل. سمعت أن هناك قابلات، لكن منذ أن لجأنا إلى هنا، أنجبت العديد من النساء بدون مساعدة طبية. أنتظر دوري".

وآمنة ليس السيدة الوحيدة. وقال زوجها إن ثماني نساء أخريات وضعن بدون مساعدة في المخيم بقرية الكفرون حيث تصل درجات الحرارة إلى 45 درجة مئوية. ويقدم برنامج الأغذية العالمي حصص إعاشة لكن المسؤولين يقولون إن هناك حاجة إلى مزيد من التمويل.

وقال بيير هونورات مدير برنامج الأغذية العالمي في تشاد "نقوم بتوصيل الغذاء... لكننا سنحتاج إلى المزيد... نحن بحاجة حقا إلى مساعدة ضخمة".

وبدأ الصراع بين الفصيلين العسكريين في العاصمة الخرطوم حيث تقطعت السبل بالسكان والتزموا في منازلهم في ظل القصف والمقاتلين الذين يجوبون الشوارع.

وامتد الصراع منذ ذلك الحين إلى مناطق أخرى تشمل إقليم دارفور من حيث جاءت آمنة. وتسبب القتال الأخير في تأجيج الصراع المستمر في الإقليم منذ عقدين وزيادة أعمال العنف.

ويقول برنامج الأغذية العالمي إن ما بين عشرة آلاف إلى 20 ألف سوداني عبروا بالفعل الحدود إلى تشاد.

وقال خميس هارون زوج آمنة وهو يقف بجوار هيكل من العصي غير مكتمل لمنزلهما الجديد "أنجبت عدة نساء هنا لكن ليس لديهن مأوى... وليس بإمكان أي شخص بناء حتى هذا المأوى البسيط".

رحلة على الجمر

كان طالب القانون النيجيري عمر يوسف يارو مسترخيا في شقته حينما سمع لأول مرة دوي الطلقات النارية في الشهر الماضي بالحي الذي يقطنه في العاصمة السودانية الخرطوم.

وعلى مدى الأيام التسعة التالية، مكث يارو وحيدا ليتجنب الاشتباكات بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع شبه العسكرية على أمل أن يتوقف القتال.

وفي ظل تعطل الإنترنت لديه واقتراب نفاد مخزونه من الطعام، فتح يارو بيانات هاتفه المحمول يوم 24 أبريل نيسان ووقعت عيناه على جملة أعادته إلى الحياة على تطبيق تيليجرام، وهي "ستجلي نيجيريا رعاياها" عند فجر اليوم التالي من حرم جامعة أفريقيا العالمية في العاصمة التي مزقتها الحرب.

سارع يارو بحزم حقيبتين وتوجه إلى أقرب محطة حافلات. لكن لم تصل أي وسيلة مواصلات.

وقال يارو "ظهرت قوات الدعم السريع بأسلحتها فجأة من العدم. صوبوا سلاحهم نحوي، ربما لإخافتي، وسألوني عن وجهتي في هذا الوقت من الليل بالحقيبتين".

وكانت تلك بداية رحلة طويلة ومروعة إلى بر الأمان.

بينما أرسلت الدول الغنية مثل الولايات المتحدة وبريطانيا طائرات لإجلاء رعاياها من مطار بالقرب من الخرطوم، عانى أفارقة وأجانب آخرون من دول أقل ثراء للعثور على طريق للخروج.

تكدس الآلاف في الحافلات والشاحنات في الرحلة الممتدة 800 كيلومتر برا من الخرطوم إلى بورتسودان في ولاية البحر الأحمر للصعود على متن سفن. بينما توجه آخرون صوب الشمال لمسافة تبلغ ألف كيلومتر إلى حدود مصر، ليجدوا أنفسهم عالقين فحسب في صفوف انتظار تستمر لأيام للسماح لهم بالعبور.

لكن مع تزايد الأعداد وشح الوقود، قفزت أسعار التنقل إلى مئات الدولارات لتكون بعيدا عن متناول الكثيرين ومن بينهم الطلبة مثل يارو.

الرصاص في كل مكان

كان يارو (24 عاما) مذعورا إلى حد أعجزه عن الرد حينما واجهه المقاتلون.

وقال لرويترز "ظننت أنها ستكون نهايتي".

لكن المقاتلين ضحكوا وتركوه في محطة الحافلات.

وتوسل يارو إلى رجل يركب دراجة نارية لتوصيله إلى الجامعة، ليجد أكثر من ألف نيجيري وبوركيني وتشادي وطلبة أجانب آخرين متجمعين بها.

لكن في اليوم التالي لم تظهر أي حافلات. واعترى الغضب الكثيرين الذين كانوا بلا طعام أو مياه أو نقود أو كهرباء.

وقال يارو لرويترز عبر تطبيق زووم، بينما يُسمع صوت بكاء في الخلفية، "حتى ونحن نجلس هنا، يمكنكم سماع أصوات أعيرة نارية في كل مكان تقريبا. لسنا آمنين هنا".

وقالت حكومة نيجيريا إنها حاولت استئجار 250 حافلة لإجلاء نحو 5500 من رعاياها وأغلبهم من الطلبة. لكنها لم تستطع توفير إلا 40 حافلة بتكلفة بلغت 1.2 مليون دولار.

ووصلت الحافلات العشر الأولى إلى الجامعة يوم 26 أبريل نيسان، لكن لم يكن بها مكان ليارو. كان عليه الانتظار أربعة أيام أخرى لنقله إلى بورتسودان في رحلة ليلية. وقال إن النيران اشتعلت في إحدى الحافلات في الطريق، لكن لم يُصب أحد.

واستطاع طالب نيجيري آخر، وهو كبير آدم (24 عاما)، أن يضمن مقعده في قافلة مغادرة من جامعة الرازي في الخرطوم إلى أرقين، وهي أحد معبرين رئيسيين على الحدود المصرية السودانية. لكن آدم قال إن السلطات المصرية أعادتهم قائلة إن الحافلات غير مصرح لها بالعبور.

فناموا في الحافلة في تلك الليلة ثم توجهوا إلى مدينة وادي حلفا.

حينما وصلوا، قال سائق الحافلة إنه لا يملك تصريحا لتوصيلهم إلى المعبر الحدودي وتركهم على قارعة الطريق. وقال آدم إنه وآخرين، بينهم نساء حوامل، ناموا في العراء أربع ليال قبل أن يُسمح لهم بدخول مصر.

وقالت الهيئة الوطنية لإدارة الطوارئ بنيجيريا إن مصر تسمح لرعاياها بالدخول فقط إن كانت لديهم مقاعد على متن رحلات مغادرة. وأجلت طائرة تابعة للقوات الجوية النيجيرية وطائرة مستأجرة أول 354 نيجيريا من مدينة أسوان المصرية.

ولم ترد وزارة الخارجية المصرية على طلب للتعليق. وقالت إن السلطات توفر الإغاثة وخدمات الطوارئ في المعابر وتحاول تسريع إجراءات الدخول من خلال زيادة أعداد الموظفين الحدوديين.

كان الأمر مروعا

حتى الأشخاص الأفضل حالا واجهوا صعوبات في الخروج. فقال بريده موبايوا (34 عاما)، وهو مستشار أعمال من زيمبابوي، إنه بقي مع زوجته وابنه ذي العامين في غرفة المعيشة عندما تعرض منزلهم للأعيرة النارية.

ومن دون إنترنت أو حتى كهرباء لتشغيل هواتفهم، عانوا للتواصل مع سفارتهم أو أسرتهم. وقال موبايوا إنه وزوجته كانا يدخران الطعام والشراب القليلين لابنهما.

وبعد أسبوع، جاءتهم أنباء أنه ستتوفر وسيلة نقل تغادر من سفارة بلدهم إلى بورتسودان.

وقال موبايوا إن محرك سيارته أبى أن يعمل، ولم تكن هناك سيارات أجرة، فسار وزوجته أربعة كيلومترات تفصلهم عن السفارة. وأوقف مقاتلو قوات الدعم السريع الأسرة في الطريق، لكنهم تركوهم يمضون في حال سبيلهم عندما قال لهم موبايوا إنه يبحث عن طعام لابنه.

ومن بورتسودان، انطلقوا إلى السعودية على متن سفينة شحن.

وقال موبايوا لدى هبوطه يوم الأحد في مطار هاراري عاصمة زيمبابوي حيث بكى أقاربه وهللوا "كان الأمر مروعا ... كنا ننام على الأرض، وكان الطقس قارس البرودة".

رحلة شاقة للعبور لمصر

تركت ملاذ عمر الحامل في شهرها الثامن وراءها كل شيء للفرار مع زوجها وطفليها الصغيرين وقريبة مسنة من القتال الذي اجتاح العاصمة السودانية منذ أكثر من أسبوعين.

وعندما وصلت السيدة التي تبلغ من العمر 34 عاما إلى مصر لم تكن قد تناولت طعاما أو اغتسلت لأربعة أيام. وقد مرت عبر معبر قسطل الحدودي حيث يفترش الراغبون في العبور الأرض فيما لا يوجد ما يحمي رؤوسهم من أشعة الشمس الحارقة.

وتعكس محنتها محنة الآلاف غيرها الذين تحملوا تكاليف باهظة للسفر شمالا إلى مصر على متن حافلات وشاحنات، لتتقطع بهم السبل على المعابر لعدة أيام.

وتروي ملاذ بينما تتناول السمك المقلي في مطعم في أبو سمبل شمال الحدود "تناولنا مسكنات للآلام على معدة خاوية... كان الأمر صعبا للغاية. بلادنا دُمرت لكننا سنعود وسنبنيها من جديد".

وشهد القتال الذي اندلع في 15 أبريل نيسان بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع شبه العسكرية شن غارات جوية ومعارك بالمدفعية على الخرطوم ومدينتي أم درمان وبحري المجاورتين لها، الأمر الذي ترك الشوارع فارغة من أي مظهر من مظاهر الحياة المدنية.

يقول محمد النعمان أحمد، وهو تاجر سوداني يبلغ من العمر 46 عاما كان على حدود مصر عندما علم بأن القتال قد اندلع في 15 أبريل نيسان "لقد أصابت هذه الحرب مركز البلاد وقلبها".

وهرع أحمد إلى الخرطوم لاصطحاب والدته وزوجته وأبنائه الأربعة وإحضارهم إلى الحدود. ويقول قرب قسطل الذي عبره بعد عودته لاصطحاب عمه المصاب بالسرطان "لقد انهار الأمن".

ويخشى البعض في الخرطوم من ترك منازلهم وممتلكاتهم دون حماية أو المغادرة في رحلة شاقة مع أقاربهم المرضى أو المسنين.

أما من غادروا فإنهم يبحثون عن الأمان في المناطق السودانية البعيدة عن العاصمة أو اتجهوا إلى حدود البلاد الغربية والجنوبية والشمالية، فيما غادر البعض بحرا من بورتسودان إلى السعودية.

وقالت مصر يوم الاثنين إن 40 ألف سوداني عبروا حدودها، فيما حذرت الأمم المتحدة من أن أكثر من 800 ألف قد يفرون من السودان الذي يبلغ عدد سكانه 46 مليون نسمة إذا استمر القتال.

تجار الحرب

مع ارتفاع الأعداد وندرة الوقود، ارتفعت تكلفة الحافلات المتجهة إلى مصر إلى نحو 500 دولار للفرد.

وأولئك الذين يستطيعون تحمل تكاليف هذه الرحلة هم الأثرياء نسبيا، لكن كثيرين يصلون عبر معبري أرقين وقسطل على جانبي بحيرة ناصر في حالة متردية.

تقول ليم الشيخ، وهي طبيبة أسنان تبلغ من العمر 23 عاما تطلب الأمر منها ما يقرب من أسبوع للوصول من أم درمان إلى أبو سمبل، إن "تجار الحرب يستغلون الأزمة للتربح".

وأضافت "نحن أفضل حالا من غيرنا... فهناك كثيرون لا يستطيعون الفرار من الحرب".

ويمكن رؤية مجموعة من النساء والأقارب المسنين والأطفال وهي تعبر إلى الأراضي المصرية عند أرقين بينما يكسو الغبار وجوههم وملابسهم فيما يسحبون عربات مكدسة بالأكياس قبل أن يستقلوا حافلة متوجهة إلى القاهرة.

وبالنظر إلى أن الذكور البالغين يحتاجون إلى تأشيرات لدخول مصر، فإنهم عادة ما يبقون في السودان وينتظر كثيرون منهم في وادي حلفا في شمال السودان للتقدم بطلبات للحصول على تأشيرات.

ويشكو البعض من شح الطعام والماء والمأوى والمراحيض عند المعابر. ويقولون إنهم ينامون في حافلات أو وسط طرقات مليئة بالقمامة أو داخل منطقة مغلقة بين المعبرين الحدوديين.

يروي فريد محجوب طه (77 عاما) الذي فر من الخرطوم كيف أنه وجد الوضع "مريعا جدا" في أرقين، وإن كانت الخدمات أفضل على الجانب المصري.

وتابع "الوضع ليس آدميا، ولا حتى يناسب الحيوانات".

وتقول الطبيبة ليم الشيخ إن الناس يتعرضون لاستجواب مطول وحاد من جانب المسؤولين المصريين.

وتضيف أنهم يتعرضون في بعض الأحيان للإهانة والتهديد بإعادتهم من حيث أتوا.

وقال عنصر من حرس الحدود المصري إن الموظفين يعملون على مدار الساعة في ظل التدفق. وقالت وزارة الخارجية المصرية إن السلطات تقدم خدمات الإغاثة والطوارئ عند المعابر وتحاول تسريع إجراءات الدخول من خلال زيادة أعداد الموظفين على الحدود.

على الجانب الآخر يقول خالد، وهو من سكان الخرطوم وذكر اسمه الأول فقط، إنه قرر البقاء في العاصمة بسبب قلقه بشأن قدرة تحمل جدته المريضة وشقيقته التي أحيانا ما تعاني نوبات صرع، فضلا عن تكلفة الرحلة.

وأوضح لرويترز "رأيت قلة من أصدقائي الذين سافروا بالفعل. لا يزالون على الحدود تتقطع بهم السبل في الشوارع... لا أستطيع أن أعرّض عائلتي لمثل هذا الموقف".

مهد انتفاضة السودان تتحول إلى نقطة عبور

تحولت مدينة عطبرة، مهد انتفاضة السودان التي أدت إلى الإطاحة بالرئيس عمر البشير في عام 2019، إلى نقطة التقاء وعبور للفارين من الصراع الدائر في الخرطوم.

وأفلتت عطبرة من القتال العنيف الذي اندلع في العاصمة الخرطوم بين قوات الجيش وقوات الدعم السريع شبه العسكرية منذ أكثر من أسبوعين، لكن الصراع على السلطة بين الطرفين وجه أحدث ضربة لآمال أنصار الديمقراطية في عطبرة.

ويسعى بعض الذين وصلوا إلى عطبرة، التي كانت مركزا للسكك الحديدية إبان الحقبة الاستعمارية وتبعد 350 كيلومترا إلى الشمال الشرقي من الخرطوم، إلى الإقامة في المدينة. ويمر آخرون بها في طريقهم إلى بورتسودان على ساحل البحر الأحمر أو إلى الحدود الشمالية للسودان مع مصر.

ولم يحسم البعض الآخر أمره.

وقالت أميمة ياسين (35 عاما) وهي تحمل طفلها "حضرنا لعطبرة بحثنا عن الأمان بعد الحرب في الخرطوم، وتركنا منازلنا وحياتنا هناك، لا نعرف كيف سنواصل حياتنا".

وذكرت الأمم المتحدة أن الصراع أسفر عن مقتل المئات وإصابة الآلاف ونزوح 33 ألفا من العاصمة.

وألحق الصراع أضرارا بمطار الخرطوم الذي دارت معارك للسيطرة عليه. وحاول بعض الفارين مغادرة البلاد بالحافلات أو السفن، لكن معظمهم لجأوا إلى المدن والبلدات والقرى خارج العاصمة.

وشهدت عطبرة التي يحفل تاريخها بحركات المعارضة السياسية إلى جانب حركة عمالية قوية مرتبطة بخطوط السكك الحديدية، انطلاق المظاهرات الحاشدة المناهضة لحكم البشير الاستبدادي والتي أدت إلى الإطاحة به في أبريل نيسان 2019.

ولا تستقبل المدينة في العادة الكثير من الزوار، لكن القتال الدائر في مناطق أخرى عاد بالنفع على الأنشطة التجارية فيها.

وقال مالك أحد الفنادق القليلة في المدينة "لم يشهد الفندق إقبالا مثل ما يتم حاليا من بدء الحرب في الخرطوم، وهذا تسبب في ارتفاع الأسعار إلى 30 ألف جنيه (50 دولارا) لليلة الواحدة". (الدولار = 597.9002 جنيه سوداني)

قال محمد إسماعيل، وهو صاحب متجر للبقالة في المدينة، إن زيادة الطلب أدت إلى ازدهار حركة البيع، لكن توقف الحياة الطبيعية في العاصمة تسبب في ارتفاع التضخم وولد مخاوف بشأن الإمدادات.

وقال تاجر السلع المنزلية جابر عبد الله (29 عاما) "بدأنا في رفع الأسعار لأن السوق ارتفعت أسعاره، كل البضاعة تأتينا من سوق الخرطوم، وبسبب الحرب لا نستطيع الشراء من أم درمان (المجاورة للعاصمة)".

وتضاءلت مخزونات الوقود نظرا لتمركز التوزيع في الخرطوم، مما أدى إلى اصطفاف طوابير طويلة من المركبات للحصول على الوقود.

وقالت المحامية إيمان الرفاعي، وهي من سكان عطبرة، في إشارة إلى ارتفاع الأسعار ونقص الطحين "الضرر من الحرب ليس في الخرطوم ولكن كل السودان تعثر اقتصاديا".

وشاركت المحامية بصفتها عضوة في إحدى "لجان المقاومة" المحلية في الاحتجاجات المناهضة للجيش منذ انقلاب 2021، وقبل ذلك في الانتفاضة المناهضة للبشير.

وقالت "كانت أطماع العسكر أكبر من أحلام شباب الثورة، نأمل في إيقاف الحرب ونكتفي بالخسائر الحالية".

وبدأ السودان مرحلة انتقالية تمهيدا لإجراء انتخابات بعد الإطاحة بالبشير وحتى وقوع الانقلاب. وأدى الصراع الذي اندلع في الخرطوم ومناطق أخرى من السودان في 15 أبريل نيسان إلى تعطيل خطة مدعومة دوليا لعملية انتقال جديدة تشمل تعيين حكومة مدنية.

وقال عضو آخر في لجان المقاومة يدعى يوسف حسن (31 عاما) "كان لدي أحلام كبيرة بالتغيير الحقيقي وتحقيق إسقاط النظام والوصول للديمقراطية والدولة المدنية والحياة الكريمة وفرص العمل للشباب".

وأضاف حسن الذي أشار إلى أنه كان من ضمن المشاركين في أول احتجاج خرج في عطبرة في 19 ديسمبر كانون الأول 2018 "الواقع الحالي محبط ولا يبشر بحدوث خير لأن الحرب أسوأ شيء في العالم".

لا أحد مهتم

وتسببت المعارك المستمرة منذ منتصف أبريل نيسان في سقوط مئات القتلى وآلاف المصابين وتعطيل إمدادات الإغاثة وفرار 100 ألف لاجئ إلى الخارج وتحويل أحياء سكنية في الخرطوم إلى ساحات حرب.

وقال عثمان حسن (48 عاما) وهو من سكان أحد الأحياء الجنوبية على أطراف الخرطوم "منذ أربعة أيام الكهرباء مقطوعة ونعيش في ظروف صعبة.. نحن ضحايا في حرب لسنا طرفا فيها ولا أحد مهتم بالمواطن".

وبثت قناة الجزيرة التلفزيونية لقطات حية يتصاعد فيها الدخان إلى السماء في منطقة أمام القصر الرئاسي بالخرطوم وعبر نهر النيل في مدينة بحري المجاورة.

وعلى الرغم من إعلان وقف إطلاق النار لمرات عدة، بدا أن الجانبين يتصارعان للسيطرة على أراض قبل محادثات مقترحة.

وحتى الآن، لم يبد قائد الجيش الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، وهو رجل عسكري مخضرم، وقائد قوات الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو المعروف باسم حميدتي، وهو قائد ميليشيا سابق في منطقة دارفور التي مزقتها الصراعات، استعدادا يذكر للتفاوض.

ويهدد صراعهما على السلطة باستقطاب قوى خارجية مما يزيد من زعزعة الاستقرار في منطقة مضطربة بالفعل.

وتعرضت مصانع وبنوك ومتاجر للنهب أو التخريب في أنحاء الخرطوم وتعطلت إمدادات الكهرباء والمياه. وأفاد السكان بارتفاع حاد في الأسعار ونقص في السلع الأساسية.

وخلت أحياء بأكملها من سكانها الذين ينتابهم الخوف على منازلهم. وقالت آية الطاهر إنها فرت مع أسرتها إلى الأطراف الشمالية للعاصمة بعد أن أصاب الرصاص سقف منزلهم.

وأضافت أنها تخطط كل يوم للعودة لمنزلها حتى لمجرد الحصول على المزيد من المواد الأساسية، لكن الوضع غير آمن تماما.

وقالت منظمة الصحة العالمية إن 551 مدنيا على الأقل قُتلوا وأصيب 4926 وذلك بحسب البيانات الواردة من السودان، لكن الترجيحات تشير إلى أن العدد الحقيقي أعلى بكثير بسبب صعوبة الوصول إلى المرافق الطبية.

قالت اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان إن أحد مستشفيات الولادة الرئيسية في البلاد، وهو مستشفى الدايات في مدينة أم درمان المجاورة للخرطوم، ومستودع الإمدادات الطبية المركزي تعرضا للنهب واحتلتهما قوات يوم الخميس.

وأشارت إلى تضرر 17 مستشفى في المجمل جراء القتال وإخلاء 20 قسرا منذ بدء أعمال العنف. وأضافت أن 60 مستشفى من أصل 88 في الخرطوم خارج الخدمة وأن العديد من المستشفيات الباقية لا تقدم كامل خدماتها.

وقال محمد عثمان الباحث في الشؤون السودانية بهيومن رايتس ووتش في تقرير "الطرفان المتحاربان يظهران استخفافا بأرواح المدنيين باستخدام أسلحة غير دقيقة في مناطق حضرية مأهولة بالسكان".

وتبادل الجيش وقوات الدعم السريع، اللذان تقاسما السلطة بعد انقلاب عام 2021، الاتهامات بخرق سلسلة من عمليات وقف إطلاق النار.

وقوض الصراع خطة مدعومة دوليا لإحلال الديمقراطية والحكم المدني بعد انتفاضة شعبية عام 2019 أطاحت بعمر البشير.

وضغطت الأمم المتحدة على طرفي الصراع لضمان المرور الآمن للمساعدات بعد نهب ست شاحنات.

وقدّر برنامج الأغذية العالمي أن مساعدات غذائية تتراوح قيمتها بين 13 و14 مليون دولار موجهة للمحتاجين في السودان تعرضت للنهب، فيما أفادت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) بتعرض عدد من مرافق التخزين في سلسلة التبريد للنهب وتدمير أكثر من مليون جرعة لقاح مضاد لشلل الأطفال.

وانتشر القتال في أنحاء البلاد، ومنها منطقة دارفور الواقعة في الغرب.

وقالت إليزابيث تان مديرة الحماية الدولية بالمفوضية للصحفيين في إفادة بجنيف "ننصح الحكومات بعدم إعادة الناس إلى السودان".

وقال رؤوف مازو مساعد المفوض السامي لشؤون العمليات بالمفوضية "الوضع الإنساني في السودان وما حوله مأساوي، هناك نقص في الغذاء والماء والوقود، ومن الصعب الوصول إلى وسائل النقل والاتصالات والكهرباء، فضلا عن ارتفاع حاد في أسعار المواد الأساسية".

اضف تعليق