بعض فقهاء القانون يعدلون بين حق الانتخاب وواجب المشاركة، فالانتخاب حق والاشتراك واجب والحق ممنوح له من طرف انتمائه الى الشعب والشعب يمارس سلطته من خلال مشاركة أفراده بما هم أفراد غير مستقلين بل يمثلون الشخصية المعنوية للشعب في هذه الممارسة الانتخابية، وكان مقترح هؤلاء الفقهاء...

لقد نشأت فكرة الانتخاب بعد التحول التاريخي لبعض المجتمعات البشرية باتجاه المدنية والعبور من الحالة البدائية في التنظيمات القبلية الى الحالة السياسية في الدولة –المدينة، وتحديدا الدولة – المدينة الإغريقية، وهو تطور لما كانت عليه الحياة التنظيمية – الاجتماعية في الحالة القبلية في التاريخ البشري.

فقد كان لكل قبيلة مجلس تشاوري يضم أعيان القبيلة وأهل الخبرة والتجربة فيها وهم فيها أهل الحل والعقد، وكان يتم ترشيحهم وفق امتيازات خاصة يمتلكها هؤلاء الأعيان والرؤساء مما يؤكد ذلك الأصل البدائي–الطبيعي لفكرة مجالس الشورى أو مجالس النواب أو البرلمان بصيغته الحاضرة، ويبدو أن المصير المشترك لأفراد القبيلة هو الذي يدفع افراد القبيلة الى المشاركة في تحديد سياسة وعمل القبيلة عبر ممثلين لهؤلاء الافراد في المجلس القبلي أو الاستشاري لرئيس القبيلة.

لكن الإضافة التاريخية المهمة التي مارستها الدولة –المدينة الإغريقية هو منح حق الانتخاب للفرد المدني– الإغريقي في اختيار من يمثله في مجلس الشيوخ مع الاحتفاظ بشرط الامتيازات الخاصة للمرشحين من الأعيان، وكانت الديمقراطية الأثنية تدار من مجلس مكون من خمسمائة نائب ينتخبون بطريقة مباشرة من قبائل الاغريق وكان لدى أثينا اجتماع شعبي يحضره كل مواطن اغريقي وله حق التصويت فيه وقد نظر اليه الاغريق باعتباره مرجعا أعلى لقرارات وسياسات أثينا الدولة – المدينة.

ولكن هذا الأصل التاريخي للانتخاب تعرض الى جدل فقهي – قانوني حول تأصيل شرعيته وتفسير هذه الشرعية وفق مقولة الحق والواجب، وأضافوا اليها مقولة السلطة وقد اختلف فقهاء القانون في تحديد الأصل القانوني – الطبيعي الناشئ عنه حق الانتخاب.

فقد فسر الانتخاب بعض فقهاء القانون بأنه حق شخصي ناشئ عن حق المواطن في ممارسة مبدأ السيادة للشعب على الوطن باعتباره فردا من هذا الشعب وعلى أساس مبدأ المساواة بينه وبين أفراد الشعب كافة، وبذلك اعتبروا الانتخاب حقا أساسيا وطبيعيا للمواطن، ولذلك كانت الأنظمة الديمقراطية الإغريقية تمنع هذا الحق من الافراد غير الاغريق باعتبارهم أفرادا من غير الشعب وبذلك فقدوا حقهم في المشاركة.

وقد ترتب في النظرية القانونية القائلة بأن الانتخاب حق مكتسب بشكل طبيعي من مصدر السيادة للشعب بأن المواطن يمتلك هذا الحق في الانتخاب وأما ممارسته فإنها مناطة بحق شخصي أكثر خصوصية من الحق الأول فهو بالخيار بين الممارسة وعدمها ناظرة تلك النظرية الى الأصل الشخصي في هذا الحق، فالمواطن حائز عليه بدون منحة أو امتياز خاص من خارج ذلك الأصل الأول مما يترتب عليه واجبا محددا ومعينا في المشاركة في الانتخاب في قبالة تلك المنحة أو ذلك الامتياز فهو حق وليس منحة أو امتياز وبهذا ينتفي واجب المشاركة بترجيح الحق على الواجب فالمواطن بالخيار بين ممارسة حقه غير الممنوح له من جهة أو من طرف ما أو عدم ممارسته استجابة الى موقف خاص أو رؤية خاصة بل وحتى رغبة مجردة.

لكن بعض فقهاء القانون يعدلون بين حق الانتخاب وواجب المشاركة، فالانتخاب حق والاشتراك واجب والحق ممنوح له من طرف انتمائه الى الشعب والشعب يمارس سلطته من خلال مشاركة أفراده بما هم أفراد غير مستقلين بل يمثلون الشخصية المعنوية للشعب في هذه الممارسة الانتخابية، وكان مقترح هؤلاء الفقهاء ان للشعب شخصية معنوية تمارس دورها وسلطتها بمعزل عن أعضائها الطبيعيين بما هي شخصية قانونية ومستقلة، وأن ممارسة الانتخاب تعبير عن مبدأ السيادة للشعب او السيادة لهذه الشخصية المعنوية، وحين يكون المواطن يجسد في سلوكه أو دوره هذه الشخصية المعنوية فانه يكون منتميا الى هذا الشعب مما يجعل عدم المشاركة قد تؤول الى الغاء هذا الانتماء، والتخلي عن حقه الانتخابي هو تخلي عن الشعب وبالتالي التخلي عن كل الحقوق الممنوحة له بهذه الآصرة الإنسانية – الطبيعية مما يجبر مسألة الواجب في الانتخاب.

واما تبرير هؤلاء الفقهاء القانونيين الذي يرون واجب المشاركة في الانتخاب فانهم يرون ان أفراد الشعب يمارسون واجب الانتخاب باسم هذا الشعب ومصدرية الانتماء اليه وانهم حين يمارسون هذا الدور – الواجب فانهم يمارسون وظيفة حددها لهم القانون بوصفهم أفرادا في هذا الشعب، فالقانون يمتلك حق السيادة باسم الشعب وبالتالي فان وظائفه وتعليماته تصدر عن جهة سيادية فلا يسع الشعب التخلي عنها لأنها تخلي غير مبرر عن السيادة وعن الواجب الذي تحدد وظيفته هذه السيادة باسم الشعب والتي يعبر عنها بالقانون، ويترتب عليه ان عدم المشاركة او التخلي عن الواجب هو فعل غير قانوني، لكن الشخصية المعنوية تظل في حيز التأصيل النظري الذي لا يتخطى الى التطبيقات والإجراءات الا لغرض تأسيسي – جدلي ويمنح الممارسة مشروعية قانونية تبريرية في كل احوالها وليس تفسيرية.

من هنا يعد القول الفقهي القانوني بوجوب الانتخاب استنتاج محض نظري تجاوزته التطبيقات الواقعية وإجراءات الممارسة الانتخابية، بل هو يشكل في جوهره استلاب حق الانسان في الحرية، مع أنه أي الانتخاب يتأسس على مبدأ المساواة وهو ما يقودنا الى إشكالية المواجهة بين الحرية والمساواة لاسيما وان تعريفه بالواجب ينفي عنه معنى الحق حين يقدم فرض الواجب على حرية الحق، وقد أيدت الجمعية التأسيسية الفرنسية في العام 1791م نظرية الواجب/الوظيفة للمواطن في المشاركة في الانتخابات، وقد أدت إجراءاتها الى تقسيم المواطنين بين من يحق لهم المشاركة في الانتخابات باعتبارهم مواطنين ايجابيين وفق تصنيفها وبذلك ضمنت لهم الحقوق السياسية كافة بعد توفر الشرط المالي وشرط الكفاءة بهم، ومواطنين لا يحق لهم المشاركة في الانتخابات وهم مواطنين سلبيين وفق تصنيفها وقد حرمتهم من الحقوق السياسية، وبذلك الغت هذه الجمعية التأسيسية التي نشأت في أعقاب الثورة الفرنسية وباسم الواجب مبدأ المساواة بين المواطنين.

وقد نجد في تعريفنا الثقافي والسياسي المحلي للمشاركة في الانتخابات بانه واجب وطني بانه يعود الى تلك الحقبة الفرنسية التأسيسية لفكرة ونظام الانتخابات في العالم الحديث بينما تجاوزتها الأنظمة الحديثة للديمقراطية واختفت فكرة الواجب الوطني في انتخابات الديمقراطيات الحديثة والنموذجية في العالم.

وقد قام فقهاء قانونيون آخرون بتكييف فكرة الانتخاب بين الحق والواجب باعتباره حقا في أول تفسير وتشريع له، لكنه يتحول الى وظيفة بعد ادراج اسم المواطن في قوائم الناخبين في الدولة المعنية، وهنا يأخذ المشارك صفة وظيفية في تكوين القرارات والسياسات التي تتبناها الهيئات العليا في الدولة تلك الهيئات التي تشكلت بفعل الممارسة الانتخابية، لكن هذه النظرية تتحدث عن وظيفة تستبطن فكرة الواجب، فالوظيفة بالنسبة للمواطن في علاقته بالدولة هي واجب ينبغي أداءه مثل كل الوظائف المكلف بها المواطن لاسيما وظائف الخدمة الوطنية المدنية والعسكرية، لكنها واجب ينتمي بالأحرى الى قناعات المواطنين وفكرة ثقافة الشعب في علاقته بالدولة التي تجسد سيادة هذا الشعب وشخصيته السياسية والقانونية، ولا تنتمي فكرة الوظيفة/الواجب الى تشريعات وتعليمات القانون النافذ في الدولة وهو ما نكتشفه في عدم وجود نص قانوني حديث يفرض او يوجب الانتخاب او المشاركة في الانتخابات.

لكن نظر فقهاء قانونيون آخرون الى الاصل القانوني في الانتخاب في تكييف الحق والواجب والسلطة في الانتخاب، بمعنى أن القانون يحتوي ذلك المعنى أو المضمون في خطه ومضمونه العام والتأسيسي لفكرة الانتخاب، فالانتخاب من وجهة نظر هؤلاء هو سلطة أو تمكين في السلطة يمنحها القانون للمواطن لغرض تحقيق المصلحة العامة وليس المصلحة الشخصية، وهنا يتضمن فكرة الواجب باعتبار أن العمل من أجل المصلحة العامة هو واجب ذاتي – طبيعي - وقانوني – سياسي، لكنهم اضافوا الى فكرة الواجب في الانتخاب فكرة الحق باعتبار أن المواطن له الحق في المشاركة في بناء المصلحة العامة وتحقيقها باعتباره فردا في الشعب تمسه وتتناوله المصلحة العامة، وفي ذلك الجانب الفردي من المصلحة العامة ينشأ الحق الفردي له في الانتخاب أو المشاركة في الانتخابات وهكذا تجتمع في هذه النظرية مبادئ السلطة والواجب والحق.

ويفسر فقهاء القانون لاسيما المحدثين منهم بناء الديمقراطيات الحديثة قانونيا وفق هذه النظرية، فقد ألغى الحق الطبيعي في هذه النظرية ولم تشر اليه من قريب أو بعيد، ونشهد غياب فكرة الحق الطبيعي في التفسيرات والتشريعات القانونية الحديثة لاسيما بعد ان تراجعت علاقة الانسان بالطبيعة الى مستوى الاستغلال والتحكم، فلم يعد هناك شيء طبيعي يشكل مصدرا أساسيا للأفكار والتشريعات وانما هناك وجهات نظر وضعية وأفكار بشرية مجتزأة عن الثقافة صارت تشكل مصدر التشريعات والقوانين، ونجد أوضح صورها في القوانين الاوربية المتأخرة والتي أجازت الزواج المثلي والتحول الجنسي في غياب واضح للأصل الطبيعي في هذه القوانين.

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–2018 Ⓒ
http://shrsc.com

اضف تعليق