بعد وصوله إلى الرئاسة، وعد ترامب بتغيير القواعد القديمة التي يعمل بها النظام الدولي، وإصلاح هذا النظام بجعله يعمل لصالح الولايات المتحدة عبر آليات جديدة تختلف عن سابقاتها. ولكن سياساته الخارجية وإستراتيجياته الدولية ومقارباته لمواجهة الأزمات الدولية أقلقت الأوساط الأمريكية والحلفاء الدوليين. بل أصبح الحديث...

بعد وصوله إلى الرئاسة، وعد ترامب بتغيير القواعد القديمة التي يعمل بها النظام الدولي، وإصلاح هذا النظام بجعله يعمل لصالح الولايات المتحدة عبر آليات جديدة تختلف عن سابقاتها. ولكن سياساته الخارجية وإستراتيجياته الدولية ومقارباته لمواجهة الأزمات الدولية أقلقت الأوساط الأمريكية والحلفاء الدوليين. بل أصبح الحديث عن تراجع القوة الأمريكية متداولا رغم أن النقاشات والمؤشرات حول أفول قوة أمريكا كقوة عظمى مهيمنة سابق لأوانه، لكن هنالك حقيقة تاريخية وهي: إن الدول والإمبراطوريات العظمى لها بداية ونهاية، فلا توجد صدارة وزعامة دائمة ولا تفوق مضمون للأبد ولا يوجد واقع حال يقر بأن قدر النظام الدولي يجب أن تتزعمه الولايات المتحدة.

فرفض ترامب اتفاق باريس للمناخ واعتماده منطق الحروب التجارية كأداة للسياسة الخارجية، والانسحاب من خطة العمل المشتركة ٥+١ (الاتفاق النووي مع إيران)، وتعليق ترامب العمل بمعاهدة الحد من الصواريخ النووية متوسطة وصغيرة المدى المبرمة مع روسيا تمهيدا للانسحاب منها، هذه المعاهدة تشكل حجر الزاوية في الأمن الأوروبي لثلاثة عقود، كما عمل ترامب من التقليل الدائم بشأن شركاء وحلفاء الولايات المتحدة، كل هذه مؤشرات تسهم في تعريض الأمن العالمي والنظام الدولي في الواقع للخطر والفوضى.

عامان من رئاسة ترامب امتازت بالاضطراب وزادت من تساؤلات عن كيفية استمرار القوة الأمريكية لتزعم النظام الدولي في ظل أجواء مشحونة بالانقسام.

فهنالك تعارض بين سعي ترامب لدعم الزعامة الأميركية والحفاظ عليها وبين الأجندة القومية والحمائية الخاصة به، فالنظام الدولي قائم على مجموعة من المبادئ والقواعد، تسعى الأقطاب الدولية فيه للحفاظ عليه وعلى تلك القواعد التي وضعتها الولايات المتحدة قبل أكثر من نصف قرن. لكن ترامب يريد إعادة النظر في ركائز هذا النظام والدفاع عن هيمنة الولايات المتحدة إذ سيطر شبح الصين ذات القوة المتزايدة والمنافسة على تفكير ترامب، الذي أدرك أن الصين خصم فريد للولايات المتحدة ولديها قدرات فائقة على شن حروب إلكترونية وتفوق اقتصادي ملحوظ.

وإذا كانت سياسات ترامب المتشددة بخصوص إيران تعرضت للانتقاد وعدم الاصطفاف معه، فإنه لا يوجد داخل الولايات المتحدة من يختلفون معه تجاه الصين. فهنالك مبعث قلق لديه من مواجهة الصين ورغم التوافق المتزايد بشأن تحديد الصين باعتبارها التحدي الإستراتيجي الأكبر لأميركا، فترامب والإدارة ليس لديهم هدفا واضحا للمواجهة ولا توجد مقاربة فاعلة قادرة على توفير خيارات في السياسة الخارجية، وهذا فإن أي مواجهة من دون أهداف واضحة ومقاربة جديدة توفر أساسا للسياسة الخارجية تجاه الصين يشكل خطرا حقيقيا في إعادة النقاش حول نبوءة تراجع زعامة الولايات المتحدة للنظام الدولي خاصة في ظل إدارة ترامب.

هذه اللحظات الحالية رمت سابقا القوى العظمى والكبرى في حرب عالمية، رغم أن نظام مابعد الحرب العالمية الثانية وما بعد الحرب الباردة لا يمكن إعادته حاليا، لكن العالم الآن بدأ يعيش أزمة نظام، ويمكن للمجموعة الدولية بما فيها الولايات المتحدة القدرة على تجنب عواقب تلك الازمة إذا ما تم الالتزام بقواعد النظام الدولي ما قبل ترامب. فإذا ما حرص ترامب على عدم انهيار علاقات بلده مع الصين وعدم الاشتباك الدبلوماسي وغير المباشر مع روسيا خاصة في العودة إلى سباق التسلح والمحافظة على عدم انفجار الاوضاع في الشرق الأوسط، واحتواء التأثيرات المتراكمة لتغير المناخ، فأن ذلك سيؤشر عدم انفجار أزمة النظام الدولي وتجنب حصول الكارثة وهذا خبر سار بحد ذاته، لكن الخبر المؤسف إنه من غير المؤكد ألا تحصل تلك الكارثة.

إن أميركا ترامب أضحت ترفض النظام الدولي الذي وضعته، مع بقاء الدول الاخرى تتعامل مع بعضها البعض وفقاً لمجموعة من القواعد المتفق عليها، لأن تلك الدول تدرك أن تجاهل أو تجاوز هذه القواعد يؤدي إلى اندلاع الصراعات ويؤدي لحالة من الفوضى والارتباك. إن تلك الدول لديها قناعة أن امريكا هي من وضعت تلك القواعد، وجعلت منها ستار للهيمنة الدولية على العالم، وطالما أن أميركا هي من وضعتها فإن النظام بأسره يعمل ويتحيز لصالحها. وبالتالي ما الجدوى من تغيير قواعد هذا النظام؟

ترامب لا يرى الوضع بهذه الصورة، ولديه قناعة أن تلك الدول كالصين وروسيا وأوروبا بدأت تتلاعب بقواعد النظام الدولي لصالحها، بحيث أن معدل الميزان التجاري في الوقت الحاضر ليس منصفا ولا يعمل لمصلحة أميركا بشكل كافي، وقد أصبحت الولايات المتحدة مضطرة لقبول سياسات واستراتيجيات ومواقف مناهضة لمصالحها من قبل الدول المنافسة، واشتكى ترامب فيما يخص الأمن، من أن أميركا تنفق مليارات الدولارات في تقديم الأمن والحماية بتكاليف منخفضة لحلفاء غير ممتنين وأحيانا من دون مقابل، ومن هنا فهو يسعى إلى تغيير هذه القواعد.

ولكن هنالك تحذيرات من رفض أمريكا لقواعد هذا النظام، لأن عواقب ذلك وخيمة وغير متوقعة لأن رغبة ترامب في اختبار استكمال هجومه على تلك القواعد بشكل متعدد المجالات والجهات بإطار زماني محدد في ولايته عبر ضرب نظام التجارة الدولية، بدءاً بإجراء تغييرات جوهرية على اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية (نافتا)، وتحديد عمل منظمة التجارة العالمية، وفرض رسوم وضرائب على السلع الصينية، واستمرار التوتر مع روسيا وايران والناتو وفنزويلا، سيُثير مخاوف عن احتمالات الاشتباك وإعادة أجواء الحرب الباردة، فعدم التزام أميركا بالقواعد التي تحكم النظام الدولي، يطرح تساؤلات عن كيفية قيام امريكا بإحداث تغيير أو تعديل جذري في النظام الدولي؟

وبصدد الإجابة عن تلك التساؤلات هنالك أربعة احتمالات:

١- أن تنجح الإدارة الأمريكية الحالية في تحقيق التعديلات التي تريدها، وتجعل يعمل النظام لصالحها، وفي هذه الصيغة المعدلة، تبقى أميركا زعيمة النظام الدولي.

٢- أن تتبنى الإدارة الأمريكية مبدأ الاحادية وتعمل وفق منطق تحقيق مصالحها قدر المستطاع ، بالمقابل تعمل بقية دول العالم وفقا لقواعد متعددة وتتجاهل الولايات المتحدة.

٣- أن ينهار النظام الدولي المرتكز على القواعد القديمة بسبب انسحاب الولايات المتحدة، وبالتالي تحدث فوضى عارمة ويفتح احتمالات الاشتباكات والحروب والأزمات..

٤- أن تلجأ الولايات المتحدة إلى التظاهر بأنها حققت تغييرات شكلية في قواعد النظام لكنه يستمر بالعمل كما هو عليه الوضع الآن.

في الحقيقة، لا يزال من السابق لأوانه توقع أي الاحتمالات ستكون له الاسبقية، لكن الاحتمال الرابع قد يكون هو الاقرب.

إن المواقف والسياسات الأميركية الجديدة تعكس قناعة إدارة الرئيس ترامب بأن التنافس بين القوى الكبرى هو الذي يرسم ملامح المشهد الدولي وليس التعاون والتكامل، وأن منهج القوة والتدخل والحروب التجارية يعد أداة رئيسة لتعزيز الأمن والاستقرار عبر ردع الخصوم، (رغم أنه لا يمكنه تحقيق ذلك بمعزل عن الحلفاء، فمثلا للعمل ضد إيران لجأ ترامب إلى مؤتمر وارسو وقبلها في كندا لتحشيد دولي ضدها)، وهذا يعكس مخاوف مبررة لدى الدول الكبرى لتعتمد مقاربات جديدة بمعزل عن امريكا، تتلاءم مع حالاتها وظروفها السياسية الجديدة، لكن هذه المقاربات قد تتضاعف من خلالها المخاطر إزاء النظام الدولي بدلاً من التراجع.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية/2001–2019Ⓒ
http://mcsr.net

اضف تعليق