وردت كلمة (ابتكار) في معاجم وقواميس اللغة العربية بمعنى (الاختراع) أي الشيء الجديد، والفعل (يبتكر) بمعنى (يخترع أو يبتدع شيئًا)، ومفهوم الابتكار (Innovation) يُشير إلى عملية لإنتاج وتطوير وتبني فكرة أو مجموعة أفكار جديدة، أو أشياء، أو ممارسات، أو خدمات، أو تكنولوجيا، لغرض استحداثها أو تطويرها وتقديمها للمجتمع، وهناك صعوبة في وصف الابتكار
حسني رفعت حسني عبدالإله -باحث في مجال الإعلام -كلية الرافدين الجامعة -قسم الإعلام الرقمي

تمهيد: مفهوم الابتكار

وردت كلمة (ابتكار) في معاجم وقواميس اللغة العربية بمعنى (الاختراع) أي الشيء الجديد، والفعل (يبتكر) بمعنى (يخترع أو يبتدع شيئًا)، ومفهوم الابتكار (Innovation) يُشير إلى عملية لإنتاج وتطوير وتبني فكرة أو مجموعة أفكار جديدة، أو أشياء، أو ممارسات، أو خدمات، أو تكنولوجيا، لغرض استحداثها أو تطويرها وتقديمها للمجتمع، وهناك صعوبة في وصف الابتكار كفعل منفرد، بل يُمكن وصفهُ كفعل مركب ومعقد نوعًا ما؛ لأنه يتكون من عمليات مترابطة ومتسلسلة، فهو لا يمثل استحداث الأفكار فقط أو اختراع الأجهزة والأدوات، أو فتح المجال للاقتصاد والقطاعات الأخرى في المجتمعات، بل هو كل هذه الأشياء تجتمع مع بعضها بصورة مشتركة ومتكاملة.

ويتداخل مع مفهوم الابتكار مفاهيم أخرى كالإبداع (Creativity) والاختراع (Invention)، فالإبداع هو أحد شروط الابتكار، وهو تقديم أو طرح لفكرة يُجسدها الابتكار، لذلك نستطيع القول بأنَّ الابتكار تجسيد لأفكار إبداعية، أما الاختراع فهو الظهور الأول لفكرة معينة، قد تكون هذه الفكرة خدمة أو مُنتَج جديد، والابتكار هنا هو المحاولة الأولى لتطبيقها وتبنيها، وجميع هذه المفاهيم ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالعلم والعلوم بمختلف تخصصاتها، فلا يُمكن تحديد الابتكار والإبداع وتأطيرهما بإطارٍ ضيق ضمن تخصص أو مجال معين.

العلاقة بين العلم والصحافة

تمكنت الصحافة ووسائل الإعلام الأخرى منذ ظهورها التأثير على الجمهور بصورة يُمكن ملاحظتها، رغم اختلاف درجات ذلك التأثير باختلاف الرسالة الإعلامية والوسيلة التي تُنشَر أو تُبث عبرها، ورغم الإمكانيات التي تمتلكها وسائل الإعلام في نقل الأخبار والمعلومات إلا أنها ما زالت محدودة التأثير بما يخص نشر موضوعات العلم والابتكار، وأخبار العلوم والتكنولوجيا والاختراعات والاكتشافات الجديدة.

هناك عدة أسباب جعلت من هذا التأثير ضعيفًا أو محدودًا، أبرزها طبيعة العلاقة بين العلماء والصحفيين؛ فهناك عالم يرى أنَّ الصحفي شخص يبحث عن أجزاء المعلومات لتحويلها إلى أخبار سريعة، والجمهور يرى أنَّ العلوم هي مواد شديدة التعقيد يصعب فهمها، فيكون رد الفعل هو النفور من قرائتها أو متابعتها، فأصبح هُناك فراغ أو فجوة بين العلوم وبين جمهور الوسائل الإعلامية والصحفيين العاملين فيها، على الرغم من تأكيد الباحثين في أدبيات الإعلام على أهمية الصحف (الورقية والإلكترونية)، والتلفزيون بقنواته الفضائية، ومنصات النشر الإعلامية عبر الإنترنت، بعدِّها حلقة وصل بين العلماء والجمهور، لكننا لا نجد في تلك الأدبيات آلية أو تطبيق عملي عن كيفية تحويل موضوعات العلم والاختراعات والاكتشافات العلمية إلى قصص صحفية بطريقة مبسطة تجذب جمهور تلك الوسائل والمنصات الإعلامية.

توجد علاقة متوترة نوعًا ما بين العلماء والصحفيين ناتجة عن عدم اعتراف الطرفين بوجود فئات غير ماهرة أو غير محترفة في مجال عملها؛ فهناك صحفي ماهر يغفل وجود صحفي غير ماهر، والعلماء كذلك يغفلون وجود علماء غير ماهرين، والعالم الماهر يغضب مما يكتبه وينشره الصحفي غير الماهر عبر وسائل الإعلام، ما يؤدي إلى انتقادات تُغضِب الصحفي الماهر، والعكس يحصل عندما يكتب الصحفي الماهر مادته الصحفية عن العالم غير الماهر، يؤدي ذلك إلى نقل صورة سلبية للجمهور، بل وتأكيدها، عن العلم والعلماء ونشاطاتهم وجميع اكتشافاتهم واختراعاتهم.

هُناك أسباب أخرى لمحدودية انتشار وتأثير الموضوعات العلمية عبر الصحافة والإعلام، منها وجود نسبة كبيرة من الذين يكتبون في هذا المجال ليسوا بصحفيين متخصصين، ولا يمتلكون المهارات الصحفية، لذلك تظهر فجوة بين الجمهور وبين هذا النوع من الموضوعات، أيضًا نجد الكثير من المؤسسات العلمية والمراكز البحثية، تُغلِق أبوابها أمام الصحفيين، ونادرًا ما يتم التواصل مع وسائل الإعلام وإرسال النشرات أو النشاطات المتعلقة بالمؤسسة، ذلك لأنَّ الكثير من هذه المؤسسات العلمية تابعة لجهات حكومية وملك للدولة، ما يجعل الصحفي يعتمد على التصريح الرسمي في حصوله على المعلومات حول الاكتشافات والاختراعات بمختلف المجالات.

الصحافة الابتكارية: مقاربة للمفهوم

تؤثر طبيعة هذه العلاقة بين العلم ووسائل الإعلام والمجتمع على الثقافة العلمية التي تعد سمة حضارية من سمات المجتمعات المتقدمة، كونها تبسط العلوم وتشرحها عن طريق الاهتمام بنشر الكتب والدوريات والأخبار، فالصحف والقنوات الفضائية والمواقع الإخبارية لا تخلو اليوم من الموضوعات والبرامج العلمية المبسطة والمختصرة التي لا تأخذ من القارئ الكثير من الوقت.

وفي ظل التطورات التي يشهدها العالم في مختلف المجالات، اتجهت بعض الدول الأوروبية للتعبير عن الصحافة العلمية بمصطلح الصحافة الابتكارية، وهو وصفٌ ارتبط بالصحف التي تهتم بموضوعات العلم والعلوم والتكنولوجيا، كان أول ظهور لهذا المصطلح عام 2003م على يد مجموعة من الباحثين بقيادة ديفيد فورس أحد مؤسسي مركز فينوفا لأبحاث الابتكار، جامعة ستانفورد.

ببساطه، الصحافة الابتكارية نمط صحفي جديد، تهتم بتغطية أحداث الابتكارات ونشاطات الأنظمة المؤسساتية أو ما يعرف بالأنظمة الإيكولوجية، سواءً كانت طبية أو هندسية أو ميكانيكية أو تكنولوجية أو غير ذلك، وما يميزها كحقل جديد في الصحافة هو المرونة في التعامل مع المعلومات؛ فالعامل الأساسي هنا هو الابتكار الذي يتسم بالمرونة كصفة أساسية من صفاته، والتقرير أو المقال في الصحافة الابتكارية يمكن أن يتضمن مجموعة من الإيقاعات تُقدَّم بطريقة إبداعية تفاعلية، دون الحاجة لإضفاء الطابع الرسمي على المادة الصحفية كما هو الحال مثلًا في موضوعات السياسة أو الاقتصاد.

تناقش صحافة الابتكار موضوعات خلاّقة وإبداعية، وتسلط الضوء على مفاهيم ناشئة وحديثة ظهرت بفضل الابتكار ودوره أو وظيفته في المجتمع، ففكرة القبول السريعة التي حظى بها الهاتف الذكي وانتشاره بين الناس هي مثال واضح على دور الابتكار وطبيعة عمله، بل وتأثيره في حياتنا، وهذا الأمر ما كان ليحدث دون التركيز على الابتكار في تقديم أشياء جديدة تنفع أفراد المجتمع وتسهل حياتهم، بالتالي يُمكن القول بأنَّ صحافة الابتكار هي أكثر من مجرد نقل لخبر ما، بل هي نقل شعور للقارئ عن كيفية حدوث الابتكار وما هي الأشياء الجديدة التي سيقدمها، وكيف تعود بالمنفعة عليه.

وتتجاوز صحافة الابتكار خطوط الإنتاج التقليدية في المؤسسات الإعلامية، فغرف الأخبار في كثير من وسائل الإعلام تُنظَم بشكل منفصل؛ أي أنَّ المضامين السياسية يتم تحريرها بصورة منفصلة عن المضامين الاجتماعية، والاقتصادية هي الأخرى منفصلة عن الفنية، وكل تصنيف من هذه المضامين يعيش تحت خط إنتاجي بإشراف سكرتير أو مدير التحرير، وهذا لا يحدث في الصحافة الابتكارية التي تتداخل فيها مكونات القصة باتجاهات مختلفة انطلاقًا من العلوم والتكنولوجيا وصولًا إلى التمويل والملكية الفكرية وريادة الأعمال، فتكون أشبه بخط أفقي يتضمن سلسلة من حلقات مترابطة.

دورها في المجتمع

إن الصحافة والإعلام هما الركن الرابع في المجتمع، فالوسائل الإعلامية تؤدي دور بارز في تشكيل الرأي العام وتوجيهه نحو التغيير، فضلًا عن الوظائف الأخرى التي تحققها هذه الوسائل داخل المجتمعات ومنها نشر المعرفة والعلم والثقافة، ونقلها إلى الجمهور.

ولأنَّ الصحافة الابتكارية جزء من المنظومة الإعلامية، رغم عمرها القصير، استطاعت أن تؤدي وظيفتها في تقليص المسافة بين العلم والمجتمع، وعززت العلاقة بين العلماء والصحفيين والجمهور، عن طريق تبسيط المواد العلمية والتركيز على الجوانب الابتكارية التي تحمل عناصر جذب وتشويق، كما أنها تساهم في تزويد الجمهور بمعلومات ومهارات جديدة تؤسس لجيل محب للعلم ولديه القدرة على الإبداع والابتكار، فضلًا عن دورها في وصف مفهوم العلم كثقافة يتزود بها الفرد عن طريق وسائل الإعلام المطبوع والمرئي والإلكتروني، وتعمل الصحافة الابتكارية على تشجيع التنمية الاجتماعية والسعي لتحقيق أهدافها، عبر شرح التغييرات التي تطرأ على البناء الاجتماعي وإطاره، ويحدث ذلك عن طريق غرس القيم والاتجاهات الإيجابية، وخلق الرغبة في التغيير وحل المشكلات الناتجة عن التنمية الاقتصادية، والدعوة لتحسين التعليم والأوضاع الاجتماعية، فضلًا عن ذلك، تدعم الصحافة الابتكارية الاعمال الرائدة والأفكار والمشاريع الشبابية الواعدة، حتى البسيطة منها، وتخلق فرص عمل جديدة في السوق؛ لأنَّ الابتكار يعني تقديم شيء جديد أو خدمة جديدة، وهو ما يؤدي إلى ظهور حاجة لأفراد بارعين في إنجازها أو إنتاجها.

ولا يقتصر دور الصحافة الابتكارية على التوعية والتثقيف، بل يمتد ليشمل التحليل والتفسير الدقيق للقضايا التي لها صلة بالعلم والتكنولوجيا، والمتابعة المستمرة للأحداث والمحافل العلمية كالمؤتمرات والندوات وورش العمل، شرط أن تكون هذه المتابعات أو التغطيات إبداعية تتصف بالتفاعلية، ويحصل ذلك بتوظيف الطرق والأساليب الحديثة في عرض القصص والمضامين عبر الإنترنت.

ينبغي على وسائل الإعلام، تحديدًا العربية وبالأخص العراقية، احتضان هذا النمط أو الشكل الصحفي الجديد، وتشجيع بعض الصحفيين المهتمين الخوض فيه وتجربته، وتحفيزهم على حضور المؤتمرات وورش العمل المتخصصة في الصحافة الابتكارية والمشاركة فيها، حتى يتزودوا بالمهارات اللازمة والأدوات الجديدة التي تمكنهم من إنتاج قصص صحفية ابتكارية، وعلى المؤسسات الأكاديمية (كليات وأقسام الإعلام) في العراق، إدخالها كجزئية ضمن مادة الإعلام المتخصص أو الصحافة المتخصصة، حتى تتبلور لدى الطالب فكرة عنها، فضلًا عن كونها ستمثل اتجاهًا نحو مواكبة التطور والتغييرات التي يشهدها الإعلام بشكل يومي.

.....................................................................................................
المصادر
1. السيد نصر الدين السيد، الابتكار وإدارته، القاهرة: المكتبة الأكاديمية، 2011م، ص15.
2. لويس معلوف، المنجد الأبجدي، ط5، بيروت: دار المشرق للنشر والتوزيع، 1986م، ص5.
3. Brian Rashid, The Future Of Innovation Journalism, Forbes, available at: bit.ly/35jAU5M.
4. Curt Chandler, Innovation Journalism, Open School of Journalism, available at: bit.ly/2rGITuU.
5. David Nordfors, The concept of Innovation Journalism and a program for developing it, VINNOVA Information Series, Vol. 1, 2003, page 5.
6. Nadia El-Awady, Science journalism: The Arab boom, Nature, Vol. 459, 25 June 2009, page 1057.

اضف تعليق