بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.

قال الله العظيم في كتابه الكريم: (هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ)(1)

وقال أمير المؤمنين عليه السلام: ((وَالْيَقِينُ عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ: عَلَى تَبْصِرَةِ الْفِطْنَةِ وَتَأَوُّلِ الْحِكْمَةِ وَمَوْعِظَةِ الْعِبْرَةِ وَسُنَّةِ الْأَوَّلِينَ:

فَمَنْ تَبَصَّرَ فِي الْفِطْنَةِ تَأَوَّلَ الْحِكْمَةَ، وَمَنْ تَأَوَّلَ الْحِكْمَةَ عَرَفَ الْعِبْرَةَ، وَمَنْ عَرَفَ الْعِبْرَةَ عَرَفَ السُّنَّةَ، وَمَنْ عَرَفَ السُّنَّةَ فَكَأَنَّمَا عَاشَ فِي الْأَوَّلِينَ))(2).

ناظرية الروايات إلى تفسير الآيات

إن الأحاديث الشريفة كثيراً ما تكون ناظرة، وان بشكل غير صريح، إلى تفسير القرآن الكريم وتبيين معانيه وبسط ما أجمله أو دفع إشكال أو اعتراض أو الجواب عن سؤال واستفهام.

وهذه الرواية الشريفة فصّلت ما أوجزته الآية الكريمة في كلمة واحدة، ذلك ان الآية الكريمة مبنية على ثلاثية (البصائر، الهدى، والرحمة) والرواية الشريفة مبنية على رباعية (تبصرة الفطنة وتأول الحكمة وموعظة العبرة وسنة الأولين) والحلقة الرابطة بين الآية والرواية هي مفردة اليقين المتجسدة في (يُوقِنُونَ) فان الآية الشريفة تفيد بان القرآن الكريم هو بصائر وهدى ورحمة للموقنين، ولكن ما هو الطريق للوصول إلى اليقين؟ ذلك هو ما تجيب عنه الرواية الشريفة ((وَالْيَقِينُ عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ: عَلَى تَبْصِرَةِ الْفِطْنَةِ وَتَأَوُّلِ الْحِكْمَةِ وَمَوْعِظَةِ الْعِبْرَةِ وَسُنَّةِ الْأَوَّلِينَ: فَمَنْ تَبَصَّرَ فِي الْفِطْنَةِ تَأَوَّلَ الْحِكْمَةَ...))

فمن تبصّر في الفطنة وتأول الحكمة واتعظ بالعبرة واستنّ بسنة الأولين وصل إلى مرحلة اليقين وكان من الموقنين الذين يكون القرآن الكريم هدى لهم ورحمة وبصائر...

وإذا كان ذلك كذلك، وهو كذلك، فلنستمرّ في الكلام عن شُعَب اليقين ودعائمه وركائزه، ومن الركائز (سُنَّةِ الْأَوَّلِينَ) وليكن البحث في محطتين:

المحطة الأولى: ثنائية الأصالة أو الحداثة والتجديد أو التجميد

أولاً: البحث عن ثنائية الأصالة أو الحداثة؟ فهل الأصل التجديد والتغيير والحداثوية أو الأصل الجمود والثبات والركود والسكون؟

ان من الواضح ان الساحة الإسلامية منقسمة إلى من يتشبثّ بالماضي بكل قوة، وإلى من يتطلع إلى الحداثوية بكل انبهار، وبينهما درجات تشكيكية كثيرة وأطياف مختلفة شديدة التنوع.

الأصل الثالث: أصالة سُنَّة الأوَّلين

ولكن الذي نغنمه من الرواية الشريفة ان الأصل، في مواطن الالتقاء، هو (أصالة السنة) لا أصالة الحداثة والتغيير ولا أصالة الجمود والسكون والثبات، وذلك يعني انه في كافة القضايا الحيوية التي كانت موضع نقاش وسجال وأخذ وردٍّ وصراع فان المرجعية هي لـ(سنة الأولين) فيما كانت لهم فيه سنة:

السُنَّة تعني: سيرة العقلاء والمتشرعة

وسنة الأولين تعني أمرين:

الأول: سيرة العقلاء.

الثاني: سيرة المتشرعة.

كما تعني بناء العقلاء وارتكاز المتشرعة أيضاً بالملازمة لبداهة كون ما بنى عليه العقلاء هو ما ساروا عليه وما ارتكز لدى المتشرعة هو ما جرت عليه سيرتهم أيضاً، فالسيرتان كاشف إنّي عن البناء والارتكاز كما ان الأخيرين عِلّة للسيرتين.

وعلى ذلك فان هذه الرواية تصلح ان يعدها علماء الأصول من الأدلة على حجية السيرتين، فانه وعلى الرغم من عدم حاجة سيرة العقلاء بما هم عقلاء إلى دليل على حجيتها لكون مرجعها العقل، وعلى الرغم من عدم حاجة سيرة المتشرعة بما هم متشرعة إلى الدليل على حجتها لكون مرجعها الشرع بالحدس القطعي لبداهة ان سيرة كافة المحيطين بالمعصوم عليه السلام بمختلف ألوانهم وأشكالهم كاشفة عن تقريره ورضاه إن لم تكن ببعثه وتأسيسه؛ وإلا لما أمكن ان يُجمعوا عملياً بأجمعهم على الخلاف، إلا انه ورغم ذلك فان من قد لا يطمئن بمثل هذا الاستدلال أو من يرى حاجة العقليات إلى إسناد من النقليات، كالعكس، ولو كمنبّه فانه لا يستغني عن مثل هذه الرواية كدليل على المدعى.

سُنَّةُ الأوَّلين مرجعيةٌ للحصول على اليقين

والحاصل: انك إذا أردت ان تحصل على اليقين في أي قضية خلافية شككت فيها، فان (سنة الأولين) تصلح مرجعاً لإيراث اليقين وحسم الشك بالقطع والجزم في كل أمرٍ كانت فيه للأوَّلين سُنَّةٌ وسيرةٌ.

كما ان المراد بـ(الأولين) في كلام الإمام عليه السلام أحد أمرين:

الأول: العقلاء، الثاني: المحيطون بالرسول الأعظم صلى الله عليه واله وسلم، ويلحق بهم المحيطون بالمعصوم عليه السلام في كافة الأوامر اللاحقة.

وعليه: فكلما اعترضتنا معضلة فكرية وترددنا بين ان نتمسك بالماضي وثباته أو بالتغيير وتجديده فعلينا ان نرجع إلى سيرة العقلاء على مرِّ التاريخ أو إلى سيرة المتشرعة.

فمثلاً: قاعدة الحيازة مملّكة أو هي على الأقل سبب لحقِّ الاختصاص، فاننا عندما نقوم بدراسة سيرة العقلاء على مر التاريخ نجد انهم كانوا يبنون على ان من حاز شيئاً كمن صاد طائراً أو سمكةً أو اقتطف ثمرةً فانه يملكها أو يكون له على الأقل حق الاختصاص كما سبق؛ ولذا يعدّون من يأخذها منه قسراً، ظالماً غاصباً، وعليه فإذا شك شخص في ان الحيازة مملّكة أو مخصِّصة (تجوزاً) فانه بالرجوع إلى هذه السيرة العقلائية سيصل إلى مرتبة اليقين في ذلك..

وكذلك: قاعدة ان خبر الثقة حجة وان رأي أهل الخبرة حجة وقولهم معتمد، فان سيرة العقلاء على ذلك بل وبناءهم أيضاً، ولذلك لو فرضنا ان شخصاً ولد في جزيرة منعزلة حتى كَبُر ثم وصل أشخاص إلى الجزيرة فانه لو علم بان هذا طبيب أو خبير بالأشجار مثلاً فانه يركن إليهم حسب ارتكازه العقلي، دون شك مع انهم لم ير العقلاء من قبل ليدرس سيرتهم.

وكذلك: حجية الظواهر فانها مما جرت عليها سيرة العقلاء وسنة الأولين، وبذلك، وبغيره، نرد على صاحب القوانين الذي ادعى ان ظواهر الكلام ليست حجة على غير المشافَه والمخاطَب بها معلِّلاً باحتمال اعتماده على قرينة قد خفيت علينا ولم يكن هنالك داع للسامع منهما ان ينقل إلينا القرينة لأنه كان هو المشافَه.

والجواب من وجوه: منها: ان سنة الأولين وسيرة المتشرعة والعقلاء هي على الاحتجاج بالظواهر مطلقاً وإن لم يكونوا هم المخاطَبين بها؛ ولذا نجد ان من اقرّ بِدَينٍ مثلاً أمام شخص معين كان هو المخاطب، فوصل كلامه إلى آخرين لم يكونوا مخاطَبين فانهم يحتجّون بكلامه عليه ولا يقبلون منه انه أراد غيره بقرينة حالية أو مقالية لم تصلهم، إلا إذا أقام الدليل عليها، وهكذا الحال في الرسائل المتبادلة بين شخصين فانها تعد حجة عليهما ومنجِّزة أو معذرة بل يرونها كاشفة كشفاً نوعياً عن الواقع.

واما احتمال وجود قرينة حالية خفيت علينا ولم تكن الدواعي متوفرة لنقلها نظراً لاننا لم نكن المخاطبين بها، فالجواب عنه انه وإن كان ذلك محتملاً إلا ان احتمال ذلك مما لا يُخِلُّ بحجية الظواهر نظراً لأنها تتعايش مع احتمال الخلاف ككل ظاهر آخر، كظهور الأمر في الوجوب مع انه كثيراً ما يستعمل في الاستحباب ولا يُخِلُّ احتمال استعماله هنا في الاستحباب بظهوره في الوجوب وحجيته أيضاً، إضافة إلى ان ناقل الأحكام إلينا، لا بد من ان ينقل ظاهر الكلام مع قرينته وإلا لأخلّ الناقل بالغرض مادام الحكم عاماً والقضية بنحو القضية الحقيقية.

قوّامية الرجل على المرأة

وكذلك: قوّامية الرجل على المرأة في الجملة في حدود العدل والإنصاف، فاننا تارة نستدل بالآية الكريمة: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ)(3) وذاك صحيح تام كافٍ، ولكن البعض قد يكون ضعيف الاعتقاد أو غير مسلم بالمرة، فلنا ان نستدل عليه بسيرة العقلاء على مر التاريخ من مختلف الملل والنحل على القوّامية في الجملة، نعم في حدود العدل والإنصاف.

وكذلك: ضرورة وجود أمير للناس وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: ((إِنَّهُ لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِيرٍ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ...))(4) ولا يعني ذلك شرعية السلطان الجائر أبداً بل الصحيح هو ان الحكومة الشرعية هي التي يرتضيها الله تعالى وهي حكومة المعصوم عليه السلام ثم من بعده هي حكومة شورى الفقهاء بشرط رضى الناس واختيارهم حسبما نرى، وفي رأي البعض: ولاية الفقيه بشرط رضى الناس، وفي رأي آخرين: هي ولايته مطلقاً رَضي الناس أم لا، وفي رأي آخرين: الحكومة المشروعة هي حكومة الناس على الناس برضاهم، وفي رأي وسط هي حكومة عدول المؤمنين من ذوي الكفاءات، فإذا فرض تعذر ذلك كله فههنا لا بد من حاكم ولو فاجر إذا دار الأمر بينه وبين الهرج والمرج واختلال النظام إذ ((ظلوم غشوم خير من فتنة تدوم))(5).

ولا يعني ذلك أيضاً: عدم نهي الحاكم الجائر المستبد عن المنكر وعدم أمره بالمعروف بل يجب أمره ونهيه، ولكن لا يصح ترجيح الحروب والاقتتال الداخلي والفوضى العارمة، كما يحدث في بعض البلاد الآن، على الحاكم الجائر لو فرض دوران الأمر بينهما، كما لا يعني ذلك عدم وجوب السعي لإحلال حكومة استشارية إسلامية أو ديمقراطية جماهيرية (على حسب كلا الرأيين) محل ذلك الحاكم الجائر.

السلطة العليا لمن؟

والحاصل: ان وجود سلطة عليا في الدول والشركات والأحزاب والعوائل، مما لاشك في أصله إجمالاً وهو من دائرة بناء العقلاء وسيرتهم، إلا ان كيفية وشروط ومواصفات هذه السلطة العليا هي المختلف فيها: فهل السلطة العليا في الأحزاب والعشائر والنقابات والدول هي بالانتخاب؟ أو بالانقلاب؟ أو بالمموِّلين ومن يدفع أكثر؟ أو بالحِكمة والعقلانية والخبروية و(التكنوقراط)؟ أو بالنصب من قوة أخرى غيبية أو مادية؟ أو غير ذلك؟ وكذلك الشركات فهل السلطة بيد المؤسس للشركة أو لهيئة الإدارة أو لمجلس الأمناء أو للمساهمين أو بالتوزيع؟

والسبب في ذلك هو ان القرار لو لم يرجع إلى فرد منتخب أو منصوب أو هيئة منتخبة أو منصوبة، بل تُرِك الأمر بلا نظام وقواعد وأطُر وأعطي الكل أو المتعدد منهم الحق في اتخاذ القرارات المصيرية، بل وحتى العادية، بلا ضوابط ومرجعية نهائية (فردية أو شورية) فان السفينة أو الطائرة أو السيارة وكذلك الحزب أو العائلة أو الشركة ستترنح وتنحرف عن المسار ثم تتحطم بلا شك.

وكذلك: احترام الأبوين، والكبار في السن، والعطف على الصغار، إجمالاً. هذا.

ثم ان الميرزا النائيني ذهب إلى ان سيرة العقلاء وطريقتهم ترجع في منشئها اما إلى سلطان قاهر قَهَرَ جميع البشر في أنحاء الأرض على أمر حتى صار سيرةً لهم جميعاً، واما إلى نبي التزم كل الناس بكلامه وبنوا عليه، واما إلى الفطرة، ورجّح ان منشأ كافة السِيَر العقلائية هو الفطرة، قال: (وأمّا طريقة العقلاء: فهي عبارة عن استمرار عمل العقلاء بما هم عقلاء على شيء سواء انتحلوا إلى ملة ودين أو لم ينتحلوا، ومنهم المسلمون، وسواء كان ما استمرت عليه طريقتهم من المسائل الأصولية أو من المسائل الفقهية)(6) و(ولا إشكال أيضاً في اعتبار الطريقة العقلائية وصحة التمسك بها، فان مبدأ الطريقة العقلائية لا يخلو: إما ان يكون لقهرِ قاهرٍ وجبرِ سلطان جائر قَهَرَ جميع عقلاء عصره على تلك الطريقة واتخذها العقلاء في الزمان المتأخر طريقة لهم واستمرت إلى ان صارت من مرتكزاتهم، وإما أن يكون مبدؤها أمر نبي من الأنبياء بها في عصر حتى استمرت، وإما أن تكون ناشئة عن فطرتهم المرتكزة في أذهانهم حسب ما أودعها الله تعالى في طباعهم بمقتضى الحكمة البالغة حفظاً للنظام، ولا يخفى بُعد الوجه الأول بل استحالته عادة وكذا الوجه الثاني فالمتعين هو الوجه الثالث)(7).

المناقشة:

1- منشأ الطريقة العقلائية نوح أو آدم

ولكن الظاهر عدم تمامية كلامه إذ:

أولاً: لا يبعد أبداً كون منشأ كثير من السِّيَر هو أحد الأنبياء كنوح عليه السلام الذي فنيت البشرية في زمانه ولم يبق إلا من معه في السفينة ولعلهم كانوا ثمانين شخصاً فليس من المستبعد أبداً أن يكون قد ربّاهم على سلسلة من الآداب والأحكام التي سارت عليها البشرية بعد ذلك وصارت سيرة مستقرة لهم كاحترام الأبوين أو الكبار أو حجية الظواهر أو حجية خبر الثقة وقول أهل الخبرة وما أشبه ذلك.

2- المنشأ هو العقل

ثانياً: ان هنالك شِقاً رابعاً وهو ان يكون منشأ سيرة العقلاء هو (العقل) بل هذا هو المفترض به ان يُعدّ المنشأ الأول إذ البحث هو عن سيرة العقلاء بما هم عقلاء (كما هو صريح كلامه قدس سره: استمرار عمل العقلاء بما هم عقلاء) فالقيد يفيد ان المنشأ عقلهم.

والفطرة تختلف عن العقل لوجودها في الحيوان ايضاً وإن سميت بالغريزة حينئذٍ، والضابط هو: ان كل ما اتّحدت فيه سيرة الحيوان مع الإنسان، فهو أمر فطري وذلك كرعاية أطفالهم والحنان بهم ودفع الأذى عنهم وحمايتهم، وكلما انفرد به الإنسان فهو عقلي كحجية ظواهر الألفاظ مثلاً، وهناك إشكالات أخرى على كلامه قدس سره فراجع مباحثنا في الفقه والأصول.

المحطة الثانية: الانثروبولوجيا وسُنَّة الأولين

ثانياً: ان من فروع (سنة الأولين) التي اعتبرها أمير المؤمنين عليه السلام من شعب اليقين، ما يسمى في العلم الحديث بـ(الانثروبولوجيا) (Anthropology) وهي كلمة مركبة يونانية و(ology) تعنی علم والـ(Anthrop) تعني الإنسان، فهي تعني إجمالاً (علم الإنسان).

وبعبارة جامعة شاملة هي العلم الذي يدرس مختلف جوانب الإنسان في الماضي والحاضر: فيدرسه بما هو إنسان بدائي، أو يدرسه بما هو ابن الطبيعة، أو يدرسه بما هو كائن اجتماعي أو حضاري، كما انه يدرس أعمال الإنسان وسلوكه واعمال الجماعات البشرية وسلوكها وأنواع انتاجاتها.

أنواع علوم الانثروبولوجيا

وقد تعددت تعريفات الانثروبولوجيا تبعاً لتطور العلم ولاختلاف أنواعه أيضاً فهناك: الانثروبولوجيا اللغوية وهناك الانثروبولوجيا الحيوية (البيولوجية) والانثروبولوجيا الثقافية وغيرها.

والانثروبولوجيا اللغوية تدرس مثلاً تأثير اللغة على الإنسان وطريقة تفكيره ونظام حياته فمثلاً: الشعب الألماني لغته لغة جافة ولذا(8) تجدهم خشنين صارمين اما الشعب الفرنسي فلغته لغة مائعة ولذا تجدهم شعباً منحلاً إلى حد كبير، والعكس صحيح أيضاً: إذ للغة دور في صناعة شخصية الإنسان كما ان للإنسان دوراً في صناعة اللغة، ولذا تجد ان الافراد والشعوب التي يكثر فيها السباب والشتائم على كل أمر تافه حقير أو مهم خطير، تجدهم أقرب إلى العنف والعدوان؛ فان من الطبيعي ان من تجري على لسانه الكلمات الجارحة الحادة فانه لو كان بإمكانه لبادر لاستخدام العنف اليدوي بعد العنف باللسان، ولو كان بيده السلاح فلعله لا يتورع عن جرح الآخر أو حتى قتله لشيء تافه، كما رأينا ذلك كثيراً.

الوالد قدس سره: السلم أحْمَدُ عاقبةً

ولذلك كان السيد الوالد يوصي بالسلم المطلق في الجوارح كلها حتى اللسان بل حتى في النظرات بل حتى في التفكير فكان يقول بان عليك ان يكون تفكيرك تجاه الآخر تفكيراً رفيقاً فان التفكير يتموج فما تفكر فيه تجاه الآخر فانه طاقة تتحرك وتصل إلى قلبه أو مخه فان كنت تحمل رسالة السلام والسلم إليه تأثر قلبه بها فكان أقرب إلى أن يكون مسالماً لك وإن كنت تحمل رسالة العنف والقسوة فان قلبه ينفعل – بدرجة أو أخرى عن ذلك ولذا قالوا (القلوب سواقي) و(القلب يهدي إلى القلب).

وكان قدس سره يقول ان السلم أحمدُ عاقبةً وهو عنوان في كتاب السبيل إلى انهاض المسلمين حيث أوضح ان العنف وإن فُرِض ان مردوده الآني الفعلي هو لصالحك (إذ قد يرضخ الآخر لطلباتك ويستسلم لك) لكن مردوده على المستوى المتوسط والبعيد رهيب بل مدمر فان العنف يولّد العنف في دوامة متسلسلة متصاعدة متتالية متموّجة لا تتوقف عند حد أبداً إلا بعامل خارجي ضاغط أقوى معاكس.

وقد ورد في التاريخ ان بوذا ربى أحد التلامذة الأذكياء وكان يسمى بُرنا، حتى إذا أدرك منه الحكمة، أرسله لهداية قوم من الهمج البرابرة فلما ودّعه وابتعد خطوات ناداه أن يا بُرنا أقبِل، فرجع بُرنا إليه متسائلاً.

فقال له الأستاذ: يا بُرنا هَبْ انهم سبّوك فما أنت صانع؟ قال: أقول انهم أناس طيبون!

قال الأستاذ: لم ذاك؟ قال برنا: لأنني ذهبت لأغيرّ دينهم فاكتفوا بسبي!

فقال الأستاذ: أذهب فأنك جدير بان تفلح في مهمتك..

فلما ابتعد خطوات أكثر، ولنفرضها عشرين خطوة مثلاً، ناداه أن أقبل يا بُرنا، فلما أقبل سأله يا بُرنا: هب انهم اجتمعوا إليك ليضربوك فما أنت صانع؟ قال بُرنا: أقول انهم أناس طيبون! قال الأستاذ ولِمَ يا بُرنا؟ قال: لأنني ذهبت لأغير دينهم فاكتفوا بضربي فقط! فقال الأستاذ: أذهب يا بُرنا فأنت ناجح!

فلما ابتعد أكثر، ولنفرض انه ابتعد خمسين خطوة مثلاً، ناداه بصوت عال ان أرجع يا بُرنا! فلما رجع قال الأستاذ: هَبْ انهم اجتمعوا إليك ليقتلوك فما أنت صانع؟ قال أقول: انهم أناس طيبون! قال الأستاذ وهذه المرة أيضاً؟ قال نعم قال: لِمَ؟ قال: لأنني ذهبت لأغيّر دينهم لكنهم واجهوني بان منحوني الحياة الباقية وسلبوني الجسد الفاني البالي! فقال: أذهب يا برنا فانك ستفلح في هذه المهمة حتماً.. ثم ذهب برنا وكان نجاحه في مهمته كما توقعه له الأستاذ.(9)

إن من يملك قوة المنطق لَحقيقٌ ان لا يلجأ إلى منطق القوة، وإن من يمتلك البرهان والدليل لجدير بان يجتنب السباب والشتائم، ثم إن مَن يحمل رسالة الأخلاق والسلام هو الذي يحصد الحب والخير والوئام.

وهابيو لندن يضربون المستبصرين!

وقد سألني أحد الأفاضل من المستبصرين وكان مسيحياً ثم أسلم وصار سلفياً ثم تشيع وصار إمامياً، سألني عن كيفية مواجهة السلفيين والوهابيين في لندن، قال: انهم يهاجموننا بضراوة لأننا كنا سلفاً ثم تشيعنا فنحن أبصر بعيوبهم وبأخطائهم وانحرافاتهم من الآخرين ونحن أقوى في الحجاج والاستدلال منهم، فكثيراً ما كنّا نفحمهم في المناظرات أمام جمع من الناس، لكنهم بدأوا يهاجموننا ويضربوننا بوحشية وكنا ندافع عن أنفسنا ونردّ صاعهم بصاعٍ مماثل.. وربما أدى الأمر إلى تدخل الشرطة وصارت فضيحة للمسلمين!

فقلت: (السلم احمد عاقبة)، وان الله تعالى يقول: (وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)(10) وانكم إذا صبرتم وتحملتم بعض الضرب فان الناس جميعاً سيتعاطفون معكم ويدينونهم فان (الناس أنصار الحليم على الجاهل) وكما ورد في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه السلام: ((أَوَّلُ عِوَضِ الْحَلِيمِ مِنْ حِلْمِهِ أَنَّ النَّاسَ أَنْصَارُهُ عَلَى الْجَاهِلِ))(11)

قال: لكن ذلك يزيدهم جرأة علينا وطمعاً بنا! ثم ان الضرب مؤلم فكيف نتحمل ونسكت ولا ندافع عن أنفسنا؟

قلت: ان أنبياء بني إسرائيل كانوا يُضربون لكنهم ما كانوا يواجهون الضاربين بالضرب.. بل كانوا يقتلونهم ويذبحوهم حتى ورد ان بني إسرائيل كانوا يقتلون بين الطلوعين سبعين نبياً، ولم يَرِد في التاريخ ان الأنبياء قابلوهم بالمثل..

قال لي: لكننا لا نستطيع الصبر والتحمل.. أولئك الأنبياء! وأين نحن منهم؟

فقلت له: لا يكونَنَّ غاندي ونهرو والناس العاديين من الشعب الهندي أعلى منكم كعباً وأقوى على حمل رسالتهم بالسلم واللاعنف منك على حمل رسالتك.. فقد قال نهرو: إن الشرطة البريطانية كانت تضربنا بالهراوات وكان من الطبيعي ان تثور قوتنا الغضبية ونضربهم بل كان بمقدورنا ان نسحقهم فان المظاهرات كانت جماهيرية عارمة وكانت أعدادنا تفوقهم بكثير، إلا ان غاندي كان قد أوصانا ان نشبك أيادينا خلف أظهرنا بقوة كي لا تنفلت أيدينا دون إرادتنا فنضربهم كما يضربوننا!

وهكذا انتصر الهنود على الاستعمار البريطاني بالسلم المطلق الذي نقل ان غاندي قال عنه: تعلمت من الحسين عليه السلام كيف أكون مظلوماً فانتصر!

العالِم لأطفاله: يمكن أن اضربكم!

كما نقل عن أحد العلماء الأبرار وقد توفي قبل سنين انه كان يتميز بهدوء منقطع النظير وانه كان يتحلى بأخلاق نموذجية مثالية وانه حتى وهو في البيت لم يكن يفقد هدوءه أمام ضجيج الأطفال وإيذائهم، حتى ضاقت زوجته ذرعاً بهدوئه واعترضت على عدم تصديه لردع الأطفال ببعض الشدة إذ انها كانت تتحمل عبء إسكاتهم إذا جاوزوا الحد في إثارة الضجيج أو في تعنيفهم إذا انشغلوا بالإيذاء، فعاتبته على هدوئه وسكوته! فقال حسناً في المرة القادمة سأفعل شيئاً ما، ولما انشغل الأطفال بالإيذاء التفت إليهم بكل هدوء وحتى بدون ان يقطِّب وجهه وقال لهم بلهجته الهادئة: (يا أطفال.. إذا استمريتم في الإيذاء فيمكن ان أضربكم) ولم يقل (فسأضربكم) بل (يمكن ان أضربكم)! واتصور انه لقدسه وتقواه لعله كان قد قلّب في ذهنه وجوه التورية وقصد من (يمكن) الإمكان العقلي لا الوقوعي مثلاً!.. وهنا علمت زوجته ان الهدوء ذاتي له وان (ذاتيّ شي‌ء لم يكن معلّلا...)!

وقد ترك هدوئه أكبر الأثر على أسرته وأصدقائه وأحبائه ومستمعي محاضراته بحيث لا تزال محاضراته بما تحمل من بصمات اليقين ومن تقاطيع وجهه النوراني الهادئ، مصدر هدوء وطمأنينة لمن يستمع إليه!

كيف يوصلنا علم الانثروبولوجيا لليقين؟

وعوداً على بدء فان اليقين يبتني على سُنَّة الأوَّلين، ومن مصادر الوصول إلى سنة الأولين فروع عديدة من علم الانثروبولوجيا.. فان علم الآثار قد يوصلنا إلى اليقين بسلسلة من الحقائق.. كما ان علم الانثربولوجيا اللغوية قد يوصلنا إلى سلسلة من الحقائق عن حياة الشعوب وتطورها الفكري والمعرفي والاقتصادي ذلك انه قد تخترع مثلاً كلمات اقتصادية جديدة تتناسب مع حاجات العصر الاقتصادي المستجدة أو المناهج الاقتصادية المتطورة أو الأدوات الاقتصادية المتجددة.

وفي علم الانثروبولوجيا الحيوية وفي علم الآثار، وهو الذي يراه الكثير من العلماء الأمريكيين من فروع الانثروبولوجيا خلافاً للمدرسة الأوروبية التي تراه اختصاصاً منفصلاً أو ملحقاً بعلم التاريخ، فان مشكلتنا الأساسية، في ضمن مشاكلنا الأخرى، ان الغرب سبقنا إلى هذا الحقل وإلى الانثروبولوجيا الحيوية بل لا تكاد تجد لنا متخصصاً متميزاً يشار إليه بالبنان في مختلف فروع الانثروبولوجيا وإن وجد فقليل أو نادر.

المؤسف ان الغرب سبقنا إلى هذا العلم أيضاً!

وحيث سبقنا الغرب فانه أيضاً، وكنتيجة طبيعية لذلك، سيّس العديد من علمائه بعض فروع هذا العلم أو مسائله وصبوه في مآلات ضد دينية، والأغرب اننا لو أردنا التصدي للإجابة لاحتجنا إلى ان نرجع إلى سائر علمائهم الذين تصدوا عبر تخصصهم في الانثروبولوجيا البيولوجية أو علم الآثار إلى ردّ هذه النظرية أو تلك! وها يعني اننا احتجنا إليهم حتى في تثبيت بعض أصول العقائد والمعارف وإقناع شبابنا بها.

فمثلاً: نظرية داروين في تطور الأنواع وان أصل الإنسان قرد، استند فيه إلى ما يدعى انه مخرجات معادلات علوم الانثروبولوجيا وقدّم سلسلة من ما سماه بالبراهين العلمية على ذلك، والغريب ان كثيراً من المسلمين تأثر به أيضاً بل حتى بعض رجال الدين! والأغرب ان الذي تصدى بالأساس لدحض ادعاءاته وانها مجرد فرضية لا ترقى حتى إلى مستوى النظرية العلمية هو علماء الانثروبولوجيا الحيوية وعلماء الحفريات والآثار الغربيون حيث كشفوا مكامن الزيف في نظريته ونقاط الضعف واشّروا على المقدمات المغلوطة في ضمن سلسلة المقدمات التي ادعى انها توصل إلى هذه النتيجة! ثم بعد ذلك استند غالب من أراد مقارعة النظرية الداروينية، من المسلمين، إلى نتائج تحقيقات أولئك العلماء!

ومع ان الرد الكلامي والفلسفي كافٍ لدحض النظرية ومع ان الرد العام النقضي، كالنقض بالنحل الذي ثبت علمياً انه منذ مجاهيل الزمن(12) لا يزال على نفس حالته وواقعه دون تطور وتغيير، كافٍ أيضاً إلا ان الرد العلمي المبرهن هو الذي يقنع الكثير من الشباب، فلِمَ نستجدي اليقين المعرفي أو بعض فروعه من الآخرين!

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين

* سلسلة محاضرات في تفسير القرآن الكريم
http://m-alshirazi.com

.........................................
(1) سورة الأعراف: آية 203.
(2) الحسن بن شعبة الحراني، تحف العقول، مؤسسة النشر الإسلامي – قم، ص162.
(3) سورة النساء: آية 34.
(4) السيد الشريف الرضي، نهج البلاغة، دار الهجرة للنشر – قم، ص82.
(5) عبد الواحد بن محمد التميمي، غرر الحكم ودرر الكلم، مكتب الإعلام الإسلامي – قم، ص464.
(6) الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني، فوائد الأصول، مؤسسة النشر الإسلامي – قم، ج3 ص192.
(7) المصدر نفسه: ص192-193.
(8) التعليل في الجملة وبنحو المقتضي ولو الضعيف.
(9) والقصة منقولة ههنا بالمضمون وبتصرف واختصار وليس النقل حرفياً.
(10) سورة البقرة: آية 237.
(11) السيد الشريف الرضي، نهج البلاغة، دار الهجرة للنشر – قم، ص505.
(12) منذ ملايين السنين.

اضف تعليق