بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى، محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولا قوه إلا بالله العلي العظيم.

يقول تبارك وتعالى:

(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)([1])

ويقول جل اسمه:

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)([2])

الحديث يدور في هذه السلسلة من المباحث القادمة ـ بإذن الله تعالى ـ حول بعض البصائر القرآنية الكريمة التي تتعلق بهاتين الآيتين الكريمتين منطلقين من قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) حيث ان تلك الآية من سورة الفتح تندرج في إطار هذه الآية الكريمة كما سيتضح لاحقا ان شاء الله تعالى.

وهذه مجموعة من البصائر في هذه الآية الكريمة:

1) الآية تبين احد اهم مقاصد الشريعة وغاياتها: (الرحمة للعالمين)

إن الآية الشريفة تكشف عن واحد من أهم ـ ان لم يكن الأهم مطلقا ـ مقاصد الشريعة وأهدافها وغاياتها وعللها العامة إذ يقول جل اسمه (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) فهذا هو المقصد الاسمى من بعثة وإرسال الرسول الاكرم محمد المصطفى (صلى الله عليه وآله).

ما هي السمة التي تميز مسلمي العالم؟

ان من المعروف ان كل تجمّع أو شخص، له علامة او سمة مميزة تميزه عن غيره او له شعار او مظهر يوصف به، والامر جارٍ في الشعوب والبلدان والأمم والحضارات، فمثلا الصناعة اليابانية تميزها سمة الإتقان والإحكام كما يوصفون هم بالوداعة والسلام، وفي المقابل فانه عندما يخطر في بال احدنا اسم الحكومة البريطانية فان اول شيء يقفز الى الذهن هو التآمر والاستعمار!! لان البريطانيين على مر التاريخ كان يحوكون المؤامرات والمكائد للأمم والشعوب وما شعب فلسطين عنا ببعيد!

ولكن ماذا عندما يذكر اسم المسلم؟ وما هو أول أمرٍ يخطر في بال أهل العالم؟

يقال: اذا اجتمع خمسة يابانيين فانهم سينتجون اختراعا! واذا اجتمع خمسة بريطانيين فانهم يحوكون مؤامرة! واذا اجتمع خمسة من المسلمين فانهم سيشكلون خمسة أحزاب وخمس جبهات وخمس نزاعات وغير ذلك!!

وبالطبع فان هذا مجرد مثل ليس الا... إذ من الواضح ان الكثير من المسلمين يتميزون بالطهارة والنزاهة والورع والتقوى لكن الانطباع العام في الرأي العام العالمي عنهم هو التقاطع والتدابر وعدم الانسجام كما نشاهد ملامحه جليّة في العالمين العربي والإسلامي.

وصفوة القول ان كل شيء له سمة تميزه ونعطي انطباعا عاماً، سلبياً أو إيجابياً.

ما هي السمة التي ميزت الرسول المصطفى (صلى الله عليه وآله)؟

ولكن ما هي سمة وعلامة وميّزة نبينا المصطفى محمد (صلى الله عليه وآله) عنه؟

ان الله تعالى يميز نبيه بعلامة فارقة لم يتميز بها أحد أبداً كما تميز بها هو (صلى الله عليه وآله) وهي (الرحمة للعالمين).

واللافت للنظر ان الله تعالى لم يميزه بصفة أخرى حتى بمثل العدل والذي هو من أجلى المستقلات العقلية، ورغم انه من اعظم الصفات المطلوبة على الاطلاق انه الا رغم ذلك لم يقل تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله) وما أرسلناك الا لإقامة العدل أو الا للعدل بل قال (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)

ومن ذلك نعرف ان الرحمة هي ميّزة تسمو على العدل وهي افضل منه وان كانت هناك حدود بينهما ومجال خاص – في الجملة – لكل منهما كما ستاتي الاشارة اليها في المستقبل ان شاء الله تعالى.

ثم ان ظاهر الحصر في الآية (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) انه حصر حقيقي، والاستثناء استثناء تام، بمعنى: ليس الارسال الا لاجل الرحمة وللعالمين باجمعهم!

وفي ذلك رسالة كبيرة الى كافة أهل العالم بل إلى العالمين جميعاً!

والآن لنرجع إلى أنفسنا ولنسأل: ما هي السمة التي تميز المسلمين في العالم؟!! هل هي السمة التي تميز بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهي الرحمة؟! ام هي سمة العنف والحروب والدمار والقتل الارهاب التي ألقت بظلالها على المسلمين جميعاً نتيجة الجهود الجبارة التي بذلتها الوهابية ومشتقاتها من القاعدة وطالبان وداعش وغيرها ذات الفكر الدموي الاموي الوهابي المقيت؟!

ان العالم اليوم لا يعرف المسلمين بالرحمة والانسانية وحقوق الانسان، بل ان العالم اليوم يعرف المسلمين اما بالجهل والتخلف أو بالاستبداد وسحق الحريات، او بالإرهاب الدموي الذي تشمئز منه النفوس والارواح.

وذلك كله على النقيض تماماً من الغاية الاسمى من بعثة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وهي الرحمة للجميع وعلى مر العصور، بنص القرآن الكريم.

واستلهاماً من هذه البصيرة القرآنية المهمة فان على الإنسان ـ وخصوصا المؤمن ـ ان يُقيّم وضعه باستمرار، فرجل الدين مثلا عليه ان يحلل باستمرار ما الذي يميّزه من مكارم الاخلاق في هذه المنطقة او في تلك الدولة؟ وكذلك الأستاذ الجامعي او التاجر عليه ان يدرس باستمرار انه بماذا يُعرف؟ فقد يعرف بالعلم أو البلاغة أو بالثراء والمال لكن الأهم من ذلك كله ان يعرف بالرحمة وان يكون كذلك، أوليس الله تعالى يقول: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)؟.

لنتميز بالرحمة والخدمة أولاً ثم بالعلم أو الانجازات

ان المفروض في الإنسان سواء أكان عالما او فقيها او خطيبا او استاذا جامعيا او كان رئيس الدولة او غير ذلك ان يكون أولاً وان يعرف ثانياً بأنه إنسان رحيم كما كانت هذه الصفة صفة رسول الله (صلى الله عليه وآله).

احد العلماء شوهد مرارا عديدة وهو يمر على صاحب بسطة يبيع بعض الخضار ثم يتخير من خسّة أوراقه المهترئة واردأ أنواعه ولا يختار الطازج والطري منه!! فيأخذ منه الأوراق الخارجية منه وهي عادة ما تكون غير محبذة ويترك للبقال الأوراق الداخلية الطرية والطازجة ثم انه يدفع له ثمن الجيد الطري!!

وقد سئل بعد ذلك عن علة هذا الفعل فقال: ان هذا البقال فقير وانا اريد ان اساعده وادخل السرور في قلبه فاعمد الى شراء ما لاقيمة فيه كالخس الرديء حتى اعينه من خلال ذلك، واما بالنسبة لي فان أكل الخس الردئ هو نوع – ولو بسيط – من ترويض النفس!

ان على الإنسان ان يجاهد نفسه ليكون مظهر الرحمة في البيت والأسرة او في المحلة والمدينة او في الدائرة والمعمل وفي أي زمان وفي أي مكان بحيث يعرفه كل من يحيطون به انه إنسان رحيم عطوف لا يكف عن الحنوّ عليهم والرحمة بهم وعندها سيكون اتصافه بهذه الصفة أفضل دعوة للدين وللقيم ومكارم الأخلاق.

ولقد تميز الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) بسمو أخلاقه وعظيم رحمته حتى سماه قومه بالصادق الأمين ووصفه الله تعالى بالرؤوف الرحيم (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)([3])

ومما يؤكد ذلك قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): ((خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي))([4])

وقوله (صلى الله عليه وآله) ايضا: ((خَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاس‏))([5])

وقد قيل في تفسير الرحمة في قوله تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) انها: المنفعة([6])، أي وما ارسلناك الا نافعا للعالمين، وسيأتي كيف ان الرسول (صلى الله عليه وآله) نفع العالمين جميعاً.

وقال الأمير (صلوات الله عليه) في رسالته لمالك الاشتر: "واشعر قلبك الرحمة بالرعية" وهذا أمر مولوي([7]) صريح لمالك، ولكل وال أيضاً([8]) ويستفاد منه أيضاً ان على كل إنسان ان يشعر نفسه بالرحمة فيهتز قلبه عندما يسمع بوجود يتيم معدم في محلته او في المحلة المجاورة او عندما يرى فقيراً أو مسكيناً من افراد عشيرة او العشيرة الاخرى المجاورة او في أي مكان اخر من العالم.

او عندما يسمع بسجين او شهيد مغدور من شهداء المؤمنين فكيف بمن يسمع بقضية سبايكر وما جرى في ملابساتها من اسر وإعدام جماعي لشباب اعزل بعمر الورد وقد ساقوهم كأسارى بادئ الامر ثم غدروا بهم ودفنوهم في مقابر جماعية.

والانسان بطبعه يغفل وينسى بل قد يقسو قلبه فلا يعود يكترث لما يصيب الاخرين من مصائب أو تحل بهم من قوارع ولذلك فانه يحتاج الى اشعار نفسه وتلقينها بالرحمة بالآخرين.

ان على كل واحد منا عندما يرى يتيما ان لا يمر عليه مرور الكرام بل ان يفكر لو ان ولده كان هو هذا اليتيم فكم سيكون ذلك مؤلماً؟، وعليه ان يستشعر حالة قلبه آنذاك؟ وهل هذه الحالة التي تعيشها الان وفي هذه اللحظة هي نفس الحالة التي تستشعرها لو كنت أنت اليتيم أو البائس الفقير أم كنت بحالة اخرى من الانكسار؟

نعم (وأشعر قلبك الرحمة) وروّض قلبك على ذلك واملأه بالحنان والعطف والمحبة للآخرين خاصة الأيتام والأرامل والنازحين والمرضى والمغدورين من قبل الأعداء او السجناء المظلومين وكل من ابتلوا ببلية في هذه الحياة الدنيا.

فلا بد إذاً من أن نربي أنفسنا وأبنائنا وذوينا وكل من يتأثر بنا على الرحمة والرأفة ولا بد من ان نجعل أول هدف لنا في التربية (لأنفسنا ولأولادنا وذوينا) هو ان نجعلهم قطعة من الرحمة والنفع للناس الآخرين.

ومن الأساسي جداً التأكيد على ان يقوموا بذلك كله بدافع الرحمة والحنان وليس من منطلق التفكير في المردود والعائد المادي البحت.

البصيرة الثانية: إنسانية الرسالة المحمدية وعالميتها.

يروى لنا التاريخ ان شخصاً حكيماً سمع عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) فشد الرحال إلى المدينة ليقيّم الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) عن قرب ليكتشف انه هل هو نبي حقيقة او هو ملك من الملوك اتخذ دعوى الرسالة وسيلة لما يروم! فراقبه عن كثب فرأى النبي (صلى الله عليه وآله) خارجا من المسجد.. واذا بامرأة عجوز تستوقفه (صلى الله عليه وآله) لتسأله فوقف (صلى الله عليه وآله) لها واطال الحديث معها ولم يمضِ لشأنه حتى تركته تلك المرأة العجوز! وهذا الموقف جدير بالتأمل والتدبر فان النبي (صلى الله عليه وآله) كان قائداً عسكرياً (إضافة الى نُبوّته) كما كان منتصراً في مختلف حروبه وكانت له كل مظاهر القوة والعظمة الظاهرية أيضاً (إضافة للواقعية الحقيقية) وكان يقود دولة فتية قوية وفي حالة حرب ايضا ومع ذلك تلطف بتلك المرأة المسنة وقضى حاجتها واجاب عن كل اسئلتها!!

وهنا قال ذلك الرجل الذي جاء ليقيم النبي (صلى الله عليه وآله): ان ذلك من أخلاق الأنبياء وليس من أخلاق الملوك... فاسلم على يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله).

نعم، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، ان هذه الاية الشريفة ـ في بصيرتنا الثانية ـ تكشف عن أمرين:

فهي تكشف عن إنسانية الرسالة المحمدية كما تكشف عن عالميتها.

اما الإنسانية فان (الرحمة) هي الجذر لكل مظاهرها وهي الأساس لكل فروعها، وهذا يعني فيما يعني ان تكون الإنسانية اولا ثم تكون التشريعات والقوانين المنظمة للافراد والمجتمعات منبعثة عن هذا الاصل الأصيل والمقصد الأساس؛ فقد قال امير المؤمنين (عليه السلام): ((فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وَ إِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْق))([9])، ولذا نجد ان كافة تشريعات الدين الإسلامي تنطلق من منطلق الرحمة كما أشار إلى ذلك أيضاً صاحب الجواهر معبّراً باليسر والسعة في التشريعات([10])، الأمر الذي يكشف عن إنسانية الإسلام في شتى تشريعاته.

واما العالمية: فهي صريح قوله تعالى: (للعالمين)

لنقيّم أنفسنا على ضوء مقياسي الرحمة والعالمية

وانطلاقاً من ذلك كله علينا ان نقيم أنفسنا على ضوء هذين الأصليين باستمرار (الرحمة والعالمية) فهل نحن رحماء بالاخرين من أي لون كانوا أو صنف وفي شتى بقاع الأرض؟ وهل نتعامل معهم بكل انسانية وهل أصبحت الرحمة والحنان والخدمة كعلامة وماركة وميزة ظاهرة لنا؟

ولنتوقف ههنا عند مظهرين ومحكّين ومحطتين من أهم المحطات التي يظهر بها حالنا ومدى تميزنا وعدمه:

1- فهل الزائرون للنجف أو كربلاء أو الكاظمية أو سامراء ومشهد والمدينة المنورة ومكة المشرفة، عندما يلتقون بنا – في المحلات والأسواق والشوارع والمشاهد وغيرها – يرون فينا الرحمة والخدمة كطابع مميز لكل أهالي البلد؟

2- الطلاب الجامعيون الذين يذهبون الى مدن اخرى غربية او شرقية غير مسلمة فما هو الانطباع الذي يكوّنونه في أذهان الآخرين عن الاسلام؟ هل سيكونون قطعة من الرحمة والانسانية والنفع كما يريد الاسلام منهم ذلك بالفعل؟

إحدى البلدان المجاورة لنا ابتعثت مائة ألف طالب جامعي إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليدرسوا في جامعاتها! فما هو الانطباع الذي أوجوده في أذهان الناس هنالك؟ لقد كان باستطاعتهم ان يغيروا أكثر شباب كل تلك الدولة لو التزموا بالاخلاق الإسلامية والرحمة الإنسانية والخدمة التي دعا اليها وحث عليها الاسلام المحمدي الاصيل.

ان المشكلة هي اننا – غالباً – لسنا عالمييّن في التفكير والتخطيط ولا في التنفيذ ولا في التواصل، فما هو مدى تواصلنا مع بقية الشيعة في العالم، بل مع جميع المسلمين, بل مع البشرية جمعاء؟ هل لنا من السعة والشمولية في التواصل مع الآخرين بحيث نكسبهم الى جانبنا والى جانب حقوقنا المشروعة؟

كلا، ان مما يؤسف له ان الكثير منا لا يزال ذا تفكير ضيق لا يتجاوز التفكير في المعيشة او القليل من الانجازات على الصعيد الفردي او المحلي ولا يخرج الى الفضاءات الواسعة المختلفة، ان تفكيرنا تفكير محلي وليس عالمياً ولا يزال متقوقعا على منطقته أو حدود بلده في أحسن الحالات.

وذلك كله رغم ان الرسالة التي نحملها ونتحملها ـ وهي الاسلام ـ هي رسالة الرحمة وهي رسالة العالمية (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) وهي رسالة خالدة الى الأبد ولا تتحدد بزمان او مكان معينين.

وفي المقابل نرى ان تفكير الاخرين – الذين يحكمون العالم – هو تفكير لا يتحدد بحدود، إذ انه تفكير عابر للقارات والبلدان، وكل تفكير هذا شانه فانه هو الذي سيتحكم بمصائر الأمم إذا وفر سائر العوامل؛ لانه تفكير عالمي اممي واسع!

وصفوة القول في البصيرة الثانية التي نستفيدها من الآية الكريمة هي: ان نكون عالميين في تفكيرنا وتخطيطنا، وان تكون السمة المييزة لنا: ان نكون قمة في الرحمة وقمة في المنفعة والعطاء.

البصيرة الثالثة: هل الرحمة المهداة عامة ام خاصة بمن اتبع الهدى؟

في البصيرة الثالثة نجيب على تسائل مهم: كيف ان الرسول بعث وارسل رحمة للعالمين في حين الكفار والملحدين والمنافقين لا نصيب لهم من هذه الرحمة؟

وقد استشكل بعض المشركين على النبي ص بهذا الإشكال في زمانه عندما آذوه ثم زادوا في ايذاءه ثم ازدادوا عتوا وعلوا وطغياناً وإيذاءاً فابتلاهم الله بالقحط حتى اضطروا (ولاحظوا درجة الاضطرار وشدته) إلى ان يأكلوا القراد([11]) (ومن يتحمل ان يأكله!) والوبر المخلوط بالدم (ومن يعقل ان يستسيغه!)، ومعنى ذلك أنهم اضطروا اشد درجات الاضطرار، الا انهم مع ذلك عاندوا ولجوا فلما ابتلاهم الله بالقحط حتى هذه الدرجة جاء وفد من قبل ابي سفيان الى النبي (صلى الله عليه وآله) واحتجوا عليه:

انت رحمة للعالمين فهل من مقتضى الرحمة ان نبتلى بمثل ما ابتلينا به ونحن قومك وعشيرتك؟!!

فهذا إذن هو موضع السؤال إذ من الواضح ان رحمة الرسول (صلى الله عليه وآله) في الواقع الخارجي شملت من اهتدى بهداه وتبع أوامره ونواهيه ولكن المتوهم يقول انها لم تشمل الجميع إذ لم تشمل كافة المسيحيين واليهود والبوذيين والملحدين وغيرهم؟ مع ان الآية صريحة حيث تقول: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) أي للجميع ولم تقل وما أرسلناك الا رحمة للمؤمنين او للمسلمين خاصة؟

وقد أجيب عن هذا السؤال بعدة وجوه وهناك وجوه غيرها يمكن ان تضاف إليها نذكر بعضها ونترك الباقي للمبحث اللاحق ان شاء الله تعالى:

1- رحمته (صلى الله عليه وآله) للعالمين تكوينية

1) وهو ما ذكره البعض ونضيف اليه بعض التطوير وهو ان يقال:

ان الرحمة للعالمين هي رحمة تكوينية فهي شاملة للجميع حتى الكفار منهم وان عاندوا ولجوا، أي ان بعض انواع الرحمة قد شملتهم بلا شك وهي أنواع مهمة جداً وأساسية، ويرشد لأحد أنواعها في الحديث المشهور ((لولا الحجة لساخت الارض باهلها))

وقد ذكر المفسرون بعض مصاديق الرحمة التكوينية: ففي عهود الانبياء السابقين كان الانبياء اذا دعوا الناس الى الله تعالى وعاند المعاندون ولجوا، فان الله تعالى كان ينزل عليهم عذاب الاستئصال والهلاك، فهناك الكثير من الامم اما خسف الله بها الأرض أو انها مسخت اما الى الدببة اوالى القرود اوالى العقارب وغير ذلك.

لكن هذا العذاب الرهيب رفع عن العالمين ببركة بعثة النبي محمد المصطفى (صلى الله عليه وآله) فقد رفعت هذه الأنواع من العذابات المختلفة من مسخ وخسف واستئصال وشبهها.

نعم قد يحصل احيانا زلزال يعقبه خسف في الأرض الا أن ذلك خسف جزئي مؤقت يحدث طبيعيا حسب حركة صفائح طبقات الارض وحسب المعادلات الطبيعية الجيلوجية وليس بتدخل غيبي مباشر قاهر.

وبتعبير أخر: ان الرحمة للعالمين قد شملت الجميع حتى المعاندين منهم، ولولاها لعمتّهم صنوف وانواع من العذاب ومنها واهمها عذاب الاستئصال.

ففي عهود الأنبياء السابقين حدث ان قيل لهم مثلا (تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ)([12]) ثلاثة ايام فقط، اما في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله) فقد سمح لهم بان يتمتعوا لمئات أو آلاف السنين، فهؤلاء اللذين غصبوا حق امير المؤمنين منذ الف واربعمائة سنة نجدهم لا يزالون يتمتعون هم واتباعهم على وجه الارض إذ نجدهم حكاما وملوكا على دول كثيرة، كما نراهم وبأيديهم الثروات والقدرات والبلاد والعباد ولم يصبهم العذاب الالهي الدنيوي من مسخ أو خسف أو استئصال، رغم ان أسلافهم آذوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقتلوا اهله وابناءه وسبوا عياله وانتهبوا ثقله فقد قتلوا الزهراء (عليها السلام) – ويا لها من فاجعة عظمى هزت أركان الكون - واسقطوا جنينها المحسن (عليه السلام) كما قتلوا أو طاردوا وأذوا كافة أهل البيت (عليهم السلام) لكن مع ذلك حيث كان الرسول واهل بيته رحمة للعالمين فان هذه الرحمة قيّدت مقتضى العدل اذ كان مقتضى العدل غير ذلك كما هو واضح.

2- رحمة للعالمين بالتعريض وتوفير مقوماتها

2) ان الرحمة تتقوم بتعريض الناس لها وتوفير مقوماتها وتهيئة آلياتها والأجواء الملائمة، لا بجبر الناس عليها فإذا لم ينتهزوا الفرصة الذهبية المتاحة لهم فالمشكلة فيهم وهم المقصرون حقاً.

توضيح ذلك بالمثال: اذا انتخب الناس شخصاً كرئيس للدولة فرأى الوضع المزري للناس من البطالة والفقر وقلة الخدمات وغير ذلك فشكل لجنة من كبار الخبراء الاقتصاديين فوضعوا خططا متكاملة لحل مشكلة البطالة والفقر ثم انه – أي الحاكم – التزم بتنفيذ الخطة فعبّد الشوارع وطرق المواصلات وشيّد المصانع والمعامل واصلح جميع المرافق الحيوية ووفر فرص العمل والتوظيف وفتح باب السلف والقروض الميسرة غير الربحية لكل من يريد ان يفتتح مطبا او متجرا او مصنعا او غير ذلك فلا شك ان هذا الحاكم الحكيم يعد رحمة كبيرة لهذا البلد حيث وفر عوامل الانجاز وبواعث الانشغال والعمل...

لكن الشاب الكسول إذا لم يذهب ليتوظف ويعمل ولم يقم بأدنى جهد ليجتني الثمرة المهيأة أصلاً فبقي فقيرا معدما فلا شك ان المشكلة فيه وليست في ذلك الحاكم الرحيم.

والامر كذلك بالنسبة الى النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله) فقد جاء بمنهج متكامل سياسيا واقتصاديا وحقوقيا وفي كل الحقول وأرى الناس السبيل وأرشدهم إلى الطريق وطبق كل ذلك عملياً في انموذج حكومته – ومن ثَمَّ حكومة أمير المؤمنين والإمام الحسن (عليهما السلام) – المثالية في كل الجهات، ولو ان الناس التزموا بما جاء (صلى الله عليه وآله) به لتحولت الارض الى واحة خضراء بل الى المدينة الفاضلة بل إلى الجنة الواسعة قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)([13]) فالبشر هم من اعرض وانحرف عن جادة الصواب فالمشكلة فيهم وليس في الرحمة الكبرى للعالمين.

مثال اخر: لو شاهد شخص كريم رحيم فقراء في المحلة ليس لهم من القوت الا الخبز اليابس فافتتح لهم مضيفا وديوانا مفتوحا في كل يوم ووفّر فيه افضل الاطعمة وأفضل الخدمة ودعاهم بإلحاح وبأكبر قدر من الاحترام والتقدير، فلو ان هؤلاء الفقراء تكاسلوا ولم يذهبوا الى بيت ذلك الرجل المضياف فان ذلك لا يخدش أبداً بكونه رحمة كبيرة لهم فانهم هم الذين لم يأخذوا بها وتكاسلوا ورضوا بشيء من حطام الدنيا القليل.

من ملامح المخطط الاقتصادي لإمام المتقين (عليه السلام)

وقد وضع – ونفّذ – أمير المؤمنين (عليه السلام) ابان حكومته مخططاً اقتصاديا متكاملا كي لا يبقى في البلاد فقير واحد، ولا عاطل واحد عن العمل ولا شخص غير متزوج وقد حقق ذلك كله بالفعل مع كثرة المشاكل والحروب التي تسبب بها الناكثون والقاسطون والمارقون ومع قصر مدة حكمه (عليه السلام) حيث كانت اربع سنوات وبضعة اشهر (ولا يوجد مثل هذه الحكومة على وجه الارض الى يومنا هذا) ولكن الناس هم الذين ضيّعوا حظهم بانقلابهم عليه كما انقلبوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله) من قبل قال تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)([14]).

بل وفوق ذلك كله فان التاريخ يروي لنا ان الامام عليه السلام امر كل وال من ولاته ان يفرش سفرة عامة ويمد مائدة كبيرة جداً في الساحات المفتوحة، يوميا ولكل الناس في ولايته ويدعو الناس اليها كي لا يبقى فقير – إن وجد – أو حتى متكاسل أو غريب أو مضطر دون طعام جيد يومياً.

وفي الكوفة بالذات كان الامام الحسن المجتبى (عليه السلام) مكلفا بالاستضافة بهذه السفرة وقد ذكر التاريخ: ان مايقرب من عشرة الاف شخص كانوا يجتمعون على هذه السفرة، وهو عدد كبير جداً بمقياس تلك العصور.

ويروي المؤرخون أيضاً ان عشرة أصناف من الطعام كانت توضع على تلك الموائد ومنها اللحم، ومنها الدجاج، ومنها السمك، في كل يوم وفي كل بلاد الاسلام!!

ولكن ماذا عن المسلمين الآن؟

هكذا كان الرسول والأمير واهل البيت (عليهم السلام) رحمة للعالمين لكن الناس اعرضوا عنهم وسلموا مقاليد امورهم إلى من ينهب ثرواتهم ويبدد احلامهم ويسومهم سوء العذاب!! ولا يزالون كذلك فان الدول الاسلامية في هذه العصور تمتلا خزائنها من عائدات النفط وهي بعشرات المليارات بل بمئات المليارات وهي نعمة عظيمة جداً ولم يسبق طوال التاريخ ان حظيت أمم بمثل هذه الثروات الهائلة لكن اغلب المسلمين مع ذلك يعيشون تحت خط الفقر.

ثم الأغرب من ذلك انك تجد هذه الحكومات تفرض ضرائب جديدة على الناس أو تزيد السابقة سنة بعد سنة رغم ان الضرائب هي من أشد المحرمات حتى ورد في الأحاديث ان العشار (آخذ العشر كضريبة) لا يستجاب له الدعاء حتى في الاسحار التي يستجاب فيها الدعاء!

عَنْ نَوْفٍ الْبِكَالِيِّ فِي حَدِيثٍ ((أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) قَالَ لَهُ يَا نَوْفُ إِنَّ دَاوُدَ (عليه السلام) - قَامَ فِي مِثْلِ هَذِهِ السَّاعَةِ مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ إِنَّهَا سَاعَةٌ لَا يَدْعُو فِيهَا عَبْدٌ إِلَّا اسْتُجِيبَ لَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَشَّاراً أَوْ عَرِيفاً أَوْ شُرْطِيّاً أَوْ صَاحِبَ عَرْطَبَةٍ وَهُوَ الطُّنْبُورُ أَوْ صَاحِبَ كُوبَةٍ وَ هُوَ الطَّبْلُ))([15]).

فصفوة القول: ان الرحمة الإلهية للعالمين متوفر من خلال رسول الله (صلى الله عليه وآله) واهل بيته الكرام (عليهم السلام) الا ان الناس اعرضوا عنها وتركوها الى غيرها ولم ياخذوا بها فالمشكلة إذا هي في القابل وليست في الفاعل، وهذا ما يشير إليه عدد من المفسرين، قال في مجمع البيان: (وقيل: إن الوجه في أنه نعمة على الكافر أنه عرّضه للإيمان والثواب الدائم، وهداه وإن لم يهتد كمن قدم الطعام إلى جائع فلم يأكل، فإنه منعم عليه، وإن لم يقبل...)([16]).

3) وهو ما أشار إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو جواب دقيق ولطيف ومما يؤسف له انه غير معروف وغير مطروح وسيأتي لاحقاً بإذن الله تعالى.

المخطط الاستعماري الرهيب المثلث الأضلاع

في الختام نقول:

ان الاستعمار اخطبوط هائل بحوزته مخططات جهنمية مدمرة ومتنوعة، وقد اكتشف الغرب والصهيونية العالمية في العقود الأخيرة طريقة شيطانية جديدة متميزة لضرب الاسلام والمسلمين في الصميم ونعبر عنها بمركب ثلاثي الأضلاع:

أ- استثارة القوة المتخيلة لمعاداة الإسلام

الضلع الاول: هو استثارة القوة المتخيلة لدى البشر في معاداة الإسلام والمسلمين، وهي خطة ذكية جدا؛ لانها تخرج الأمر عن دائرة الفكر والحجة، اذ الفكر يقارع بالفكر والحجة واذا كان الأمر كذلك فالغلبة للمؤمنين بلاشك ؛ لان حجتهم قوية وناصعة، لكن ان يقارع الفكر (الدين الاسلامي) بطريق منحرف ملتوٍ وهو (القوة المتخيلة المخطط لاستثارتها بطريقة عدوانية ضد الإسلام والمسلمين) فقد تكون الغلبة للباطل الا ان يشاء الله تعالى.

ب- استثارة كوامن العاطفة

الضلع الثاني: استثارة كوامن العاطفة وبأقوى صورها، وهي غير القوة المتخيلة.

ويوضح ذلك المثال المعروف في (المنطق): وهو ان يقال: اذا كان في الغرفة شخص ميت فان الكثير من الناس يخافون من النوم الى جواره رغم انهم قد يحبونه أشد الحب (وهذه هي العاطفة) وما ذلك الا لاستثارة القوة المتخيلة والتي توسوس لهم وتخوفهم من ذلك الميت مع انه لا حراك فيه وليس له حياة اصلا ولا يقدر على الايذاء باي شكل من الاشكال.

ج- دمجهما بالمنعكس الشرطي

الضلع الثالث: استخدام المعادلة المعروفة في علم النفس وهي: (المنعكس الشرطي)

ولقد أغرب الغرب في استخدام هذه المعادلة فمن جهة استثار المتخيلة ووجهها ضد الاسلام والمسلمين في قوالب تجسيدية ومن جهة اخرى هيج العاطفة واثار كامن البغضاء الممنهجة، ومن جهة ثالثة استعمل معادلة المنعكس الشرطي أغرب استخدام وأقواه.

فتمت لديه أضلاع ثلاثة محكمة، وهذا مركب ثلاثي خطير ندر ان يوجد مثله على مر التاريخ – بل لعله لا نظير له - لضرب الاسلام والمسلمين في الصميم بخطة من أغرب وأبشع الخطط الشيطانية.

لقد كان الغرب دائباً في تصوير المسلمين على أنهم همج رعاع لا يعرفون شيئا ولكنه لم يحصد من ذلك شيئاً كثيراً فاخترع ذلك المركب الثلاثي الغريب. والانموذج الظاهر الواضح الذي تجسد فيه هذا الثلاثي هو خلق طالبان والقاعدة وبناتها من داعش والنصرة وغيرها وسلطوا عليها اسطع الأضواء من خلال السينما والافلام ومقاطع الفديو المنتشرة في كل برامج الانترنيت والتلفاز.

فداعش مثلا تحرق الناس وهم احياء او ترميهم من اعلى العمارات بطريقة وحشية ويقام بتصوير ذلك كله بكل احترافية ومنهجية ومن خلال ذلك يقومون باستثارة مخيلة العالم، ويقال بعد ذلك للناس: ان الاسلام يساوي داعش وداعش تساوي الوحشية!

ان الغرب لو اراد مقارعتنا بالحجج لدحضناه بحججنا وبراهيننا الساطعة ولكنه عمد الى طرق اخرى ملتوية لمقارعتنا وهو ان خلق وحوشاً طائشة تملأ أسماع وأبصار وأذهان الناس بالدماء والعنف والوحشية والتفجيرات والأحقاد والبربرية، وجعل ماركة هذه الوحوش ما قبل التاريخية هي (الإسلام الأصيل)!!

وكما ننظر نحن إلى (شمر بن ذي الجوشن) أو (حرملة) أو ينظر العالم إلى هتلر وموسليني، يجري الآن مخططهم الثلاثي الأضلاع لينظر الناس إلى الإسلام ككل كذلك باعتبار ان هذه النماذج المشوهة هي التجسيد الأقوى للإسلام.

الموقف الاستراتيجي السليم من شارلي ابيدو وسلمان رشدي و...

لقد استثار الغرب القوة المتخيلة بقوة وشدة من خلال ذلك وغيره من العشرات من الحلقات المتسلسلة التي تصب كلها في هذا المنحى من قضية سلمان رشدي الى احداث سبتمبر الى القاعدة الى داعش الى قضية شارلي ابيدو والتي طُبعت بعد ردة الفعل العنيفة غير المدروسة بل البلهاء، بثلاث ملايين نسخة رغم انها لم يكن يطبع منها إلا الألوف! وقد وقع أولئك المهاجمون ومن ناصر طريقتهم في نفس الفخ الذي نصبه لهم الغرب وهو: استفزاز مشاعر المسلمين – بدعوى حرية الرأي!! – ليقع بعضهم في الفخ المعد مسبقاً: ردود فعل دموية تنتج صناعة صورة مخيفة عن الإسلام والمسلمين في أذهان العالم عبر استثارة العواطف القوية وعبر تحريك عنيف للقوة المتخيلة كل ذلك في معادلة المنعكس الشرطي.

وكان الاولى ان يقوم المسلمين ـ بعد صدور الرسوم المسيئة ـ بطباعة خمسة ملايين نسخة باللغة الفرنسية([17]) من كتاب يتحدث عن رحمة رسول الاسلام وعظمته واهدافه السامية فكان يشكل ذلك اكبر دعوة للإسلام وأكبر رد على تلك الرسوم.

لكن الذي ارادوا ان يثبتوه في مخيلة العالم من خلال إحداث جريدة شارلي ابيدو: ان المسلمين وحوش تقتل وتفجر حتى من يكتب ويعبر عن رأيه!!

ولقد كان من الحكمة والتعقل ان تكون ردة الفعل اما ردة فعل ايجابية من خلال التعريف بالاسلام والمسلمين عبر ملايين الكتب ومئات الأفلام الوثاقية وغيرها أو في أسوأ الفروض: التجاهل والإهمال لأن مثل هذه الجريدة ورسومها حيث تفتقد أدنى درجات المنطق والإنسانية، ستأول الى مزبلة التاريخ ولا يكترث لها أحداً أبداً، يقول الشاعر:

لو كل كلب عوى القمته حجرا
لأصبح الصخر مثقالا بدينار!

وصدقوا – وإن كنت أرى ضرورة الرد الإيجابي الفعال عبر ملايين الإصدارات – انه لو تجاهل الناس هذه الجريدة لما سمع بها إلا أولئك البؤساء الذين يشترونها (وكانوا قبل ردة الفعل العنيفة ألوفاً فصاروا بعد ردة الفعل العنيفة بالملايين!).

وحتى مثل سلمان رشدي فانه كتب كتب عديدة ولم يأبه به احد! ولم يعرفه أحد لكن ردة الفعل عليه من قبل المسلمين جعلت منه كتابا عالمياً تطبع منه ملايين النسخ! وكان من المقدر لهذا الكتاب – لأنه لا يمتلك أي مضمون علمي ولا أخلاقي ولا قيمة تاريخية له أبداً – ان يلتحق بنظيراته في زوايا المكتبات لتنسج عليه العنكبوت خيوطها! لكن إصدار فتوى بقتله هي التي جعلت الملايين من الناس تتلاحق لقراءة كتابه! وما الذي جنيناه من الفتوى بالقتل؟ أليس إلا تكريس سمة العنف والإرهاب في أذهان العالم بدل ان نجيب على كتابه – لو كنا صادقين – بطباعة مائة مليون كتاب عن الآيات الرحمانية؟

ومن اللطائف التي تعبر عن ذلك كله ان شخصاً في قم المقدسة كتب كتابا تعرض فيه الى بعض المقدسات فأثار ضجة في الأوساط لكن مراجع التقليد العظام كالسيد الكلبيكاني والسيد المرعشي والسيد شريعت مداري قرروا ان يتجاهلوا كتابه هذا تماماً، وكانت النتيجة انه لم تنفذ حتى نسخ الطبعة الاولى وهي 1000 نسخة فقط!!

وكان ذلك المؤلف المغامر يقول بعد ذلك: كنت اتوقع ان يفتي المراجع ضدي وضد كتابي هذا فأنال شهرة واسعة واطبع منه بعد ذلك 100000 نسخة!! لكن باءت خطتي بالفشل!

خلاصة القول: ان الاساءة الى النبي (صلى الله عليه وآله) أو إلى أي مقدس من مقدساتنا لهو من اعظم الجرائم لكن الكلام هو في كيفية التعامل معها؟ لا مناص إلا من التصدي لردها بكل حكمة ومنطقية بحيث نقلب من خلال ردودنا المدروسة الأمر عليهم ونجعل من اسائتهم فرصة للترويج وللدفاع عن حقوقنا وشعائرنا ومقدساتنا فنثبت رحمة الاسلام كما قال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ...)، والله المستعان.

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين

* سلسلة محاضرات في تفسير القرآن الكريم
http://m-alshirazi.com
http://annabaa.org/writer10-

.................................
([1]) الانبياء 107
([2]) الفتح 29
([3]) التوبة: 128.
([4]) من لا يحضره الفقيه: ج3 ص555.
([5]) مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل ج12 ص391.
([6]) على تأمل في ذلك سيأتي بإذن الله تعالى.
([7]) حسب المختار في تعريف المولوي ووجهه كما فصلناه في كتاب (الأوامر المولوية والإرشادية).
([8]) فان الحكم عام وان كان طرف الخطاب شخصاً.
([9]) نهج البلاغة 427.
([10]) نقلنا كلام صاحب الجواهر حول قاعدة اليسر في بحوث العام الماضي، فراجع.
([11]) وهي حشرة تنمو على بدن الابل.
([12]) هود: 65.
([13]) الاعراف: 96.
([14]) آل عمران: 144.
([15]) وسائل الشيعة ج7 ص78.
([16]) تفسير مجمع البيان ج7 ص121.
([17]) ومائة مليون على الأقل بسائر اللغات.

اضف تعليق