إسلاميات - القرآن الكريم

خصائص الامة في الامة

العالمية، الكفاءة، الكفاية، التخصص، التماسك، والاخلاق

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.

يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)([1])

ويقول جل اسمه: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)([2])

هنالك الكثير من البصائر الهامة التي يمكن استلهامها من الآيتين الكريمتين، إلا اننا سنقتصر في هذا البحث على إحدى تلك البصائر على ضوء الآية الثانية إستناداً إلى قرائن عامة وأخرى خاصة من مفردات الآية الكريمة وسياقها وأجوائها ومناسبات الحكم والموضوع فيها:

الخصائص الست للدعاة والمبلغين ورجال الدين

فان قوله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ...) يمكن ان نستنبط منه مجموعة من أهم خصائص (الأمة في الأمة) ومميزاتها ومواصفاتها:

1- العالمية.

والعالمية تعني ان يكون توجّه (الأمة في الأمة) عالمياً وان يكون تفكيرها عالمياً كما تكون أذرعها وأياديها وشبكاتها وآليات تواصلها مع الآخرين، عالمية.

2- الكِفاية.

والكفاية تعني التناسب العددي بين (الأمة الواحدة) التي تحدثت عنها الآية الأولى وبين (الأمة في الأمة) كي تكون قادرة على الاضطلاع بتلك المسؤوليات الثلاث التي صرحت بها الآية الشريفة: (الدعوة إلى الخير، الأمر بالمعروف، النهي عن المنكر) بحيث يكتفى بها.

3- الكَفاءة.

والكفاءة تعني ان تكون (الأمة في الأمة) بمستوى التحديات الفكرية والثقافية والعلمية والعقدية، بان تكون قادرة على التصدي لأقوى العقول الفلسفية والعلمية والفكرية الشرقية والغربية، من قدامى ومعاصرين، بكفاءة تكفل بإقناعهم أو على الأقل إفحامهم، كما تكفل بإقناع كل طرف محايد بانهم الأعلم والأقرب للإصابة، وإن لم يقتنعوا بكامل الإصابة.

4- التخصص.

والتخصص من مفردات الكفاءة أو هو من عللها المعدة في الجملة، ولا ريب ان البحوث الدقيقة الكلامية والعقدية والفلسفية وأيضاً الشبهات العلمية والفكرية العميقة ليس بمقدور غير المتخصص الجواب عنها ومواجهتها والتصدي لها بكفاءة بل ان الكثير منها تحتاج إلى ان يكون الداعية قمة في التخصص والمقدرة العلمية مما يتوقف على وجود خلفية معرفية وعلمية تمتدّ لعشرات السنين من الدراسة والبحث والتحقيق.

5- التماسك والترابط والتكامل.

6- خلوص النية وإلغاء الانانية.

استلهام الخصائص الست من الآية الكريمة

وهذه المميزات الخمس إضافة للميزة السادسة: خلوص النية وعدم الانانية، يمكن استلهامها من الآية الكريمة وذلك عبر قرائن عامة أخرى خاصة:

من القرائن العامة: مقدمات الوجود والوجوب والصحة والعلم

ان المقدمات تنقسم حسب إحدى التقسيمات إلى أربع مقدمات:

مقدمات الوجود:

هي ما يتوقف وجود الواجب المطلق عليها دون وجوبه، وذلك كالمشي للوصول إلى ساحة الجهاد لمقارعة العدو وكالحركة للحج بعد تحقق الاستطاعة، وكالوضوء للصلاة، فانها لا توجد، بناءً على وضعها للصحيح منها، بدونه.

مقدمات الوجوب:

ما يتوقف وجوب الواجب عليها، فيكون وجوبه مشروطة بها أي لا يكون الواجب واجباً بدون تحققها وذلك كالاستطاعة للحج وكالدلوك لصلاة الظهر، والأول اختياري والثاني غير اختياري.

مقدمات الصحة:

ما تتوقف صحة الواجب عليها لا وجوده ولا وجوبه، وذلك كتوقف صحة بيع الفضولي على إجازة المالك.

وقد ذهب المحقق العراقي إلى رجوع مقدمات الصحة إلى مقدمات الوجوب أو الواجب، لكنه غير تام على الأعمّي، نعم على الصحيحي فان مقدمة الصحة هي مقدمة الوجود إذ يكون الاسم موضوعاً للصحيح فقط فما ليس بصحيح ليس بصلاة فمقدمة الصحة كالساتر مثلاً هي مقدمة الوجود أيضاً.

وعلى أية حال فان ذلك إن صح في العبادات بدعوى انها موضوعة للصحيح فانه لا يصح في المعاملات لوضوح كونها موضوعة للأعم فمقدمة الصحة ليست مقدمة الوجود.

مقدمات العلم:

وذلك كالصلاة إلى أربع جهات لإحراز (أي للعلم بـ) انه صلى إلى القبلة إذ الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية وكالاجتناب عن أطراف العلم الإجمالي في الشبهة المحصورة المبتلى بأطرافها مقدمةً للعلم باجتناب الحرام الواقعي.

والمراد من مقدمات العلم: مقدمات العلم بالواجب أي بامتثاله، اما مقدمات العلم الواجب، كالعلم في العقائد فهي من مقدمات الوجود للواجب المطلق (وهو العلم بالعقائد) فلاحظ جيداً.

الخصائص الست من مقدمات الوجود للدعوة وللأمر بالمعروف

وهذا البحث الأصولي الدقيق يمكن استثماره في استلهام الخصائص الستة السابقة من الآية الكريمة وذلك لأن العالمية والكِفاية والكَفاءة والتخصص والتماسك وخلوص النية وسحق الانانية هي من مقدمات الوجود للواجبات الثلاثة المذكورة في الآية وهي (يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ).

وذلك لأن دعوة الناس في إرجاء العام للمذهب الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا على مستوى المحلة والمدينة والدولة والإقليم بل على مستوى العالم كله، يتوقف – وجوداً – على (العالمية) تفكيراً وتخطيطاً وتنفيداً، وعلى توفّر العدد الكافي الوافي من الدعاة والمبلغين والآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر، وعلى كونهم أكفّاء بمستوى علمي متميز والمتوقف مطلقا أو في الجملة على التخصص، وأيضاً التعاون والتنسيق والتكامل ذلك ان عالم اليوم هو عالم التجمعات الكبرى والشبكات الواسعة العابرة للقارات ومنها الشركات العملاقة العابرة للقارات والتي هي التي تحكم – بدرجة كبيرة – العالم من وراء الكواليس، و(لا يفلّ الحديد إلا الحديد) و(لا ينتشر الحق إلا من حيث انتشر الضلال) وذلك كله من مصاديق (القوة) في قوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ)([3]) أو الملاك هو الملاك بالمساواة أو الأولوية.

هذا كله إضافة إلى مدخلية خلوص النية وسحق الانانية، في قوة التأثير وامتداد مساحاته بل وفي أصل التأثير في أحيان كثيرة.

بل ان دعوة الناس على مستوى الاقليم أو الوطن بل القبيلة والمحلة قد تتوقف على كل أو بعض تلك العوامل الست الآنفة الذكر.

اما القرائن الخاصة فهي متعددة:

دلالة (فَلَوْلا نَفَرَ...) و(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ...) على جناحي الدعوة والتبليغ.

ومن القرائن: ضم هاتين الآيتين بعضهما إلى بعض (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) و(فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)([4]) فان الآية الثانية تدعو إلى ان تنفر من كل فرقة منهم طائفة وتصرح بـ(لِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ) فالمنطلق والمنشأ محدد وهو (مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ) والغاية محددة وهي (لِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ) عكس الآية الأولى فان المنطلق والمنشأ عام وهو (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ) والضمير في (مِنْكُمْ) يعود إلى الأمة الإسلامية، واما الغاية فهي غير مخصصة كذلك وهي عامة لأن حذف المتعلق يفيد العموم إذ الآية تصرح بـ(يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) ولم تخصص الدعوة إلى الخير بـ(يدعون قومهم) – عكس الآية الأخرى إذا ورد فيها (لِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ) كما لم تحدد الدعوة بـ: يدعون أهل محلتهم أو أهل وطنهم أو أهل إقليمهم أو أهل العالم فدلت على الشمول لذلك كله، وكذلك الحال (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ).

الجناحان العالمي والمحلي للدعوة والإرشاد

ومن ذلك ومن ضم الآيتين الكريمتين نستكشف ان للدعوة إلى الله وإلى الخير وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جناحين: جناح محلي أو قومي وجناح عالمي أو دولي وتشير الآية (فَلَوْلا نَفَرَ...) للجناح المحلي كما تشير الآية (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ...) للجناح العالمي.

وذلك مما يؤيده الاعتبار ويدل عليه الاستقراء المعلل فان هداية أهل العالم لا يمكن – بالقدر الممكن منه في زمن الغيبة – إلا بوجود رجال دين ودعاة متفرغين لشأن الهداية العالمي إلى جوار رجال دين ودعاة متفرغين للشأن المحلي؛ وذلك لأن هناك شؤوناً عامة وقواسم مشتركة تعم البشرية كلهم أجمعين كما ان هناك شؤوناً خاصة يحتاجها أهل هذا الوطن أو ذاك أهل هذا القوم أو ذاك أو هذه العشيرة والمحلة أو تلك.

إضافة إلى ان القدرات النفسية والفكرية والقابليات مختلفة؛ فان البعض غير قادر إلا على التواصل مع أبناء محلته وهدايتهم وإرشادهم بينما تجد البعض الآخر يمتلك مواهب وكفاءات توهله للانطلاق عالمياً بحيث لا تقف أمامه الحدود والحواجز والسدود والموانع.

السيد الرضوي: الداعية المتميز

وفي حياة المرحوم الداعية الكبير السيد سعيد اختر رضوي رضوان الله عليه، العبرة كل العبرة والشاهد على ذلك كله.. وحيث يقول تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ) ([5]) فلنتصفح معاً بعض الصفحات المشرقة من حياته المباركة:

تعلم سبع لغات وكتب 125 كتاباً!

ولد السيد سعيد رضوي عام 1927م (1345هـ) في بيهار بالهند منذ ان كان في الخامسة عشرة من العمر بدأ رحلة تعلم اللغات الأربع أو إتقانها وهي العربية والفارسية والإنجليزية والارودية، كما تعلم الارودية والكجراتية وتعلم السواحلية أيضاً عندما سافر إلى تنزانيا.

وهكذا تعلم سبع لغات متجاوزاً بها حاجز الحدود وحواجز اللغات!، وكان يكتب بخمس لغات! وبلغ مجموع مؤلفاته 125 كتاباً!

كما (تأسست منظمة بلال الإسلامية The Bilal Muslim Mission في عام 1964 على يد السيد سعيد اختر الرضوي وهو عالم دين من الهند كان قد ابتعثه المجلس الأعلى للشيعة الخوجة الإثنا عشرية في الهند ليكون الداعية والمرشد للجالية الهندية الباكستانية الإثنا عشرية في تنزانيا بشرق أفريقيا.

وأسس العشرات من المؤسسات في أفريقيا وأوروبا وأمريكا وآسيا!

كان الهدف الرئيسي من المنظمة هو التبليغ والإرشاد الثقافي والعمل الخيري، فبدأت في دار السلام بإنشاء حوزة علمية وروضة أطفال ومدرسة ابتدائية ومدرسة ثانوية ومدرسة لتأهيل المعلمين ومدرسة لتعليم القرآن الكريم، إلى جانب ابتعاث طلبة لدراسة العلوم الدينية في لبنان والنجف الأشرف وقم المقدسة.

كذلك أصدرت المنظمة صحيفة منذ عام 1964 باللغة السواحيلية تدعى "صوت بلال" وصحيفة أخرى فيما بعد في الثمانينات باللغة الإنجليزية تدعى "النور".

اليوم تنشط المنظمة في تنزانيا وكينيا وموزمبيق ومدغشقر وبوروندي ورواندا والكونغو، أما خارج أفريقيا فالمنظمة نشطة في جزر البحر الكاريبي وتايلند وإندونيسيا واليابان وأوروبا والولايات المتحدة، وبسبب نشاطها وفاعليتها أنشأت جماعات شيعية أخرى منظمات مشابهة لها ومستلهمة من أسلوبها في العمل في بلدان كنيجيريا والسنغال وغانا والسويد وأمريكا الشمالية.

في عام 1996م أسس العلامة الرضوي صندوق بلال الخيري في الهند، حيث تقوم حالياً المؤسسات والفروع التي أنشأت بتنسيق الأنشطة والعمل بالتوازي في أفريقيا والهند وأوروبا وأمريكا الشمالية، وتعمل كمؤسسات محلية وعابرة للحدود في ذات الوقت مستفيدة من شبكة الارتباطات البينية التي شكّلتها كلها)([6]).

اهتدى على يديه خمسون ألف شخص!

وقد اهتدى على يديه –حسب إحصاء البعض– خمسون ألف إنسان إلى مذهب أهل البيت عليهم السلام.

ومن الواضح ان امثال هذه الإحصاءات هي إحصاءات للآثار المباشرة الملموسة لمن اهتدى، اما التموجات فلا يعلمها إلا الله تعالى، وذلك لأنه كثيراً ما يقوم داعية بهداية مجموعة ثم تهتدي على يدي تلك المجموعة مجاميع وعلى يد تلك المجاميع مجاميع أخرى وهكذا، وهي تموجات يصعب استقصاؤها حتى للدول أو المؤسسات الكبرى التي تمتلك أجهزة تتّبع واستقصاء واستبيانات متكاملة ومتطورة فكيف بمن لا يملك أي شيء من ذلك!

وعلى أي تقدير فان ما جرى إحصاؤه من الذين هداهم كان خمسون ألف إنسان!

هداية خمسمائة مليون إنسان!

وإذا أردنا ان نجعله نموذجاً، وحري به ان يكون، فان كل واحد من طلاب الحوزة العلمية المباركة، ولنفرض انهم عشرة آلاف عالم وطالب، إذا قرر ان يهدي في طوال عمره خمسين ألف إنسان، لَكَانَ مجموع الذين يهتدون على يدينا مباشرة هو خمسمائة مليون إنسان! وهو عدد كبير جداً بل سوف يغير خارطة الانتماءات الدينية على مستوى العالم حتماً، علماً بان العدد مأخوذ كمعدل إذ قد يوفق البعض لهداية الأقل من خمسين ألف وقد يوفق البعض لهداية الأكثر من ذلك جداً.

وهذا كله لو جعلنا المقياس هو هذا العدد ممن هداهم السيد الرضوي فقط اما لو جعلنا المقياس هو هداية مليوني شخص، كما قام به السيد الشهيد العم رضوان الله عليه إذ أعلن ممثلو مليوني علوي في سوري ولبنان، وهم 81 من كبار علمائهم، انتماءهم رسمياً إلى التشيع في بيان أصدروه بجهوده التي استمرت لأكثر من عقد من الزمن، فان الوضع سيختلف بشكل جذري وشامل.

بل قد نقل ان مؤلفات أحد المستبصرين اهتدى على ضوئها ثلاثة ملايين شخص!

قاعدة التناسب منضمّةً إلى الوجوب الكفائي للدعوة والأمر والنهي

ومن القرائن: قاعدة التناسب العقلية منضمةً إلى مسلّمية الوجوب الكفائي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فان دعوة المليارات من الناس إلى الخير بكمٍّ وكيفٍ يفيان بالحاجة ويتكفلان بإيصال الرسالة إلى جميعهم، تفيد لزوم العالمية والتخصص والكفاءة والكفاية والتماسك والتكامل أيضاً، والتناسب هو بين (مِنْكُمْ) و(يَدْعُونَ) و(وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ) ولولا تحقق هذه الخصائص الست لما وفت الفرقة الناشئة منا بالمأمور به وهو الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وهناك قرائن أخرى قد نتطرق لها لاحقاً بإذن الله تعالى.

خلوص النية وسحق الانانية من شروط الداعية الموفق

وأما الانانية والشرك في النية فانها من أخطر المخاطر التي يواجهها الدعاة في طريق الدعوة بل قد نستطيع ان نعبر عنهما بانهما كمادة الـTNT الشديدة الانفجار التي تحرق الأخضر واليابس في طرفة عين! وذلك لأنه كثيراً ما يقوم الداعية بجهود جبارة حقاً ثم إذا حاز الشهرة أو السلطة أو المال – أو حتى في أثناء الحركة والمسيرة الدعوية -تراه يبتلى–لا سمح الله- بالعجب أو الغرور أو الرياء أو السمعة فيحبط عمله كله فيكون كما قال تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً)([7]) و(أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ)([8]).

ومن هنا تبدأ دعوته، إذ ابتلي بحب الانا والذات وفقد خلوص النية، مسيرة الانحدار ويبدأ تأثيره في الانحسار، بل كثيراً ما ينعكس الأمر فيصبح هذه الداعية بنفسه العقبة أمام الدعاة! ويتحول إلى سد أمام الدعوة! وإلى حجر عثرة أمام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذ يرى مصالحه وامتيازاته مهددة حينئذٍ!

ان من أهم صفات (الأمة في الأمة) الإخلاص وسحق الانا فإنها من مقدمات الوجود لتحقق الغايات الثلاث المأمور بها في الآية الكريمة: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

تصريح نيكسون الخطير جداً عن مستقبل شباب أمريكا

ومما يؤكد ضرورة وحيوية واستراتيجية الخصائص الست الآنفة ما قرأته قبل حوالي العقدين من الزمن في كتاب (أمريكا والفرصة التاريخية) لمؤلفه الرئيس الأمريكي الأسبق والذي يعدونه من أهم المنظرين الاستراتيجيين في العالم، وكلّ كتابه جدير بالمطالعة المعمقة إذ يعكس وجهة نظرهم في أهم شؤون العالم وطريقة تفكيرهم واتجاهاتهم إلى حد بعيد وفي الحديث "وَالْعَالِمُ بِزَمَانِهِ لَا تَهْجُمُ عَلَيْهِ اللَّوَابِس"([9])‏ إلا ان الشاهد الآن هو في جزء من فصله الأخير حيث يتطرق فيه لنقاط ضعف الولايات المتحدة الأربع وإلى أهم الأخطار التي تهدد مستقبل أمريكا ويذكر من جملتها ان هنالك الملايين، ولعلهم بين 20 إلى 30 مليون شاب أمريكي، يعيشون الضياع المطلق وانهم حيث يعانون من الفراغ الروحي والفكري الشامل وعلى ذلك فانهم عُرضة لأكبر الأخطار – في نظره – وهي أن أي هاتف يهتف بهم إلى دين كالإسلام أو البوذية أو غيرهما أو إلى أية ايديولوجية أو إلى أية طريقة ومسلك عقدي أو فكري أو غير أخلاقي أو... فانهم ليس فقط لا يمتلكون الحصانة الكافية ولا أدنى درجات الحصانة بل انهم نفسياً مهيؤّون للهرولة وراء كل ناعق أو هاتف!!.

وهذا يعني –كما يقول– ان مستقبل أمريكا بأكمله مهدد لأن المستقبل بيد شبابنا وشبابنا ضائعون مجهولو المصير ولا نعلم من الذي سيستقطبهم وإلى أين سوف يتجهون بأمريكا كلها في المستقبل! انتهى مضمون كلامه.

(الأنا) هي العقبة الكؤود أمام حركة الدعاة

أقول: انني –العبد الفقير إلى الرب الغني– عندما قرأت هذا المقطع، أخذتني العبرة ولا زلت كلما اتذكره تمتلكني العبرة ويعتصرني الاسى والألم؛ إذ ان هذا الكلام – ونظائره – يدل على وجود عشرات الملايين من الشباب في أكثر دول العالم تطوراً لا تفصلهم عن الإسلام والتشيع إلا فاصل (الدعوة الرشيدة والناضجة) عبر مختلف الوسائل والآليات الحديثة التي جعلت ذلك من أسهل ما يكون.. لكن – وهذا هو ما يبكي حقاً – تجدنا منشغلين بالنزاعات والصراعات والتسقيط، أو بمجالس البطالين أو بهوامش الحياة، أو بالتفكير في الأنا أو منشغلين بما اسماه البعض (تكوين الذات) عندما اعترض عليه بعض الناس إذ وجدوه منشغلاً في قسم كبير من وقته بدل الدعوة والإرشاد، ببناء دار له فخمة وبشتى مقتضيات الحياة المادية المرفهة! فأجاب: انني منشغل بتكوين ذاتي! وقد قال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ)([10]) وقال: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً)([11]) وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): "فَلَمَّا رَأَى اللَّهُ صِدْقَنَا أَنْزَلَ بِعَدُوِّنَا الْكَبْتَ وَأَنْزَلَ عَلَيْنَا النَّصْر..."([12])

مصيبتنا المزدوجة!

ان مشكلتنا بل مصيبتنا مزدوجة: فمن جهة تجد هموم الكثير منا شخصية محدودة ومن جهة أخرى تجدنا لا ندرك أهمية واستراتيجية التفكير العالمي ومدى الفرص الكبرى بل الهائلة المتاحة لنا لإيصال صوت أهل البيت (عليهم السلام) للعالم كله، مما لم يكن متاحاً لنا من قبل أبداً بمثل هذه الصورة وعبر مثل هذه الوسائل التي يمكن عبرها الوصول إلى مئات الملايين من الناس بأبسط السبل، كالقنوات الفضائية والشبكة العنكبوتية والتطبيقات المختلفة وأمثال التلكغرام والواتساب والفيس بوك والتويتر واليوتيوب وغيرها.

وذلك كله مع اننا نمتلك ثروة هائلة من المعارف وكنوزاً لا نظير لها من العلوم المستوحاة من مهابط وحي الله، ولو اننا قمنا فقط باستخراج هذه الكنوز – واستخراجها سهل فانها مضمّنة في بطون المصادر الأساسية الشهيرة كنهج البلاغة وتحف العقول ونظائرهما – وعرضناها بشكل آخاذ على العالم، لرأيتهم حينئذٍ يدخلون في دين الله أفواجاً، كما دخلوا فيه أول مرة.

قواعد إدارية و... راقية جداً اقتبسها الغرب من نهج البلاغة و..

ولقد كنت قبل سنين مهتماً بمطالعة كتب في علم الإدارة فطالعت العشرات منها لمؤلفين من مختلف بلاد الغرب وبعض الشرق.. والغريب انني وجدت في الكثير منها أفكاراً إدارية متطورة وراقية حقاً ثم عندما بحثت في رواياتنا وجدت ان قواعدهم الإدارية تلك مقتبسة – وأحياناً بالنص – من بعض كلمات أمير المؤمنين في نهج البلاغة! أو من كلمات الإمامين الباقرين صلوات الله عليهما! ولكنهم لم يراعوا الأمانة العلمية فكانت سرقات مجهول المصدر!

والأغرب انني رأيت بعض قواعدهم تعاني من خلل أو نقض أو فوضى وعندما بحثت وجدت ان الكاتب اقتبس قاعدته من إحدى الروايات لكن مع بعض التغيير والتحريف والتعديل فكان الخلل ناتجاً مما أعمله بفكره في ما توهمه تطويراً للقاعدة الواردة في الرواية الشريفة!

ويكفي إلقاء نظرة على الكلمات القصار في آخر نهج البلاغة للإذعان بمدى سمو تلك الحِكَم وحيويتها في مختلف الأبعاد: الإدارية، والاجتماعية، والأخلاقية، والحضارية والنهضوية والعلمية وغيرها، ويكفي ان يتأمل الباحث في قوله (عليه السلام) "قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يُحْسِن‏"([13]) ليكتشف، إن كان من أهل التدبر والتفكر، بحاراً من المعارف في هذه الكلمة القصيرة ولعل المفكر القدير يكتب مجلداً ضخماً عن أبعاد دلالات هذه الكلمة!.

وقد شاهدت العشرات من القواعد الإدارية وغيرها التي اكتشفت انها مستقاة – وأحياناً بالنص بعد الترجمة طبعاً – من رواياتنا، ولعلي أوفق لتهذيبها وطبعها لاحقاً بإذن الله.

ومن كتاب (العشرة) من البحار!

وقد طرحت ما قلته عن اكتشافي على أحد الأخوة الأفاضل المتخصصين في بعض مراكز الدراسات فقال انه قد اكتشف ذلك أيضاً، وأضاف: انه حصلت لديه قناعة بان عدداً من أهم علمائهم في الإدارة وكُتّابهم قد طالعوا كتاب (العِشرة) من بحار الأنوار بتعمق وتأمل وقلبوه ظهراً لبطن، وذلك عندما قارن بين مجمل كتاباتهم وبين مختلف الروايات الواردة في كتاب (العشرة)! هذا في الوقت الذي – ومع الأسف الشديد – تجد ان الكثير من رجالنا لم يطالعوا كتاب العشرة من البحار ولو لمرة واحدة ولو مطالعة سريعة عابرة بل قد لا يكون بعضهم قد طالع حتى بعضه أو علم حتى باسمه!!.

الطريقة المباشرة وغير المباشرة للدعوة والإرشاد

وأخيراً: ان الدعوة إلى الله تعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قد تكون بطريقة مباشرة صريحة وقد تكون بطريقة غير مباشرة، وكلاهما مطلوب بل وضروري إذ هما كجناحي طائر الدعوة يكمل احدهما الآخر؛ فان الكثير من الناس لا يهتدون إلا بالطريقة المباشرة، كطريقة المراجعات والنص والاجتهاد والغدير، فيما تجد الكثير من الناس لا يهتدي عبرها إذ قد يحذرها ويتهرب منها أو قد لا يجد دافعاً للبحث عنها وفيها – فيمكن هدايته عبر استدراجه من طريق آخر، وهذا هو بيت القصيد الآن فانه من الممكن للدعاة ان يكتبوا أرقى الكتب في الإدارة والسياسة والاقتصاد والاجتماع والحقوق والقانون وفلسفة التاريخ وغيرها بحيث تستهوي المتخصصين والباحثين من شتى الأديان ثم إذ طالعوها اكتشفوا جواهر حِكَمِ أهل البيت (عليهم السلام) المبثوثة فيها إذا قام الكاتب الداعية بتضمين كتابه المتخصص روايات وآيات يستشهد بها على نظرية أو قاعدة أو يعتبرها هي القاعدة ثم يعكف على برهنتها والاستدلال عليها، ولا شك ان نور أهل البيت (عليهم السلام) المتلألأ الساطع سيشرق عبر كلماتهم على قلوب كافة أولئك المنصفين الذين يطالعون تلك الكتب أو الكلمات..

وسوف تجد حينئذٍ الألوف من خيرة المتخصصين في شتى العلوم يهتدون إلى الحق من هذا الطريق الشديد التأثير رغم كونه غير مباشر، ثم انه إذا اهتدى فانه لا بد ان يبحث عن المزيد في الكتب الصريحة المباشرة.

وقد نقل لي أحد المستبصرين –ممن اهتدى على يديه الكثيرون أيضاً– ان كثيراً من السجناء في مصر وغيرها، وكان صاحبنا أحد السجناء، وبعضهم من علمائهم وشخصياتهم قد اهتدى لنور أهل البيت (عليهم السلام) وتشيّع عبر مطالعته لكتاب (السبيل إلى إنهاض المسلمين) للسيد الوالد (قدس سره) مع انه كتاب غير مباشر إلا انه بما تضمنه من روايات شريفة وأفكار نهضوية مستمدة منها أضحى السبب الأساس ليتحول ويكون من أتباع أهل البيت (عليهم السلام) مما أحدث تحولاً كبيراً في تلك البلاد.

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين

وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين

* سلسلة محاضرات في تفسير القرآن الكريم
http://m-alshirazi.com
http://annabaa.org/arabic/author/10

.......................................................
([1]) المؤمنون: 51 ـ 53
([2]) ال عمران: 104
([3]) الأنفال: 60.
([4]) التوبة: 122.
([5]) يوسف: 111.
([6]) التمكين الشيعي استراتيجيات تمكين الشيعة وتعزيز أوضاعهم في العالم: ص335.
([7]) الفرقان: 23.
([8]) النور: 39.
([9]) الكافي: (ط – الإسلامية) ج1 ص27.
([10]) المؤمنون: 115.
([11]) الكهف: 46.
([12]) نهج البلاغة: ص92 من كلام له (عليه السلام) يصف أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وذلك يوم صفين..
([13]) تحف العقول عن آل الرسول (صلى الله عليه وآله): ص201.

اضف تعليق