الوحي وفق تعريف اللغة هو: الاشارة والكتابة والرسالة والالهام والكلام الخفي وكل ما القيته الى غيرك، وكذلك الوحي هو المكتوب والكتابة/لسان العرب، ابن منظور، مادة وحى.

ونجد في هذا التعريف اللغوي للوحي حضورا كبيرا للمعنى الديني–الاسلامي، لكن مفردة الوحي كانت تشهد تطورا على مستوى المعنى، وتحولا على مستوى الدلالة بعد انتقالها الى التداول الاسلامي، لاسيما مع تداول القرآن المستمر لها، وبذلك شهدت اسلاميا تحولا مهما واساسيا عن دلالاتها الجاهلية، فلم تكن كلمة او مفرد الوحي غائبة عن الحضور اللغوي لها عند العرب في الجاهلية، ولم تكن غير معهودة في لسان العرب، فقد كانت لها مواضع استعمال متعددة وتحمل معاني مترادفة وفق السياق اللغوي للاستعمال الخاص بهذا السياق، لكنها لم تخلو من تلك الايحائية التي تحيل الى أخر سواء كان فردا أخر أو معنى وهو ما يعنيه ابن منظور في قوله في تعريف الوحي "وكل ما القيته الى غيرك" ويبدو ان تلك وظيفتها اللغوية- الاتصالية الخاصة بها قد انتقلت بهذه الوظيفة الى عصر الاسلام ومعانيه ومفاهيمه في القرآن والنبوة والملك، فهي كلها وحي بإحالتها الى الله تعالى، أو من الله تعالى الى المتلقي - النبي، ثم أن كلمة "وحي" بمعناها الذي يورده ابن منظور تدور حول فكرة أو معرفة معينة ومحددة يتم إيصالها بواسطة وسائل يتم التعبير عنها لغويا بالوحي، وهي الاشارة والكتابة والرسالة والالهام والكلام الخفي وهي تعبيرات تمتلئ بالنكهة الدينية–الاسلامية، لكن لا أحد من المعجميين أو من علماء اللغة يُعرّف الوحي بالمعنى المباشر للفكرة أو المعرفة، وبذلك تبقى ضمن حدود الاتصالية الخاصة باللغة في واحدة من أهم وظائفها أو أهمها على الاطلاق.

فالوحي هنا في العربية الجاهلية وضمن سياقاتها وأطرها التواصلية الاجتماعية كان وسيلة أو شكل أتصال بين الانسان وعالمه الانساني، أو عوالم أخرى من غير سنخه وجنسه، يقول لبيد في معلقته:

فمدافع الريان عري رسمها......خلقا كما ضمن الوحي سلامها

والوحي هنا الكتابة، لكنها ليست الكتابة لذاتها، بل الكتابة التي لا يفقه منها شيء ذلك البدوي العربي، لأنه أمي لا يحسن ان يقرأ، فيكون المعنى فيها أي في الوحي ذلك الشيء الغامض او اللغز المجهول، لكنه ادى وظيفة اتصال بين الشاعر والمعنى الذي اراده في اختفاء الاثر وتعري الرسم – الاثر فكان الوحي – الكتابة رمز الى اختفاء الرسم – الاثر لأنه لم يبق منه الا الوحي – الكتابة.

لكن هذا المعنى في الوحي كان قبل أن تتضمنه المعاني الثانوية، أو هو يتطور الى تلك المعاني الجديدة، والتي مرت له أو هو الذي مر بها عبر تحولات خطيرة طرأت على بنيتها في المعنى، بل وحتى تركيبها في اللفظ فقد كانت حروفها.....ثم صارت حروفها.

وظيفة الإحالة في مفردة الوحي

لا نكاد نعثر على معنى مفردة او لفظ الوحي بشكل مستقل وخاص بهذا اللفظ في معاجم اللغة وتفسيرات اللغويين والمفسرين، بحيث يتبادر الى الذهن مباشرة المعنى الخاص بهذا اللفظ الا بإحالة خاصة الى معنى شهد فيه لفظ الوحي تطورا مفهوميا وتحولا دلاليا، ولئن أخذ اسلاميا معنى القرآن والنبوة أو الملك الحامل للنبوة الى النبي محمد فإنما هي تمثل أخر تطورات هذه المفردة وخاتمة تحولاتها الدلالية، وقد عممت اسلاميا على كل النبوءات والكتب المقدسة السابقة على نبوءة سيد الانبياء والرسل. وطريقة إحالتها الى المعاني المتعددة والمترادفة انما جذرها وأصلها في التداول الجاهلي لها وتوظيفاته المستمرة لهذه المفردة (الوحي في مجالات متعددة واستعمالات مترادفة، مع ملاحظتين: أولهما صلة مستمرة للمعنى – الجذر لهذه المفردة ونقول هنا المعنى – الجذر وليس المعنى المستقل، فقد شهد المعنى)، الجذر غيابا تاما في التداول العربي له مما أفقده إمكانية تشكيل المعنى المستقل له بحيث لا نجد ذلك المعنى المباشر والخاص بهذه المفردة، بل كل ما نجده توضيحات لها بكلمات أخرى ومعاني متعددة، مما يحيلنا الى إشكالية قدمها وجذرها في الفضاء الغيبي بمعنى صلتها بالغيب منذ البداية التداولية لها غير المحددة تاريخيا.

ومما يقوي توقعنا الجذر الغيبي لها هو انها كما قلنا تدور حول فكرة أو معرفة في نكهة المعنى الغيبي لها ولاحقا الاسلامي لها، وثانيهما اختلاف يسير في هيأة هذه المفردة في التغيير الطفيف على حروفها من خلال حركات اللغة بين الكسر والفتح والتخفيف والتشديد، وهو اختلاف يؤكد غياب المعنى –الجذر لها ويدعنا أمام احتمالات متعددة في المعنى الاول لها عند العرب وهو ما دعى المعجميين وعلماء اللغة العربية الاوائل الى عدم الجزم في اختصاص هذه الكلمة أو المفردة بمعنى محدد وموقوف جاهليا، بل ساقوا عددا من المعاني الجاهلية والاكثر تداولا جاهليا بخصوص هذا اللفظ- الوحي.

فقد ورد في كتاب العين لإمام اللغويين الخليل ابن احمد الفراهيدي إحالة كلمة الوحي "بفتح الواو وكسر الحاء وتشديد الياء مع الضم لها" الى معنى الموت السريع، فقد جاء في معنى الهيمع: الموت الوحي، وجاء في معنى هامع: ذبحته ذبحا، أي سريعا – كتاب العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي، ج1، ص110 – فالسريع والتعجيل الفائق في بلوغ الامر الذي يحمله معنى الوحي في عصر الجاهلية سيلقي بظلاله هذه على معنى الوحي إسلاميا بعد أن ينفتح هذا المعنى على آفاق السماء ويكون صلة الوصل بين الله والانسان. وجاء في معنى الوحي أيضا "بفتح الواو وكسر الحاء وتشديد الياء مع الضم لها" الحذم من أصل حذم: القطع الوحي، وسيف حذوم أي حاذم القطع – م ن، ج2، ص203 – وتحيل كلمة الوحي هنا الى القطع المؤكد، وقد نسبت العرب القطع المؤكد في المعرفة الى حذام فقالت العرب:

اذا قالت حذام فصدقوها......فالقول ما قالت حذام

ونستشف من كلام الفراهيدي أن الوحي هنا بمعنى القطع المؤكد أو اليقين في المعرفة عند الجاهليين بإحالة أصل الحذم الى القطع الوحي، وبمقارنة ما ينسبه العرب الى حذام من إدراكها الغيب فهي في بعض الروايات العربية كاهنة بني قضاعة زرقاء اليمامة ويروون رواية أسطورية في انقطاع الجن عنها وأخبارها خبر السماء وتوقف الرئي لديها في الايام التي كان فيها النبي محمد "ص" حملا في بطن أمه آمنة بنت وهب، وأكثر ما يروى عن حذام هو قوة البصر والنظر وادراكها ما خفي عن النظر أو البصر، أدركنا جذرا لمعنى الغيب في الحذم وأصله الوحي، وهنا يقترن القطع المؤكد بالغيب في مفردة الوحي في معناها وفي أصلها اللغوي واشتقاق الحذم منه، وقد ألقى هذا المعنى بظلاله على مفهوم الوحي الاسلامي فالقطع المؤكد – الوحي الذي يفسر معنى الحذم في اللغة واختصاص مفردة الوحي لغويا بالغيب هما شرائط الوحي الاسلامي.

وإضافة الى معنى الموت السريع أو المعجل الذي تفسر به كلمة الوحي أو القطع المؤكد، فان له معنى أخر قد ورد في معنى الموت أيضا، قال الخليل بن أحمد الفراهيدي "والموت الزؤام: الموت الوحي، و أصل الزؤام من زئم بمعنى ذعر وفزع أو من زأمت الرجل بمعنى ذعرته – م ن، ج7، ص395 – وتبدو كلمة الوحي كثيرة الربط بواقعة الموت في اللغة عند العرب في الجاهلية فقد ورد " الموت الفوات: وهو أخذة الأسف وهو الوحي " – لسان العرب،م س، مادة فوات" – والوحي هنا " بفتح الواو وكسر الحاء وتشديد الياء " وهو موت الفجأة عند العرب وفي مختار الصحاح " والوحا: السرعة يمد ويقصر، ويقال الوحا البدار والوحي على فعيل السريع..يقال موت وحي " – مختار الصحاح، محمد بن عبد القادر الرازي، ص265 –

التحول الدلالي في مفردة الوحي

رغم احتفاظ هذه المفردة أو الكلمة باشتقاقاتها اللفظية والمعنوية التي كانت سائدة في التداول العربي في عصر الجاهلية لكنها ظلت دائما تشغل الهوامش على المعنى الاسلامي للوحي مع إلقائها بظلالها لغويا على معنى الوحي إسلاميا.

لقد أحال القرآن الكريم مفردة الوحي الى جملة من المعاني وأهم إحالاته تلك التي خرج بها عن السياق الجاهلي لمفردة الوحي هي اقتران الوحي الاسلامي بالحياة دون الموت الذي كان شديد الاقتران بمفردة أو لفظة الوحي الجاهلية، فقد قال الله تعالى "وكذلك أوحينا اليك روحا من أمرنا" الشورى/آية 52، هنا نشهد اقتران الوحي بالروح، والروح هو مادة أو هوية الحياة إسلاميا فقد دبت الحياة في جسد آدم بعد نفخة الروح فيه "فاذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين" وقوله تعالى "تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم" قال المفسرون الروح هنا هو الملك جبرائيل وقد تعارفت عليه الرؤية الاسلامية بتسميته -الوحي وقيل الروح هنا القرآن، والوحي من مصاديقه الاسلامية الكبرى هو القرآن، والقرآن وفق الرؤية الاسلامية حياة خاصة يتحرك بها عنصر الروح، وقد قيل " للقرآن روحا لأنه يبعث الحياة في القلوب، وهو قول يذهب اليه أكثر المفسرين، وعن الراغب الاصفهاني سمي روحا لكون القرآن سببا للحياة الاخروية " –نفحات القرآن، مكارم شيرازي، ج 1، ص 170- وبهذا تكون كلمة الوحي قد دخلت حقل دلالي جديد بالمرة مع تداول القرآن الكريم لها وهي دلالة نقلتها من سياقاتها اللغوية التي تقرنها بالموت الى سياقاتها الاسلامية التي تقرنها بالروح والحياة. لكن الحياة الأخروية تستحضر دلالة مفردة الوحي الجاهلية على الموت، لكن الحياة في قلوب المؤمنين هي الاقرب الى مراد القرآن بالحياة الخاصة به.

ويبقى الوحي الاسلامي يدور حول العلم والمعرفة التي يلقيها الله تعالى الى الخلق، ومنه ما هو نبوي ومنه ما هو غريزي ومنه ما هو إلهامي، وطبيعته القطع المؤكد أو اليقين القاطع فهو علم حصولي ملقى من الله تعالى وفق الرؤية الاسلامية ومصدريته اللغوية في الحذم: القطع الوحي، وطريقته في حصوله ووصوله الى الذات الملقى عليها نبيا أو خلقا أخر هي السرعة يقول الشيخ مكارم شيرازي "أن هذه الكلمة الوحي تستخدم للارتباط الخاص والسريع مع عالم الغيب وذات الخالق المنزهة" وأخص تعبير هنا عن الوحي بهذا المعنى في السرعة هو الالهام في بلوغه ووصوله، وهي تذكرنا بالموت الوحي: السريع على وزن فعيل.

لقد كان من نتائج التحول الدلالي والنوعي الخاص فيما يتعلق بمفردة الوحي الاسلامي وتطور المعنى بالنسبة اليها في العلاقة بين الوحي والروح والحياة، ان تداول العلم الاسلامي عددا من التعريفات اللغوية ومن ثم العقائدية – الاصطلاحية للوحي والتي تعبر في أغلبها أو في محاورها الرئيسية عن تضمينات الروح والحياة في هذه التعريفات، فالإشارة حركة وفعل حي، والكتابة حركة وفعل حي، والسرعة حركة وفعل حي، وهي صفات اكتنفت مفهوم الوحي الاسلامي وانتهى اليها التعريف اللغوي الاسلامي لمفردة وكلمة الوحي، لكن يبقى تحولها الدلالي المهم في هذا الاتجاه هو اقتران الوحي بالكتابة، قال الخليل بن أحمد الفراهيدي يقال: وحي " بفتح الواو والحاء " يحي " بفتح الياء " وحيا " بفتح الواو وسكون الحاء " أي كتب " بفتح الكاف والتاء والباء " يكتب " بضم التاء " كتبا " بفتح الكاف وسكون التاء " – كتاب العين، م س، ج 3، ص320- واهمية هذا التحول الدلالي أنه يحدث في أمة أمية لا تشكل الكتابة بالنسبة لها تلك الاولوية الثقافية في حياتها فصارت الهوية الدينية المقترنة بالوحي -الكتاب في تلك الامة تتحول في دلالتها باتجاه الكتاب- الوحي اشتقاقا من الكتابة، وما يترك ذلك من دلالة رمزية في تركيبة هذه الامة نحو التحولات الحضارية لديها باعتبار ان الحضارة هي صنو التدوين والكتابة، وقد تميز هذا المعنى في الكتاب – من الكتابة بأهمية فائقة لدى المفسرين المسلمين من بين دلالات ومعاني الكتاب الاخرى التي طرحها المفسرون واللغويون المسلمون.. ومنذ تلك اللحظة أخذ الوحي يتشكل باصطلاحه "الكتاب" في معاجم اللغة ونصوص التفسير الاسلامي للقرآن.

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002 – 2017 Ⓒ
http://shrsc.com

اضف تعليق


التعليقات

عباس محمود
العراق
الوحي مصطلح ديني بامتياز؛ {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} سورة الشورى (51) مع الشكر والتقدير لكاتب المقال2017-01-25