بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى، محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولا قوه إلا بالله العلي العظيم.

أحداث (شارلي ابيدو) والموقف الشرعي – العقلي من الاستهزاء برسول الإنسانية محمد المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)

يقول تعالى:

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا)([1])

الحديث سيدور باذن الله تعالى حول قوله تعالى (وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) في ضمن حقيقتين مهمتين او بصيرتين:

البصيرة الأولى:

الاتصاف بالصفات المتضادة في المواقف المتضادة

ينبغي لكل مؤمن أن يتصف بالصفات المتضادة في المواطن المتضادة، وهذا ما أشار اليه السيد الوالد في فقه الزهراء (عليها السلام) بمناسبة خطابها وقولها لأمير المؤمنين (عليه السلام) حيث قالت (افْتَرَسْتَ‏ الذِّئَابَ‏ وَافْتَرَشْتَ التُّرَابَ...) ([2])

فعلق السيد الوالد قائلا: (مقياس الإيمان مسألة: يلزم على المؤمن أن يتصف بالصفات المتضادة([3]) في المواقف المتضادة كل بحسبه، وامتثالا لأمر الله تعالى، فان المقياس في الإيمان ليس هو نوعية موقف الإنسان حالة الرخاء فقط، ولا موقفه حالة الشدة فحسب، ولا موقفه في السلم دون الحرب أو العكس، أو موقفه محكوما اذا غاير موقفه حاكما، بل المؤمن هو المسلّم لأمر الله، المتحري رضوانه في الشدة والرخاء([4])، في المنزل وخارجه وفي السلم والحرب، مع العدو([5]) والصديق، وفي القوة والضعف([6])، ففي موطن الحرب أسد باسل لا يخاف من مواجهة الاعداء.. وفي محراب العبادة عبد ذليل خاضع...الخ)([7])

وقال: (وقد أشارت الصديقة (عليها السلام) إلى تجلي صفتين من أعظم تلك الصفات – التي قد تبدو متضادة – في مولى الموحدين وأمير المؤمنين حيث قالت: (افترست الذئاب وافترشت التراب) فعندما كانت مسؤوليته (الحرب والقتال لم يتوان ولم يضعف، بل (افترس الذئاب). وعندما كانت مسؤوليته (الصبر وكظم الغيظ لم ينفجر ولم يقاتل، بل (افترش التراب). وما أندر من استطاع أن يجمع كلتا الصفتين؟ ولا أحد – غير أمير المؤمنين علي – (استطاع أن يجمعها بتلك الدرجة العظيمة)([8]).

فنقول: إن الشدة والرحمة في قوله تعالى: (...وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ...) هما صفتان متضادتان أي تبدوان متضادتين في بدو النظر، إلا أن هاتين الصفتين المتضادتين حيث كان مصبهما متضادا لزمتا معا!

معادلة سيّاليّة الصفات النفسانية

وان أهمية هذه القضية تنبع من ما يشير إليه علماء النفس من (أن النفس الإنسانية بطبعها سيالة الصفات) بمعنى: ان الانسان الخشن أو المشاكس بطبعه سيكون خشنا مشاكساً في كل المواطن والحالات، في البيت وخارجه في المدرسة او المعمل او غير ذلك، ويكون ذلك بنحو الاقتضاء لا العلية كما لا يخفى... والمتشائم او المتفائل يبقى كذلك في كل الامور ومختلف المواطن سواء كانت اجتماعية ام سياسية عشائرية ام حزبيه ام مرجعية وهكذا حتى انه صح ان يقال: ان الصفات النفسية لا تعرف الحدود عادة الا بقسر قاسر أو بقوة حكمة قاهرة.

فالإنسان اللين بطبعه يصعب عليه ان يقطع راس العدو! كما أن الإنسان الخشن لايمكنه ان يكون رؤوفا بالأيتام بتلك الدرجة الحانية المذهلة!

او ان يكون الإنسان كريما اشد الكرم في مواطن الكرم وبخيلا اشد البخل في موطن البخل، بل انه كثيرا ما يعكس الناس ففي مواطن الكرم يبخلون وفي مواطن البخل يجودون!! ولنمثل بمثالين:

الكرم في الإنفاق على العلم والثقافة

ان العلم هو الكمال الحقيقي للانسان في حين ان البعض قد يحجم عن شراء هذا الكتابِ أو تلك الموسوعة بسبب انه غالي الثمن مثلا، ولقد كان الاولى به ان يوفر من مصرفه اليومي او يترك فضول الطعام والشراب ليوفر مبلغا لشراء الكتاب النافع أو الجهاز العلمي الضروري.

بين جاليتين: جالية تنفق على التعليم وأخرى على الملذات!

وهذه القضية من وحي الواقع: في إحدى الدول الغربية النائية اُسست مدرسة إسلامية نموذجية من حيث الأساتذة والبرامج، وهناك جاليتان مختلفتان من دولتين مختلفين، احداهما تهتم بأبنائها اشد الاهتمام فتدفع المبلغ الأكبر للمدرسة الأفضل ليكون مستقبل ابناءهم هو الأفضل وحسب مدير المؤسسة المشرفة:

أنهم كانوا يقطعون من طعامهم اليومي ومن رحلاتهم ونزهاتهم ليوفروا مبالغ التعليم الأرقى لأولادهم!

بينما الجالية الأخرى لا تهتم بالعلم وتعليم أبناءها التعليم الأفضل لذا تجدهم يعمدون الى المدارس التي تأخذ تكلفة اقل فيضعون أولادهم فيها وكان الهم الأكبر لهم الراحة الآنية وملذات الحياة اليومية، ومن هنا كان أولادهم متخلفين بينما كان أولاد تلك الجالية الاخرى متقدمين ومتفوقين.

وما نريد ان نقوله: على الانسان ان يجود على العلم في حقل العلم وان يبذل له الغالي والنفيس سواء كان ذلك من خلال شراء كتاب او موسوعة أو جهاز تعليمي متطور او الدخول الى المداس النموذجية او غير ذلك.

يصلي صلاة استيجارية ليشتري كتابا!

السيد المرعشي النجفي رحمة الله تعالى عليه كان يصلي صلاة الاستئجار ـ وهي عادة صعبة لان الإنسان بالكاد يؤدي فرضه ويستعين بالله على شيطانه ليصلي في اول الوقت ـ وكان يشتري بمبلغ الاستئجار بعض الكتب ومن خلال ذلك اسس هذه المكتبة العامرة والنوعية في مدينة قم المقدسة([9]) لكن الكثيرين لا يأبهون بالكتاب ولا يولونه الأهمية المطلوبة هذا إن لم يعتبروا وجوده هامشيا على مسرح الحياة!!.

التقليص من النفقات الشخصية والزيادة في الإنفاق الاجتماعي

احد العلماء له كلمة قيمة بهذا الصدد اذ كان يقول:

عندما تحدِق أزمة اقتصادية بشخصٍ أو شعب فانك عادة تجد اهل المال والأثرياء يُنقصون من إحسانهم المعهود شيئا فشيئا بحجة الأزمة الاقتصادية، الا أن حياتهم الشخصية وإنفاقهم اليومي على أنفسهم يبقى على حاله قدر المستطاع، فمثلا نزهته ورحلاته وطعامه وسائر مصاريف حياته تبقى كما هي عادة بل يحاول الحفاظ على نفس ذلك المستوى من الحياة الرغيدة ولو بالقرض في حين انه يقلص مساهماته الخيرية المختلفة: (في طباعة الكتب النافعة او رفد مؤسسات الايتام او غير ذلك)!! هذا إن لم يقطع مساهماته بالمرة.

أنموذج مشرق للتاجر المجاهد

هذه هي طبيعة الإنسان، لكنني شاهدت احد التجار الأخيار وكان قد تكفل خمسة آلاف يتيم ينفق عليهم شهرياً ما يقارب (50) الف دولار كما ان له أعمال صالحة كثيرة، فعندما حلت الأزمة الاقتصادية العالمية في سنة (2010م) تضرر هذا التاجر منها كثيرا الا انه ضيّق على نفسه (حتى انه باع قصره الذي يسكنه وانتقل إلى شقة) ولم يقلص من حجم إنفاق مشاريعه الخيرية خصوصا رواتب الايتام حتى انه كان يجاهد جهادا كبيرا في سبيل بقاء أعماله الصالحة كما هي وبنفس المستوى من الكمية والكيفية، ولذا امسك الله بيده ورفعه فازدادا عزا على عز ومالا الى مال كما ازداد بذلا على بذل.

وقد شاهته في مكة المكرمة قبل الأزمة المالية العالمية بفترة فقال لي: شاهدت في المنام([10]) كأن إخطبوطا عملاقا وهو يبسط اذرعه الثمانية على بدني بأكمله من قمة راسي الى أخمص قدمي وهو يمتص الدماء من بدني قطرة قطرة!

فقلت: لعل أزمة اقتصادية ستحيط بك وتطيح بتجاراتك كلها فعليك بالاكثار من أعمال الخير لان معادلة الله واختباراته كثيراً ما تكون من هذا النمط، فمن كان في عسر وشدة ومع ذلك جاد بما عنده فانه قريب جداً إلى رحمة الله تعالى إذ الله تعالى أحرى وأجدر بان يجود على عبده الذي جاد بالمال وهو في ضيق فكيف بالله وهو الواسع العليم).

والحاصل: ان هذا التاجر بعد فترة مر بإعصار مالي هائل وكان موقفه مشرفاً كما سبق فنجح في الاختبار أي نجاح بينما سقط الكثيرون الذين كانوا في ملذاتهم الشخصية كرماء وفي الخيرات والمبرات شحيحيّ النفوس.

قال الشاعر في حق أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام):

جُمعت في صفاتِك الأضدادُ

فلهذا عزت لكَ الأندادُ

زاهدٌ حاكمٌ، حليمٌ شجاعٌ

ناسكٌ فاتكٌ، فقيرٌ جوادُ

شَيمٌ ما جُمعن في بشرٍ قطُ

ولا حازَ مثلَهُن العبادُ

فان يكون الإنسان زاهدا ثم يكون حاكما لهو اعز من الكبريت الأحمر واعز منه مَن يصل الى الحكم ويبقى زاهدا متواضعا... وكيف يكون الإنسان ناسكا عابدا وفي نفس الوقت أسداً هصوراً في الحروب يفتك في الأعداء يشتتهم يمينا شمالاً!!

الشدة مع الحكام الظلمة

والأمر كذلك في كافة الصفات المتضادة ومنها الشدة والرحمة، فعلى الإنسان مثلاً ان يكون مع الحكام الظلمة غليظا شديداً فيقف لهم بالمرصاد ويحاسبهم على كل شاردة وواردة لكن عليه في الوقت نفسه ان يفترش جناح الذل من الرحمة للمستضعفين.

موقف الميرزا الشيرازي من الحاكم البريطاني

وفي القضية التالية عبرة وأية عبرة: كان الحاكم البريطاني في العراق – ابان ثورة العشرين - يمثل أقوى دولة في العالم آنذاك وكان العراق تحت السيطرة الاستعمارية فطلب الحاكم البريطاني اللقاء بالميرزا محمد تقي الشيرازي قائد ثورة العشرين لكن الميرزا رفض ان يلتقي به أبداً وكان بذلك مصداقا لـ(...أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ...) مع ان الحاكم كان باستطاعته ان يعتقل أو حتى ان يأمر بإعدام الميرزا وأهل بيته جميعاً.

ثم احتال الحاكم البريطاني على الميرزا بان أمر المتصرف في كربلاء بان يأخذ موعدا من الميرزا لنفسه –أي للمتصرف- فيأتي الحاكم معه بدون سابق انذار فيطرح ما يريد من الكلام، فلما طلب المتصرف موعدا من الميرزا وافق على ذلك ولم يرفض.. ولقد فوجئ الجميع عندما جاء المتصرف وجاء معه الحاكم مع عساكره لكن الميرزا – وهو المؤمن حقاً والقائد المحنك صدقا - اعرض عن الحاكم بالمرة وكأنه غير موجود ولم يلتفت إليه أبداً والتفت الى المتصرف واخذ يتكلم معه فاستاء الحاكم العسكري البريطاني بشدة وشعر بالذل والصغار مع ان المستعمر ديدنه التكبر والغرور أوليس فيما يعتقد، انه المهيمن على مقدرات البلاد والعباد! حتى انه كان سابقا يقال: ان الضابط البريطاني في الهند (وكانت مستعمره) أسد لكنه في بلاده فأرة!

المهم خرج الحاكم غاضباً وبقي المتصرف في بيت الميرزا فقال المتصرف للميرزا: ياسماحة الشيخ ما أنا إلا موظف عندهم وأمر توليتي وعزلي بأيديهم وليس لي قيمة وكان الأولى ان تلتفت الى الحاكم لان بيده كل شيء لا ان تكرمني أنا وتهمله!

فقال له الميرزا: بل الأمر على عكس ما تقول فأنت مسلم في حين انه كافر فكيف تريد مني ان أعامله كما أعاملك؟ نعم (...أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ...) وهذا المنطق هو الذي ينبغي ان يسدونا وهذا المنهج القرآني الرائع هو الذي يجب ان يهندس حياتنا ويحكمنا.

البصيرة الثانية:

الشدة في القانون والاطار القانوني

وهذه البصيرة تتعلق بالشدة بالكفار، فما هو المراد منها؟

نقول: هناك مباحث عديدة حول (الشدة مع الكفار) وفي تفسير هذه الآية بالخصوص هناك مباحث منوّعة على ضوء الفقه والتفسير وعلم الاصول لكننا سنذكر هنا مبحثا واحدا:

وهو ان المراد من الشدة أو أحد مصاديقها الجلية: الشدة القانونية أي ان نكون في القوانين وإطار القانون أشداء مع الكفار غير متراخين، وقد نقل السيد الوالد في فقه السلام([11]) ان بعض المفسرين فسروا (...أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ...) ان المسلمين كانوا مكلفين بان يتجنبوا الكفار: ملابسهم، طعامهم، ابدانهم من ان يمسوها... أي في الطهارة والنجاسة وهذا اطار قانوني وهو قانون شديد لكنه يحتوي على حكمة بالغة.

نماذج من التشديد القانوني في الإسلام

وهنا نتوقف لنقول: ان الكثير منا قد يشعر انه محاصر بسبب الضغط العالمي ضد القوانين التي يرونها مشددة في الإسلام:

فالمرأة مثلا لا يجوز لها ان تتزوج كتابيا وهو امر شديد على البعض، خصوصا مع الانفتاح العالمي وسهولة التنقل بين الدول المختلفة ومع الاختلاط في الجامعات وفي الشركات والدوائر، كما ان المسلم لا يجوز له ان يتزوج غير المسلمة والكتابية فقط مما يمنعه عن الزواج بمن كانت من الأديان الاخرى.

وكذلك حفظ كتب الضلال فانه لا يحق لك ان تحتفظ بالتوراة أو بالإنجيل المتداولين الآن أو بكتب الملاحدة ومدعي المهدوية وغيرهم الا لغرض الرد مثلا، وهذا قانون شديد ايضا إذ كل موقع ضلال او كتاب ضلال او منشور ضلال يحرم على المسلم الاحتفاظ به الا لو كان الانسان في مستوى الرد وفي موقع الرد

كما انه لا يجوز ان يكون في بلاد المسلمين: مقامر ولا مخامر ولا مباغي، وهذا قانون شديد اخر.

ولكن لماذا؟ وما هي الحكمة؟

ومن هنا قد يشعر الكثير منا في مقابل الضغط العالمي انه محاصر وقد يعترض البعض: لماذا هذه الشدة ولماذا تصادرون الرأي الاخر؟

فنقول: هناك أجوبة نقضية وأخرى حلية كثيرة نذكر من كل صنف جوابا واحدا بمناسبة الضجة العالمية اثر مقتل عدد من صحفيّ جريدة (شارلي ابيدو) الساخرة والتي نشرت رسوما مسيئة لنبي الاسلام العظيم محمد المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم).

1- الجواب حلاً: بان الواقع له القدسية ويجب ان يصان بالقوانين الصارمة

الجواب الحلي: ان الحقائق الواقعية لها قدسية والقيمة الذاتية لذا ينبغي ان تصان بالقوانين الصارمة فمثلا المعلم في الغرب أو الشرق – لا فرق - اذا قرر ان يتكلم مع تلامذته خلاف الواقع العلمي – أو ما يرونه واقعاً علمياً - فانه يعاقب وقد يطرد من وظيفته فلو قال مثلا: ان الفاصل بين الشمس والأرض ليس (150) مليون كيلو متراً تقريبا بل هو (180) مليون مثلا، ولنفرض ان هذا كان هو معتقده واقعاً فهل تسمح له القوانين النافذة بذلك؟ ام انهم يعترضون عليه بان الواقع ينبغي ان يصان وله قدسية وقد شرعت له القوانين الصارمة؟ وهنا نقول: فكيف لو كان الواقع غيبياً ترتهن به حياة الناس الأبدية؟

وكذلك لو ان معلما اخر قال للتلامذة: ان جاذبية القمر هي ثمانية أضعاف جاذبية الأرض!.

وهكذا كل معلم يعتقد بمعلومات خاطئة ويريد ان يزرّقها الى الاخرين فهل يُسمح له؟ وهل يقبل العالم المتحضر ان يبرر ذلك بحرية الرأي؟ لا شك انهم لا يقبلون بذلك، وما ذلك إلا صونا للواقع العلمي عن الانكار أو التلاعب، أفلا يحق لنا أيضاً صون الواقع الأعظم وهو وجود الله ورسالة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وشريعته وإمامة المعصومين (عليهم السلام) عن الانكار والتلاعب؟، ثم لنفرض ان له الحرية في الانكار لكن لا يجوز له ابداً ان يسخر من الاخرين ومن معتقداتهم...

2- ونقضاً: ولا قياس بين شدة الإسلام لصون الحقائق وشدة الغرب لأجل المصالح!

الجواب النقضي: نقول للغربي المتبجح بحرياته ولبعض الشرقيين الذين يحسون بالانهيار: في قوانينكم الثقافية والاجتماعية ما لا يقبله العقل من الشدة، وما لا يقبله وجدان ولا ضمير فكيف تستشكلون على الإسلام رغم ما يمتلك على قوانينه من المنطق والوجدان والعقل؟ وهذه بعض الشواهد والأمثلة:

أ- في الجانب السياسي: نجد الغرب يدافع دفاعا شرسا عن إسرائيل والكيان الصهيوني، ولطالما استخدمت الدولة المسماة بالعظمى قرار النقض ضد كل قرار يصدر ضد إسرائيل، وتتوالي عشرات السنين والعالم وكل ذي وجدان يصرخ ويضج لكنهم يستخدمون قرارات النقض بدفاع أعمى يضر حتى بمصالحهم الإستراتيجية!! أليس هذا قانونا وقرارا شديدا صارما أشد الصرامة بل ظالماً أشد الظلم فلماذا نخجل نحن من قوانين السماء والشريعة الحقّة وكان الاولى بان يخجل من يدافع عن الاحتلال والظلم والفساد؟!

فلماذا نخجل من التصريح ومن تقنين قوانين تقضي بعدم جواز انشاء المباغي والمخامر والمقامر ومراكز الإرهاب وهي مضرة بالدنيا قبل الآخرة؟

ب- وفي الجانب الاقتصادي: نجد ان الغرب له قوانين غير إنسانية بالمرة فمثلا يعاقب الغربُ المدينَ المعسرَ بالحبس مدد طويلة وهو قانون غير انساني، على العكس تماما من ما هو موجود في الاسلام إذ يقول تعالى: (...وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)([12]).

ان الغرب يعتبر السياسة والاقتصاد جوهر الحياة الدنيا ولذا تجدهم يحطمون كل القواعد الإنسانية الأخرى على مذبح السياسة والاقتصاد، ثم يأتون ليتبجحوا برفع راية حقوق الانسان في كل مكان!!

وهل يوجد من لا يعلم ان الغرب هو الذي حمى كل الدول والحكومات الاستبدادية الظالمة طوال عشرات السنين وأكثر؟ وما عهد مبارك وزين العابدين والقذافي واضرابهم عنا ببعيد.

ثم من هو الذي سلط القاعدة وداعش وأشباههم على بلاد المسلمين؟ ومن هو وراء العبث بمقدرات وثروات الشعوب من النفط والمعادن وغيرها؟

أفبعد كل هذا نخجل من ديننا ونمتدح إنسانية الحضارة الغربية المزيفة المزوّقة؟!

ج- وفي الجانب الثقافي نجد ان الكثير من الغربين – ومن ورائهم حكوماتهم - يحاربون الدين والاخلاق بشراهة وشراسة في الوقت الذي تجدهم يضعون السدود والموانع ويسنون القوانين التي تقيد من مساحة حرية حركة من يرفع راية المحافظة على الاخلاق والآداب العامة متذرعين بحق الانسان في تقرير مصيره الشخصي حتى شرعوا أقبح القبائح وسموه باسم الزواج المثلي وغيره من القوانين المخجلة.

مخطط إعداد القدوات الفاسدة أخلاقياً في الغرب

وقد ذكر لي أحد الإخوة القادمين من الغرب أمراً غريباً يكشف عن عمق مخططاتهم الاستراتيجية لنشر الفساد الأخلاقي والإباحية في المجتمع قال:

في شركات هوليود السينمائية يعمدون الى توظيف الأطفال أيضاً وكثيراً ما يتفقون مع الوالدين لتوظيف طفلة بعمر السنتين أو ثلاث سنوات فتتدرب على التمثيل في أجواء هوليودية معروفة ثم يوكلون لها أدواراً في أفلام أو مسلسلات أو برامج تتناسب مع سنها وتكون عادة بملابس محتشمة نسبياً الى ان تصل الى الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة من العمر وتكون بذلك قد ملأت أبصار وأسماع جيل الفتيات اللاتي كبرن معها في طول البلاد وعرضها واصبحت نجمة لامعة في عالم الشباب يحبونها منذ نعومة اظفارهم ثم بعد ذلك يوكلون لها أدواراً مشينة أخلاقياً جداً وبملابس غير محتشمة بالمرة.. وهكذا يتعلم منها اقرانها من البنات والشباب الذين كبروا معها وتربوا على تقليدها في أقوالها وتصرفاتها وملابسها، والغرض من ذلك كله ان يصبح الفساد الأخلاقي الفاضح ذا قيمة ثقافية كبيرة عندهم بل وضرورة حياتية أيضاً!!

وهذا تفكير شيطاني ماكر في الحقيقة؛ لان القدوة في المجتمع لها تأثير كبير وعلى شرائح واسعة من المجتمع بخلاف من يظهر فجأة وبدون سابق إنذار فقد لا يأبه به أو بها أحد.

والغريب ان تأتي مثل جريدة شارلي ابيدو فتسخر من المقدسات حتى من الانبياء والمرسلين ثم يعللون ذلك بحرية الرأي؟! وما أبعد البون بين حرية الرأي وحرية الاستهزاء والسخرية والإهانة!

ومن الواضح اننا ضد الإرهاب والقتل، والإسلام يحرم الاعتداء والقتل بهذا الشكل الذي حصل مع محرري تلك الجريدة الساخرة، ولا كلام في هذا الامر، لكننا في الوقت نفسه نرفض أشد الرفض الاستهزاء والسخرية والاهانة لمقدسات السماء.. وهل الحرية تسوّغ هتك حرمات الآخرين؟ وأي منطق هذا الذي يعطي الحق لمجموعة من المتطرفين ان تهين أي امة من الامم وأي دين من الأديان والمذاهب؟

ثم بعد هذا الحادث المأساوي خرجت المظاهرات المليونية المنددة بهذه الجريمة في باريس وغيرها([13]) وهذا حسن، ولكن لنا ان نسأل لماذا لا تهتز لهم – أي لمن بيدهم الأمر - شعرة لما تقوم به داعش ونظائرها من قتل للألوف المؤلفة وتشريد للملايين وانتهاك لكل القيم الإنسانية والسماوية؟!.

وما نريد ان نقوله: إنهم في الدفاع عن باطلهم – ونعني هنا كنموذج الإصرار على منح مثل هذه الجريدة حق الاستهزاء بالأديان كلها وبالمقدسات كلها - أشداء رحماء بينهم، في حين ان مبدأ الشدة على الباطل وفي سبيل الحق مبدأ قراني اسلامي يجدر بنا ان لا نتخلى عنه ولا نحيد.

وقفة مع انفسنا

والمؤسف حقاً ان نجد ان الارهابيين هم من اختطف الاضواء وقاموا برد فعل أهوج غير عقلائي ولا شرعي، لكن لماذا غاب الملايين من المسلمين المعتدلين! اين المسلمون من الدفاع العقلاني الحكيم عن رسول الإنسانية الخالد محمد المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) وعن رسالته التي لم تجد الحضارات بمثل قيمه واهدافه وغاياته؟!..

إسقاط الحكومات الغربية بالطرق السلمية

لقد ادانوا الحادث لكن أين إدانة الأرضية الحاضنة والباعث على مثل هذا الحادث؟ واما نحن: فأين الموقف القوي الحازم من دفاع الحكومات الغربية عن حرية (وهي جريمة وليست حرية) الاستهزاء برسول الله وخاتم النبيين (صلى الله عليه وآله وسلم) فبكل وقاحة تعلن الجريدة ان العدد القادم سيصدر منه (5) ملايين نسخة وتتصدره رسوم مسيئة لرسول الاسلام النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما ويشارك (50) قائد من قادة العالم ومنهم قادة مسلمون بالمسيرة الداعمة لهذه الجريدة الوقحة الساخرة ولا نجد منهم إدانة لانتهاك الجريدة لحقوق ملياري مسلم كما أدانوا انتهاك أولئك الإرهابيين لحقوق الإنسان وقتلهم لاثني عشر وجرحهم مجموعة في مقر الجريدة.

ان بإمكاننا ان نصنع الكثير فمثلا: نستطيع ان نسقط الحكومة الفرنسية وسائر الحكومات الغربية بالطرق السلمية والقانونية إذا تساهلت مع الذين ينتهكون حرمات الدين الإسلامي ومقدساته فكيف إذا وفرت لهم الذريعة القانونية، ففي فرنسا مثلا يوجد (5) ملايين مسلم وهو عدد كبير باستطاعته ان يسقط أي حكومة في الانتخابات الرئاسية، وعند ذلك سوف تقف الحكومات اللاحقة عند حدها ولا تبتذل انتهاك مقدسات الآخرين.

وقد التقيت مع عدد من الجاليات المسلمة في فرنسا فوجدتها جالية كبيرة جدا لكنها مهملة متناثرة لا رباط عملي ولا تنظيمي بينها ولا تجمعها خطة ولا برنامج (للدفاع عن حقوقهم أو دينهم) وكذلك الحال في الجالية المسلمة في سائر بلاد الغرب ففي أمريكا مثلاً يوجد ما بين 10 إلى 12 مليون مسلم لكنهم لا يشكلون رقماً انتخابياً فارقاً في حين ان اليهود في امريكا يشكلون ما يسمى باللوبي الصهيوني وباستطاعتهم ان يسقطوا في الانتخابات أي حكومة لا تستجيب لمطالبهم، مع ان تعدادهم يقارب الــ(5) ملايين.

ان هذا المنهج منهج عالمي يسير في الاتجاه الخطأ وجوهر المشكلة انهم اصطنعوا لأنفسهم مبادئ مقدسة لا يتنازلون عنها ابداً فالانحلال الأخلاقي عندهم مبدأ مقدس وهو شعار حرياتهم الشخصية!!، كما ان حرية تسقيط الاديان والاستخفاف بها مبدأ مقدس اخر!!، والظلم السياسي وحماية المستبدين في العالم هو الآخر مبدأ مقدس!! وما دمنا متفرجين أو مكتفين بإدانة هنا وهناك فانه سيستمر مسلسل الاستخفاف بنا ومسلسل تسليط الجبابرة والإرهابيين علينا أيضاً..

ان العتب من جهة أخرى لهو على شعوبنا ودولنا إذ ألا نستطيع بالأسلحة القانونية والاقتصادية وغير ذلك من عناصر القوة ان نلعب دورا أكبر في حماية مقدساتنا؟

ان المشكلة الأساسية هي ان مبدأ (...أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ...) والذي يشكل السلاح القانوني مصداقا واضحا من مصاديقه (ولا نقول بالسلاح العسكري والحرب القتالية) هو مبدأ مغيب.

ان الحكومات الغربية اذا علمت بقوة المسلمين في بلدانهم قانونياً فانهم سوف لا يجرأون على انتهاك مقدساتنا، الامر الذي قامت به الجاليات اليهودية في مسالة (الهلكوست) حتى اصبحت قضية مقدسة لا يحق حتى لأقوى المراكز والدراسات ان تقترب منها بالنقد والتحليل ولا يُسمح لأحد ان يقول ان الواقع مضخم جدا، واي شخص يتكلم يُتهم بالعنصرية والنازية والفاشية كما سوف يحاربونه تجاريا ووظيفياً بل قد يلاقي عقوبة السجن وغير ذلك

لماذا لا يخرج الملايين في مظاهرات في كافة عواصم الدول الإسلامية؟

ثم نقول دع عنك ذلك كله، ولكن لماذا لا تخرج الملايين في العواصم الاسلامية والعربية في مصر وفي بغداد وفي الرياض وطهران وفي تونس والمغرب وكراتشي وغيرها تندد بما يجري من انتهاك لأقدس مقدساتنا؟

ان هذا هو أضعف الإيمان، فهل يعقل اننا لا نستطيع ان نقوم بمظاهرات مليونية في كافة عواصم الدول الإسلامية الخمسين؟.

نعم مادمنا لسنا اشداء على الكفار حتى في الاطار القانوني والحقوقي فانهم سيبقون سادة ونبقى نحن تعبث في شعوبنا الذئاب والخراب و(...إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ...)([14])

ومئات الملايين من رسائل الاحتجاج؟

ثم اين نحن من سيل من رسائل الاحتجاج من قبل كافة أطياف الشعوب الإسلامية؟ وقد طالعت قبل مدة تاريخ ثورة العشرين التي قادها الميرزا محمد تقي الشيرازي ثم شيخ الشريعة الاصفهاني وبقية العلماء فوجدت ان سلاح الرسائل الاحتجاجية كان سلاحا فعالا استخدموه بكثافة، لفضح العدو، فأفقدته الشرعية وكانت بحق شيئا مذهلا فقد كانوا يرسلون رسائل الى الحاكم البريطاني (كوكس) والى الحكومات الغربية والى عصبة الامم آنذاك مع ان الوسائل والمواصلات كانت بدائية في بداية القرن العشرين.

فلو ان المسلمين وهم مليارا مسلم كتب نصفهم فقط رسائل احتجاجية – عبر البريد الإلكتروني والواتساب وغيرهما – على السماح للمتطرفين من النيل من مقدساتنا وارسلوها الى قصر الإليزيه او الى الامم المتحدة او الى مراكزهم ومواقعهم ومراكز دراساتهم الأخرى لأحدثوا ضجة عالمية لامثيل لها ولكانت خطوة مؤثرة بإذن الله تعالى إلى جوار سائر الخطوات في تصحيح مسار هذا العالم الذي لا ينصف المظلوم إلا لو عمل وجدّ واجتهد وواجههم بأسلحتهم: الإعلام بالإعلام والقانون بالقانون والرأي العام العالمي الضاغط واللوبيات الفاعلة والإضرابات والمظاهرات السلمية.. و(إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)([15]).

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين

* سلسلة محاضرات في تفسير القرآن الكريم
http://m-alshirazi.com
http://annabaa.org/news/maqalat/writeres/mortadashirazi.htm

............................................
([1]) الفتح 29.
([2]) الاحتجاج ج1 ص 107، بحار الأنوار (ط – بيروت) ج29 ص234.
([3]) المقصود ما يبدو متضاداً وإن كان في واقعه يشكل الصورة المتكاملة، كما في قوله تعالى: (أشداء على الكفار رحماء بينهم)
([4]) في الشدة صبور وفي الرخاء شكور.
([5]) مثل الالتزام بقوله: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا) المائدة: 8.
([6]) فعند القوة لا يطغى، وعند الضعف لا يجبن، ولا يتملق للطاغي.
([7]) من فقه الزهراء عليها السلام ج5 ص502.
([8]) من فقه الزهراء عليها السلام ج5 ص503 -504.
([9]) وهي مهوى الباحثين والمحققين اذ ان فيها الآلاف الكتب والمخطوطات القيمة (المقرر)
([10]) طبعا: المنام ليس بحجة لكن اذا طابقته المؤشرات الخارجية القطعية فان القطع أو العلم حجة (وليس المنام!).
([11]) فقه السلم والسلام، الفصل الرابع السلم والسلام في باب الجهاد ص260.
([12]) البقرة 280
([13]) في باريس مليونا متظاهر ومليون وسبعمائة ألف في سائر مدن فرنسا.
([14]) الرعد 11.
([15]) محمد: 7.

اضف تعليق