q
منوعات - تقارير منوعة

حديثنا إلى أنفسنا

معظم الناس يتحدثون إلى أنفسهم في عقولهم فقط، وهي ظاهرة يسميها علماء النفس "الحديث الداخلي"، التحدث إلى النفس يساعدنا على التخطيط، وتنظيم المشاعر، والإبداع، وغيرها من الوظائف الأخرى المهمة، بيد أنه محيِّر في دراسته، في السنوات الأخيرة حقق علماء النفس تقدمًا كبيرًا في تحليل الحديث الداخلي...
بقلم: تشارلز فيرنيهو

معظم الناس يتحدثون إلى أنفسهم في عقولهم فقط، وهي ظاهرة يسميها علماء النفس "الحديث الداخلي"، التحدث إلى النفس يساعدنا على التخطيط، وتنظيم المشاعر، والإبداع، وغيرها من الوظائف الأخرى المهمة، بيد أنه محيِّر في دراسته.

في السنوات الأخيرة حقق علماء النفس تقدمًا كبيرًا في تحليل الحديث الداخلي، ويرجع الفضل في ذلك جزئيًّا إلى الدراسات التي تعتمد على تقنيات التصوير الطبي؛ لملاحظة الدماغ في أثناء عمله، كشفت النتائج التي توصل إليها العلماء عن بعض الأسس العصبية لهذه الأحاديث الخاصة، وأزالت الغموض عن بعض الأسرار الراسخة منذ أمد بعيد عن العقل.

أيقظني منبهي مبكرًا. كنت أُمضي ليلتي في غرفة بفندق في لندن، بالقرب من المقر الرئيسي لوكالة الأنباء "بي بي سي". لم أنعم بنومة هانئة هذه الليلة، وعندما نظرتُ في مرآة الحمام، رأيت شخصًا شاحب الوجه ومُرتَعبًا قليلًا. كان لديَّ سبب وجيه للشعور بالتوتر. فبعد حوالي ساعة واحدة فقط سأتحدث على الهواء مباشرة إلى ملايين المستمعين من خلال أحد البرامج الحوارية الرئيسية لمحطة "بي بي سي" الإذاعية، "ستارت ذا ويك". بينما كنت أحدِّق في المرآة، كنت أعي أني أتحدث إلى نفسي في صمت، في عقلي. كنت أُطَمئِن نفسي، وأوجه إليها كلمات من قبيل: "اهدأ؛ فهذه ليست المرة الأولى التي يستضيفك فيها برنامج ’ستارت ذا ويك‘". كنت أدرك من قبل أني كنت أتحدث إلى نفسي، لكني أيضًا كنت أسمع صوتًا يرن في أعماقي ، كان بمنزلة الصدى المألوف لصوتٍ ما.

هذا هو حال حياتنا اليومية؛ فالحياة ليست سوى أفكار، وصور، ومشاعر تجول بخاطرك، في أثناء الاسترخاء في حوض الاستحمام، أو تقطيع البصل في المطبخ، أو انتظار بدء مقابلة مهمة. عندما يُسأل الناس عن حياتهم الداخلية، غالبًا ما يقولون إنها تحتوي على الكثير من الكلمات. يستخدم علماء النفس مصطلح "الحديث الداخلي" للتعبير عن هذه الظاهرة، التي يتحدث الناس فيها إلى أنفسهم في صمت، في عقولهم. ثمة ظاهرة أخرى شبيهة، هي "الحديث الخاص"، وفيها يتحدث الناس إلى أنفسهم بصوت مسموع. إذا تحدثت إلى نفسك قائلًا: "لا تنسَ أن تحضِّر بعض القهوة"، أو "التزم بالخطة"، دون صوت، فإن ذلك يُعَد حديثًا داخليًّا، أما إذا قلت شيئا مماثلًا لنفسك لكن بصوت مسموع، فإن ذلك يُعَد حديثًا خاصًّا.

يبدو أن لكلتا صور الحديث أغراضًا مختلفة، تتضمن التخطيط لتصرفاتنا ومراقبتها، وتنظيم مشاعرنا، وتنمية إبداعنا. ويبدو أن "الحديث الداخلي" أكثر شيوعًا من "الحديث الخاص" لدى البالغين، كما يوليه علماء النفس اهتمامًا خاصًّا؛ إذ يؤدي -على الأرجح- الدور الأكبر في تفكيرنا. إلى جانب أن دراسته أصعب بكثير من دراسة الحديث الخاص. عندما بدأت البحث في تسعينيات القرن العشرين، كانت المؤلفات العلمية حول الموضوع شديدة الندرة. غير أن هذا الوضع تغيَّرَ تغيُّرًا جذريًّا على مدار العقدين السابقين، والسبب في ذلك يعود من جانب إلى أن الباحثين نجحوا في تطوير تقنيات تجريبية جديدة لدراسة الحديث الداخلي، ومن جانب آخر إلى أن لدينا في الوقت الحالي تصورًا أوسع عن كيفية عمله، والصور التي يكون عليها، وكيف يمكنه أن ينفع الشخص المفكر أو يعوِّقه. في الواقع، بدأنا ندرك أن الحديث الداخلي يجيب عن بعض التساؤلات الكبيرة الخاصة بالعقل والدماغ.

الدردشة مع النفس

يستلقي هنري على حصيرة اللعِب ممسكًا بقطارين في يديه، متحمسًا بشأن مدينته الخيالية التي يشرع في إنشائها. ويقول لنفسه: "أولًا السيارات، ثم قطار كبير". يبلغ هنري ثلاثة أعوام. إذا تجوَّلت داخل أي حضانة أو روضة أطفال، في أي مكان في العالم، فسترى وتسمع شيئًا مماثلًا. ويمكن لذلك أن يُحدث ضجيجًا داخل فصل فيه أطفال يتحدثون إلى أنفسهم بصوت مسموع وهم يفكرون. بيد أن هذه الظاهرة الطبيعية المتمثلة في إجراء الأطفال أحاديث خاصة مع أنفسهم تقدم بعض الخيوط المهمة التي تقودنا إلى المكان الذي تنبع منه الكلمات في عقولنا.

لطالما تأمَّل العلماء الحديث الخاص الذي يجريه الأطفال الصغار مع أنفسهم. افترض العالِم السويسري جان بياجيه -المتخصص في علم نفس النمو- في عشرينيات القرن الماضي أن هذا النوع من الحديث الذاتي يعكس عدم قدرة الأطفال على التعامل مع منظور الآخرين وملاءمة حديثهم لمستمعيهم. ومن هذا المنظور، كان الحديث الخاص نتيجةً لعدم القدرة على التواصل مع الآخرين. لهذا السبب كان يُعتَقد أن هذه الظاهرة تتلاشى كلما كَبُرَ الطفل وأصبح أكثر تمرسًا على وضع منظور الآخرين في الاعتبار.

وفي الثلاثينيات، افترض عالِم نفس روسي يُدعى ليف سميونوفيتش فيجوتسكي تفسيرًا مختلفًا للحديث الخاص؛ إذ رأى أن الأطفال يتعمدون إعادة توظيف الكلمات التي نجحوا في استخدامها من قبلُ في التفاعلات الاجتماعية مع أشخاص آخرين. فهم يتعلمون استخدام اللغة للسيطرة على أنفسهم بدلًا من السيطرة على سلوك الآخرين. دعمت الأبحاث التي أُجريت في العقود التالية نظرية فيجوتسكي حول كيفية تطوُّر الحديث الداخلي وكيف يؤدي وظائفه في النهاية.

أتذكَّر أنني في أثناء استكشافي لكتابات فيجوتسكي عندما كنت طالبًا في قسم علم نفس النمو، أدهشتني بساطة فكرته. كان يتراءى لي أن نظرية تطور التفكير المنطوق لا بد أن تكون أكثر تعقيدًا. لكن رغم أن فكرته كانت مباشِرة في حد ذاتها، كانت تبعاتها معقدة للغاية. كان فيجوتسكي يشير إلى أن التحدث إلى النفس في صمت عند البالغين هو نسخة داخلية للمحادثات التي نجريها مع الآخرين في أثناء نمونا كأطفال. وبعد مرور قرابة القرن على صياغة فيجوتسكي لنظريته، بدأنا أنا وزملائي من باحثي الحديث الداخلي في استكشاف مدى أهميتها لفهم كيف تؤدي الكلمات دورها في تفكيرنا.

إحدى أهم نتائج نظرية فيجوتسكي هي أن الحديث الداخلي لا بد أن يكون له بنية الحديث بصوت مسموع نفسها، وتحديدًا جودة الحوار بين وجهتي نظر مختلفتين. إن هذا المفهوم القائل بأن التفكير هو بمنزلة حوار عقلي ليس بالجديد؛ إذ تعود جذوره على أقل تقدير إلى الفيلسوف أفلاطون، لكني تشبثت بقدرته على إعادة صياغة بعض الألغاز العميقة الخاصة بالإدراك البشري. يتعلق أحد هذه الألغاز بالتحكم، كيف يمكن لنظام ذكي أن يأتي بأفكار جديدة تتعلق بكيفية التصرف، ويطبقها؟ يستطيع الروبوت أن يصير شديد الذكاء عند الاستجابة لما يحدث في البيئة، لكن ما الذي يمكن أن يجعله يأتي بفكرة عمل أي شيء لنفسه؟ إذا كان النظام بحاجة إلى أن يُملى عليه ما يفعله، إذن فهو يفتقر إلى إحدى السمات الجوهرية التي تشكل الذكاء.

ما يذهلني في الحوار العقلي هو أنه -بطبيعة الحال- ذاتي التنظيم. فعندما تُجري محادثة مع شخص آخر، لا يوجد طرف ثالث يلوِّح بعصا مايسترو ليريك في أي اتجاه يُفترض أن يسير الحوار في المرحلة التالية. إنما تدير أنت وشريكك في المحادثة حواركما عبر العمليات الطبيعية من طرح أسئلة، واعتراض، وتجاوُب، واتفاق... إلى آخره. وعلى هذا الأساس، فإن فهم التحدث إلى النفس بدا أنه يحمل في طياته تفسير كيف أن التفكير البشري يمكنه أن يكون ذا نهاية مفتوحة –أي ليس بالضرورة أن يكون مُوَجَّهًا دائمًا نحو هدف معين- كما يتسم بالمرونة بطبيعته.

ومع ذلك، فلكي تُجري حوارًا، عليك أن تتمتع بقدرة على تصوُّر جزء من وجهة نظر الشخص الذي تتحدث معه. (وعدم القدرة على وضع منظور الآخر في الاعتبار هو ما اعتقد بياجيه أنه السبب في لجوء الأطفال إلى الحديث الخاص). في كثير من الأحيان لا يمكنك أن تعرف مسبقًا ما يفكر فيه الشخص الآخر، ولكن بمجرد علمك بوجهة نظره، عليك أن تُبقي في ذهنك تصورًا لها وأن تعمل على تحديثها كلما مضيت في المحادثة. يُلِمّ العلماء حاليًّا بقدر لا بأس به عن الأساس العصبي لأخذ منظور الآخر في الاعتبار، والفضل في ذلك يعود في جزء منه إلى الدراسات التي أُجريت بالاستعانة بالتصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي وغيره من تقنيات التصوير الطبي التي يمكنها أن تكشف أي مناطق الدماغ يتولى تأدية مهمة بعينها.

استنادًا إلى هذه الرؤى، أخذنا أنا وزملائي نختبر فكرةً جديدة حول كيفية حدوث الحوارات العقلية، بناءً على اعتقادنا بأنها تستعين بأجزاء الدماغ نفسها التي تُستَخدَم في مراعاة منظور الآخر. في تجربة قادها زميلي بين ألدرسون داي -من جامعة دورهام في إنجلترا- استخدم فيها التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي، أجرى المشاركون في التجربة شكلين من أشكال الحديث الداخلي في أثناء استلقائهم داخل الماسح الدماغي. طلبنا من المتطوعين إجراء حديث داخلي أحادي البنية، بمعنى أنه لا يتضمن تبادل الحوار بين وجهتي نظر مختلفتين. طلبنا من المشاركين كذلك إجراء حوار ثنائي داخلي، يطرح وجهتي نظر مختلفتين. وفي كلتا الحالتين قدمنا سيناريو محددًا كموضوع للحديث الداخلي، مثل إجراء زيارة لمدرسة المشارك القديمة. في حالة الحوار الأحادي يلقي المشاركون كلمة على بعض الطلاب، أما في الحوار الثنائي، فيتجاذبون أطراف الحديث مع مدير مدرستهم السابق.

توقعنا أن نوعي الحديث الداخلي سيوظفان نظم اللغة العادية التي تنشط عندما يُطلَب من الناس إجراء أي نوع من المحادثات، على وجه التحديد المناطق على الحدود بين الفصين الجبهي الأيسر والصدغي، ومنطقة أبعد في مؤخرة الدماغ في جزء يُعرف بالتَّلفيف الصُّدغِي العلوي. بيد أننا اعتقدنا أن الحوار الثنائي الداخلي سيكون مميزًا، من ناحية أنه سينشِّط أيضًا أجزاء الدماغ المعروفة بدورها في التفكير في منظور الآخر. هذه المناطق من الدماغ هي الدعامة التي يرتكز عليها ما يُعرف بنظام الإدراك الاجتماعي، الذي يعمل على مساعدتنا على تصوُّر أفكار الآخرين ومعتقداتهم ورغباتهم.

أيدت النتائج توقعاتنا، فعندما كان المشاركون يُجرون حوارًا داخليًّا ثنائيًّا، بدا وكأن نظامهم اللغوي يعمل بالتزامن مع جزء من نظامهم الإدراكي الاجتماعي الواقع في نصف المخ الأيمن بالقرب من الوصلة الرابطة بين الفصين الصُّدغِي والجداري. لم يُظهر المشاركون هذا النمط من النشاط الدماغي عندما أجروا حوارًا أحاديًّا صامتًا. وعلى الرغم من ضرورة تكرار هذه النتائج، فإنها تقدم دليلًا مبدئيًّا على التعاون الذي يجري عبر نصفي المخ بين نظامين طالما ظُنَّ أنهما يؤديان وظائف مختلفة. يبدو أن هذا الارتباط العصبي بين اللغة والإدراك الاجتماعي يدعم حدس فيجوتسكي بأن الناس عندما يتحدثون إلى أنفسهم، فهم يُجرون حديثًا فعليًّا.

التقاط الحديث الداخلي في أثناء حدوثه

ثمة أسباب عديدة تدعونا إلى الحذر عند تفسير نتائج التصوير العصبي، وسبب حذرنا في هذه الحالة هو أننا بصدد هدم ما كان يُعتقد سابقًا في علم الأعصاب عن الحديث الداخلي. فأغلب الدراسات السابقة طلبت من المشاركين ببساطة أن يكرروا جملًا لأنفسهم بصمت في عقولهم على صورة حديث أحادي غير حواري– هذا النوع من الحديث الداخلي الذي قد تُجريه في أثناء تجولك في المركز التجاري محاولًا تذكُّر آخر بضع سلع على قائمة مشترياتك. وهو مفيد للغاية عند الحاجة إليه في أوقات معينة، غير أنه يختلف تمامًا عن الحوارات الداخلية المبدعة والمرنة الناشئة عن تعاملنا مع أنفسنا باعتبارنا شركاء في حديث اجتماعي متبادل. حرص فريقنا البحثي على وضع السمات الحوارية للحديث الداخلي على رأس الأولويات، لكننا استمررنا في الطلب من المتطوعين أن يفعلوا أمرًا ينطوي على قدر كبير من التصنُّع، وهو أن يتحدثوا إلى أنفسهم عندما يُطلب منهم ذلك بدلًا من انتظار الحديث الداخلي أن ينشأ وحده طبيعيًّا. المشكلة هي أن العلماء المتخصصين في علم الأعصاب الإدراكي يحتاجون إلى أن يسيطروا على الأمور ليستطيعوا فهم ما تعنيه بالفعل نتائج التجربة. إذ يبدو أن انتظار الحديث الداخلي حتى يحدث طبيعيًّا يعارض فكرة المنهج التجريبي الصارم.

ما نحتاج إليه هو إيجاد طرق لالتقاط الحديث الداخلي وقت حدوثه، وقد اتخذ فريقنا مؤخرًا خطوة إلى الأمام في هذا الاتجاه، باستخدام نهج معقد لتجميع أوصاف لتجارب الناس الداخلية، يُعرف بأخذ عينات التجارب الوصفي DES. يُدَرَّب المشاركون في هذه الطريقة على الإبلاغ عن لحظات التجربة الداخلية عند تنبيههم بإطلاق صفارة مُنَبِّه. تحفز هذه العملية المشاركين على التركيز على ما يفكرون فيه، أو يشعرون به أو يسمعونه، وهكذا، في اللحظة السابقة لإطلاق صوت المُنبه وتدوين ملحوظاتهم بشأن هذه التجارب في أثناء حدوثها. وفي اليوم التالي أجرى الباحثون مقابلات متعمقة مع المشاركين لسؤالهم عن كل تجربة مروا بها لحظة إطلاق صفارة المنبه؛ حتى يتسنى للباحثين تصنيفها حديثًا داخليًّا أو إدراكًا حسيًّا أو أيًّا من الظواهر الأخرى الشائعة. أجريتُ أنا وزملائي أول دراسة على الإطلاق تدمج بين هذه الطريقة الفعالة والتصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي. وفيها أجرينا التجربة التقليدية للحديث الداخلي؛ إذ طلبنا من المشاركين أن يقولوا كلمات محددة لأنفسهم بصمت في أثناء استلقائهم داخل الماسح. كما استخدمنا "أخذ عينات التجارب الوصفي" لرصد لحظات التجارب الداخلية في أثناء حدوثها طبيعيًّا. اخترنا الصفارات التي تأكدنا تمامًا من تزامُنها مع حدوث حديث داخلي بناءً على المقابلات التي أجريناها مع المشاركين للأخذ الوصفي لعينات التجارب، وقارنَّا النشاط الدماغي بذلك الذي حصلنا عليه عند طلب تأدية مهمة عادية من المشاركين.

كانت الفروق مدهشة؛ ففي حين أن طريقة "التكرار الصمّ" العادية نشطت منطقة بروكا (جزء من المخ يُسهِم غالبًا في إنتاج الحديثين الداخلي والخارجي)، أثار الحديث الداخلي التلقائي نشاطًا أكثر وضوحًا في مكان أبعد في مؤخرة الفص الصدغي في تلفيف هيشل. وفيما يتعلق بأنماط النشاط الدماغي، فإن الحديث الداخلي الذي يحدث تلقائيًّا تناقض بدرجة هائلة مع الحديث الذي يحدث بناءً على طلب الباحثين. ولهذه النتائج آثار كبيرة على طريقة دراستنا للحديث الداخلي في علم الأعصاب الإدراكي. فقد أثارت أسئلة صعبة حول كيفية تناوُل الباحثين لدراسة الحديث الداخلي، وما يمكن أن نفترضه بشأن أي نوع من التجارب العقلية التي قد نعتقد أنه يمكن توليدها عند الطلب. أكَّدَت النتائج الحاجة إلى ما أحب أن أطلق عليه علم الأعصاب البطيء؛ وهو تسخير فاعلية التقنيات العلمية العصبية للحصول على أوصاف شديدة الدقة للتجربة البشرية.

ثمة أسباب أخرى لتوخي الحذر عند وصف الحديث الداخلي بشتى أنواعه. فوفقًا لنظرية فيجوتسكي، لا تقتصر أشكال التحدُّث الداخلي إلى الذات على الحوار أحادي الطرف والحوار ثنائي الأطراف. إحدى السمات البارزة التي يتسم بها السيناريو الذي يطرحه هي فكرة تغيُّر شكل اللغة في أثناء اكتسابها لتكوين حديث خاص ثم حديث داخلي. شاهد فيجوتسكي عدة طرق لحدوث ذلك، تتضمن الأنواع المختلفة من الاختصار أو الإيجاز. في خضم توارد الأفكار القلقة إلى ذهني في غرفة الفندق بلندن، أمسكت بنفسي وأنا أخاطبها بجملة كاملة، هي: "هذه ليست المرة الأولى التي يستضيفك فيها برنامج ستارت ذا ويك". في أوقات أخرى، أتحدث إلى نفسي بلغة أكثر اختصارًا؛ فإذا سمعت صوت صفير مرتفعًا قادمًا من المطبخ في أثناء طهيي شيئًا ما، ربما أقول لنفسي شيئًا من قبيل: "مُؤَقِّت الفرن سيتوقف الآن". ومع هذا، من الأرجح أنني سأقول ببساطة: "المؤَقِّت". أشار فيجوتسكي إلى أن الحديثين الداخلي والخاص كثيرًا ما يتعرضان للاختصار، مقارنةً بالكلام المنطوق الموجَّه إلى شخص آخر. عادةً لا يتعين علينا عند التحدث إلى النفس أن نقول جملًا كاملة، ويرجع ذلك في جزء منه إلى أن الكلام موجَّه إلى النفس، وعليه لسنا بحاجة إلى توضيح التفاصيل كاملةً. أدرك الروائي الروسي الأمريكي الكبير فلاديمير نابوكوف كيف أن لأفكارنا صيغة مضغوطة مقارنة بما قد نقوله بصوت مسموع. فقد كتب في ملحوظاته عن روايته "نار باهتة" Pale Fire "نحن لا نفكر باستخدام الكلمات، وإنما باستخدام ظلالها"، وفقًا لمقابلة أُجريت معه في عام 1964.

والغريب في الأمر، عدم تناوُل أحد لهذه الخاصية التي تتسم بها اللغة الداخلية بالفحص والتمحيص حتى وقت قريب. وضعنا أنا وسايمون ماكارثي-جونز، الذي يعمل حاليًّا في كلية ترينيتي بدبلن في أيرلندا، استبانةً على الإنترنت، فيها سألنا الناس عن السمات المختلفة للحديث الداخلي. كما استعان فريقنا بتطبيق على الهواتف الذكية لتجميع بيانات كهذه في أثناء مزاولة الناس لحياتهم اليومية. كشفت نتائج دراستنا الأولية، التي نُشِرَت في عام 2011، عن وجود أربع سمات رئيسة للحديث الداخلي، هي: طبيعتها الحوارية، ونزوعها إلى الإيجاز، وإلى أي مدى يمكن أن تُشرِك أصوات أشخاص آخرين، ودورها في تقييم سلوكنا أو تحفيزه. ولم يذكر سوى عدد قليل من المشاركين في الاستبانة أن حديثهم الداخلي ينزع إلى أن يكون موجزًا، إلا أن هذه الصفة شائعة بما يكفي لإجراء المزيد من الأبحاث حولها.

والأهم من ذلك كله، أن هذا البحث القائم على استطلاع الرأي يؤكد فكرة أن الحديث الداخلي ليس مجرد شيء واحد؛ إذ يبدو أن له صورًا مختلفة، ربما تتغير لتتلاءم مع وظائف مختلفة، ومن المحتمل جدًّا أن يكون لهذه الصور ركائز عصبية مختلفة. يتمثل التحدي المستقبلي في محاولة فهم ما إذا كان الدماغ يتعامل مع الحديث الداخلي الموجز بالطريقة التي يتعامل بها مع الحديث الداخلي المُفصَّل أم لا. سيتطلب ذلك إما التوصل إلى طريقة لاستثارة الحديث الداخلي الموجز تجريبيًّا في أثناء التصوير باستخدام الماسح الدماغي، أو إجراء المزيد من التطورات لتصويره في أثناء حدوثه طبيعيًّا. ويبقى الحديث الداخلي هدفًا للدراسة بعيد المنال.

عنصر أساسي للإبداع

قطعت دراسات الحديث الداخلي أشواطًا كبيرة منذ بدأتُ التفكير فيها عندما كنت طالب دراسات عليا في تسعينيات القرن الماضي. إذ استسلم أخيرًا هذا الجانب من جوانب الحياة العقلية -الذي لم يكن متجاوبًا مع العلوم بصفة عامة- للأساليب التجريبية والتقنيات العلمية العصبية الجديدة. وفي أثناء حدوث ذلك، يمكن لهذا الجانب العميق من الوعي أن يجيب عن بعض الأسئلة المهمة المتعلقة بالعقل البشري.

بداية، يمكن للحديث الداخلي أن يقدم لمحةً عن منشأ الإبداع البشري. فبمجرد أن يعرف الناس تركيبة الحوارات الداخلية، سنتمكن من استخدامها بشتى الطرق، بدءًا من الجدال مع أنفسنا وحتى التحدث مع كيان ليس حاضرًا. ولأننا نقيم حوارات داخلية مع آخرين، فإننا نحافظ على "مساحة مفتوحة" لوجهات نظر الآخرين، سواء كانوا حاضرين أم لا، أو ما زالوا على قيد الحياة، أو كانوا غير حقيقيين من الأساس. فقد تكون حواراتي مع الله، أو مع والدٍ مُتوفًّى، أو مع صديق تخيُّلي غنيةً بالإبداع تمامًا مثل الحوارات التي أُجريها مع نفسي. وربما يكون طرحنا للأسئلة على أنفسنا، ثم الإجابة عنها، جزءًا مهمًّا من أداةٍ لنقل أفكارنا إلى آفاق جديدة. وثمة تجربة روتينية أخرى مرتبطة بالتحدث مع النفس، تُعَدُّ من أكثر التجارب شيوعًا وخصوصية. تتجلى في اللحظة التي تفتح فيها كتابًا لتقرأه؛ إذ يتم الاستحواذ على حوارك الداخلي بشتى الوسائل المثيرة للاهتمام؛ فقد أثبت علماء الأعصاب أن قراءة حديث لشخصية خيالية ينشِّط مناطق الدماغ نفسها التي نستخدمها لمعالجة أصوات الأشخاص الآخرين. فمن خلال استطلاع للرأي على الإنترنت، سأل فريقنا مؤخرًا عينةً كبيرةً من القراء المتحمسين عن "الأصوات" التي يسمعونها في أثناء قراءة قصة خيالية. ذكر شخص تقريبًا من كل سبعة أشخاص من المُستَطلَعة آراؤهم أن أصوات الشخصيات الخيالية كانت تتحدث بوضوح في عقولهم، كما لو كان هناك شخص موجود معهم في الغرفة يتفوه بالكلمات.

أدلى بعض المشاركين بالمزيد من التفاصيل حول تجربته مع الأصوات الخيالية. وباستخدام الأدوات التي توظَّف في علم الأدب لتحليل السرد، درسنا الأوصاف ذات النهايات المفتوحة التي أدلوا بها للبحث عن أدلة على قدرة الأدب على الاستحواذ على أفكارنا. فقد استمر صدى أصوات الشخصيات الخيالية يرنُّ في آذان بعض من المشاركين في الاستطلاع على الأقل حتى بعدما توقفوا عن القراءة. حتى إن بعضهم تقمَّص دور الشخصيات الخيالية في أثناء ممارستهم لحياتهم اليومية –إذ كانوا ينظرون إلى الأشياء المحيطة بهم بعيني السيدة دالواي (شخصية خيالية واردة في رواية من تأليف فيرجينيا وولف تحمل الاسم نفسه، "السيدة دالواي") في أثناء زيارتهم الروتينية لمقهى ستاربكس، على سبيل المثال. يُطلِق ماركو برنيني -من جامعة دورهام- على هذه الظاهرة اسم "العبور التجريبي" Experiential crossing. تقدم لنا هذه النتائج أدلة مهمة حول كيفية تصوُّر العقل لأصوات وشخصيات الكيانات الاجتماعية التي نتشارك معها عالمنا.

يخبرنا علم الحديث الداخلي الجديد أنه لا يُعَدُّ عملية انفرادية على الإطلاق. ينبع جزء كبير من فاعلية التحدث إلى النفس من الطريقة التي يُنَظَّم بها الحوار بين وجهات نظر مختلفة. وعلى غرار التضافر الذي رصدناه أنا وزملائي بين النظام اللغوي الواقع في النصف الأيسر من الدماغ وشبكات الإدراك الاجتماعي الواقعة في النصف الأيمن، لا بد لشبكة الحديث الداخلي من أن تكون قادرةً على الاتصال بالأنظمة العصبية الأخرى وفقما تقتضي الحالة –عندما تكون لدينا أفكار شفوية بشأن الماضي والمستقبل، أو عندما نستخدم الكلمات لإقناع أنفسنا بإنجاز مهمات شاقة، أو ببساطة عندما تجول الخواطر بأذهاننا، دون هدف محدد. إذا فهم الباحثون العلم بطريقة صحيحة، فستتولى الفكرة اللفظية تفسير جميع هذه الخصائص التي يتسم بها إدراكنا.

ولعل السبب في حصول الحديث الداخلي على قدر قليل من الاهتمام العلمي هو أنه أمرٌ يحدث بالفطرة. لكن في المرة القادمة عندما تجد أنك تتمتم في هدوء لتهيِّئ نفسك لمواجهة تحدٍّ ما، أو تقنعها بعبور مأزق، أو تؤنِّبها على خطأ ارتكبته، أو مجرد أنك تخطط لقضاء أمسية، ربما عليك أن تفكر في قدرتك العجيبة الخاصة والعميقة على الاستخدام المُوَجَّه ذاتيًّا للكلمات. وفي الحياة اليومية، كما بدا الأمر في المختبر، فإن أصوات الحديث الداخلي لديها الكثير من الأشياء لتخبرنا بها.

اضف تعليق