يجب أن تظل الصحة العامة على رأس الأولويات. أما عن الاقتصاد، فيجب أن يكون التركيز على الإبقاء على المحرك الاقتصادي الأساسي دائرا وتجنب زيادة هائلة في الفقر. مع تفشي المتحور دلتا، ينبغي لنا أن نؤجل الجهود الرامية إلى إعادة الاقتصادات إلى الوضع الطبيعي" للتشغيل الكامل للعمالة...
بقلم: برادفورد ديلونغ

بيركلي - يواجه العالم كارثتين تجعلان أزمة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) أشد سوءا مما ينبغي لها أن تكون عليه. تتمثل الكارثة الأولى في ظهور المتحور دلتا، الذي تبين أن عدواه أشد بمرتين وأنه أكثر فتكا بنحو 1.5 مرة إلى مرتين مقارنة بفيروس كورونا الأصلي. الكارثة الثانية أن حكومات الشمال العالمي لم تخصص الموارد اللازمة لزيادة إنتاج اللقاح إلى المستوى المطلوب لتحصين سكان العالم بحلول نهاية هذا العام. الأسوأ من ذلك أننا كلما تكاسلنا وتقاعسنا، كلما زادت احتمالية تآكل المناعة التي توفرها اللقاحات والإصابات السابقة بعدوى كوفيد-19.

نظرا لهاتين المشكلتين، من السابق للأوان الآن أن نبدأ في الحديث عن الاقتصاد العالمي "بعد الجائحة". ويجب أن تظل الصحة العامة على رأس الأولويات. أما عن الاقتصاد، فيجب أن يكون التركيز على الإبقاء على المحرك الاقتصادي الأساسي دائرا وتجنب زيادة هائلة في الفقر. مع تفشي المتحور دلتا، ينبغي لنا أن نؤجل الجهود الرامية إلى إعادة الاقتصادات إلى "الوضع الطبيعي" للتشغيل الكامل للعمالة إلى ما بعد نجاحنا في اكتساب مزيج من مناعة القطيع بفضل اللقاحات والمناعة المكتسبة.

بما أننا لا نستطيع أن نعرف الحال التي سيكون عليها الاقتصاد العالمي في غضون ستة أشهر من الآن، فإننا لا نعرف حتى الآن أي السياسات قد تكون أكثر ملاءمة لدفع التعافي السلس المستدام. على ذات المنوال، ينبغي لنا أن نرفض مقترحات "تهدئة" الاقتصاد العالمي من أجل تجنب حدوث دوامة تضخمية غامضة أو عودة حراس سوق السندات في المستقبل. ينبغي لنا أن نتصدى لمتحور دلتا بتسخين الاقتصاد وليس تهدئته.

باستثناء عدد قليل من الخبراء المطلعين حقا والذين لسوء الحظ نادرا ما يُـسمع لهم صوت بجانب الضوضاء السائدة، أصبح جهلنا بمجموعة المسارات المحتملة للجائحة هائلا. ولم تعد الصورة العالمية واضحة. وكل ما يمكننا فعله هو النظر في عينات أشد ضيقا.

تُـعَـد المملكة المتحدة أحد أطباق استنبات بتري. عانت المملكة المتحدة من انعدام الكفاءة والإهمال الواسع الانتشار. لم يفعل رئيس الوزراء ألكسندر بوريس دي فيفيل جونسون كل هذا بمفرده، وإن كان من المؤكد أنه حافظ على أسلوب أدائه في الكذب واستمر بطريقة ما في النهوض بعد كل فشل. بدون وصول لقاحات آمنة وفَـعّـالة بسرعة، يكاد يكون من المؤكد أن الدولة ستفقد عددا أكبر من أرواح الناس بسبب كوفيد-19، بعد أن خسرت بالفعل 130 ألفا (0.2% من السكان).

تقدم دول شرق آسيا الجيدة الأداء الطبق البتري الثاني. بعد أن أثبتت فعاليتها لفترة طويلة، بدأت آليات التحكم في الانتشار التي تفوقت على العالم تتصدع الآن تحت الضغط الذي يفرضه المتحور دلتا. وبوسعنا أن نستنتج أن هذه التدابير ضرورية لكنها غير كافية، حيث يقتصر استخدامها على شراء الوقت لبرامج التطعيم الشاملة.

أما الطبق البتري الثالث فهو الولايات المتحدة. الدرس المستفاد هنا ليس أن حكومة تفتقر إلى الكفاءة يمكنها أن تحقق عن طريق المصادفة مناعة القطيع لأن قوة صناعة التكنولوجيا الحيوية في الشمال العالمي تقف من ورائها. ولن نجد دروسا نستخلصها حول فيروس متطور يتغلب على كل تدابير قمع العدوى. الدرس الحقيقي المستفاد من الولايات المتحدة هو أنها تنتمي إلى فصيل منفرد بذاته. فقد توفي هناك أكثر من 600 ألف شخص بسبب كوفيد-19، ويبدو أن هذا الرقم مهيأ للارتفاع بنحو 100 ألف أخرى في الأشهر المقبلة.

في الوقت ذاته، تتلخص الرسالة التي تطلقها قناة فوكس نيوز وأغلب المنافذ الإعلامية اليمينية الأخرى في التالي:

"أدار الرئيس الخارق دونالد ترمب عملية مشروع Warp Speed التي حققت نجاحا هائلا، والتي اجترحت معجزات في مجال التكنولوجيا الحيوية وخلقت لقاحا شديد الفعالية ضد مرض يشبه الأنفلونزا تماما. لكن اللقاحات غير مختبرة وغير آمنة. وما كان ينبغي لنا أن نرتدي القناعات أبدا. إن الفيروس سلاح بيولوجي صيني ممول بواسطة دكتور أنتوني فاوتشي، الذي دأب على تقديم نصائح مضللة لترمب حول هذه الخدعة العملاقة. وتمارس المؤسسة الطبية قمع المعلومات حول الأدوية المفيدة حقا مثل إيفيرمكتين، وهيدروكسي كلوروكين، وبيروكسيد الهيدروجين".

إذا كانت هذه "الـسَـلَـطة" التآمرية تبدو مجنونة، فما بالكم بحقيقة مرعبة مفادها أن نحو رُبـع سكان أميركا يصدقون هذا الهراء (أو على الأقل جزءا منه). ويعتقد خُـمس الأميركيين أن حكومة الولايات المتحدة تستخدم لقاحات كوفيد-19 لزرع رقائق دقيقة في أجسادهم. لقد وجد عشرات الملايين من الأميركيين سببا كافيا لتعريض أنفسهم لخطر الموت بنسبة 1% برفضهم تناول لقاح شديد الفعالية وآمن للغاية ومتوفر على نطاق واسع.

لنتأمل هنا العواقب المترتبة على عملية غسيل المخ الناجحة هذه. إن الدولة حيث تتمكن وسائل الإعلام الحاقدة الهازئة والناشطون السياسيون من إحداث مثل هذه الانقسامات النفسية العميقة في جزء كبير من السكان تصبح شديدة التعرض لمجموعة واسعة من التهديدات. ماذا قد يصدق الأميركيون من هراء بعد ذلك؟ حتى لو كان الدافع وراء جهود الاختراق السيكولوجي الجماعي التالي مجرد الرغبة في بيع المزيد من الإعلانات، فما هو حجم الدمار الاجتماعي الذي قد تخلفه؟

المحصلة النهائية اليوم هي ذاتها كما كانت قبل عام، عندما اقترحت تجارب المرحلة الثالثة لأول مرة أن لقاحات الـ mRNA ضد كوفيد-19 حققت نجاحا هائلا. تتمثل الخطوة التالية الواضحة في تجاوز البيروقراطية وفتح صنابير الأموال لتعبئة القدر اللازم من الموارد لتوصيل لقاحات عالية الجودة إلى كل ذراع في العالم بأسرع وقت ممكن. وبوسعنا أن نتدبر قضايا الموافقات التمويلية والتنظيمية في وقت لاحق.

لقد مر عام كامل منذ قدم لنا عباقرة التكنولوجيا الحيوية الأدوات التي نحتاج إليها للتغلب على الفيروس. فلماذا إذن لا نزال في الموقف الذي نحن عليه الآن؟

* جيه. برادفورد ديلونغ، أستاذ علوم الاقتصاد بجامعة كاليفورنيا في بيركلي، وباحث مشارك لدى المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية
https://www.project-syndicate.org

اضف تعليق