آراء وافكار - وجهات نظر

هل تحوّلات الشرق الأوسط مجرد سراب؟

لماذا لن تؤدي جملة من الصفقات الدبلوماسية إلى إنهاء الصراع

موجة التطبيع في الشرق الأوسط من غير المرجح أن تساعد سكان المنطقة أنفسهم الذين يعانون. إذ إن أعمق الأسباب الدافعة للصراع لا علاقة كبيرة له بدبلوماسية النخبة، وله كل العلاقة بكيفية إدارة الدول منفردة لاقتصاداتها وكيفية حكمها لمجتمعاتها. فقد كان انتهاك الكرامة والغضب الشعبي حيال النخب الحاكمة محسوبيتها...
بقلم: يوست هلترمان

في منتصف تموز/يوليو، أكمل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان زيارة حظيت بتغطية إعلامية واسعة شملت المملكة العربية السعودية، وقطر، والإمارات العربية المتحدة؛ وهي زيارة تمخضت عن صفقات استثمارية بعشرات مليارات الدولارات في الاقتصاد التركي الذي يعاني من صعوبات بالغة. وجاءت الزيارة تتويجاً لذوبان جليد العلاقات الدبلوماسية بين تركيا والحكومتين السعودية والإماراتية بعد نحو عشر سنوات من العلاقات شديدة البرودة. في الواقع، فقد تحققت المصالحة نفسها بفضل استئناف قطر، حليفة تركيا، علاقاتها مع الرياض وأبو ظبي، بعد انقطاع دام سنوات. في حزيران/يونيو، قبل أسابيع فقط من زيارة أردوغان، كانت قطر والإمارات نفساهما قد استأنفتا العلاقات الدبلوماسية الرسمية.

وهذه ليست الصفقات الوحيدة من هذا النوع التي تُبرَم في الشرق الأوسط. ففي عام 2020، وافقت إسرائيل على إقامة علاقات مع البحرين والإمارات العربية المتحدة في اتفاقات إبراهيم، في أول حدث تطبيعي بين إسرائيل والدول العربية منذ معاهدة السلام الإسرائيلية–الأردنية في عام 1994. بعد بضعة أشهر، انضم المغرب ومن ثم السودان إلى اتفاقات إبراهيم أيضاً. في آذار/مارس 2023، اتفقت إيران والسعودية على استئناف العلاقات الدبلوماسية بعد سبع سنوات من العداء المتبادل. وفي أيار/مايو، حتى الديكتاتور السوري، الرئيس بشار الأسد، أُخرج من عزلته عندما رُحب به مرة أخرى في الجامعة العربية بعد أكثر من عشر سنوات من العزلة.

للوهلة الأولى، يظهر وكأن تزايد صفقات التطبيع المُبرمة في جميع أنحاء المنطقة تشكل قطيعة مع عقدٍ من الاضطرابات التي أطلقتها الانتفاضات العربية في عامي 2010 و2011. لقد قررت الدول التي كانت قد اتبعت مقاربات عسكرية حيال بعض صراعات المنطقة، سواء مباشرة أو من خلال وكلاء، في الوقت الحاضر على الأقل، أن الدبلوماسية تشكل وسيلة أفضل لتحقيق مصالحها. وقد يشكل اليمن مثالاً على ذلك، حيث انخرطت الرياض على مدى العامين الماضيين في محادثات مع المتمردين الحوثيين المدعومين من إيران في محاولة لإنهاء الحرب الأهلية الجارية منذ وقت طويل، أو على الأقل إنهاء الانخراط السعودي فيها. تبدو المزايا المتصوَّرة للتطبيع كبيرة إلى درجة أن إدارة بايدن تُلمح الآن إلى أن مصالحة بين إسرائيل والسعودية قد تساعد في إنقاذ عملية السلام المحتضِرة بين إسرائيل والفلسطينيين.

لكن ينبغي على المراقبين أن يحذروا المبالغة في تقدير أهمية هذا التغير الظاهري الكبير. فكثير من العوامل الكامنة خلف صراعات المنطقة تبقى إلى حد كبير دون معالجة، مثل المناظرة القائمة بشأن دور الإسلام والإسلاميين في الحكم؛ والعداء طويل الأمد بين إيران وإسرائيل وبعض الدول العربية؛ والصراع الإسرائيلي–الفلسطيني، الذي يواجه جولة جديدة من العنف المتهور وسط صعود حكومة من أقصى اليمين في إسرائيل، والافتقار المدمِّر للحكم الفعال في المنطقة، الذي تعززه إعادة فرض الحكم الاستبدادي في جميع أنحاء المنطقة، بما في ذلك في تونس، التي يعمل رئيسها على عكس التقدم الديمقراطي الذي حدث بعد عام 2011. في الواقع، فإن تطبيع العلاقات بين مختلف الحكومات قد أدى إلى ترسيخ بعض هذه المشكلات.

التفاهمات الإماراتية

لا شك أن الدبلوماسية مهمة. ولا شك أن إقامة علاقات بين السعودية وإيران، وإسرائيل وعدة دول عربية، وقطر وخصومها العرب الخليجيين – أو استئناف هذه العلاقات – إضافة إلى التقارب التركي الأخير مع مصر وعدة دول خليجية سيحقق عدة أشياء. فهذه التحركات تفتح قنوات جديدة للاتصال، قنوات حيوية لمنع تصاعد الحوادث العنيفة إلى شيء أكبر، وذلك من خلال تحسين التفاهم المتبادل بين الخصوم أو الأعداء. في منطقة مبتلاة بصراعات قديمة، وعميقة، وتبدو عصية على الحل، فإن المحافظة على اتصالات منتظمة على مستوى رفيع أمر مهم. لكن هل ترقى هذه الزوبعة من المناورات الدبلوماسية الأخيرة إلى شيء أكثر من ذلك؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما هو هذا الشيء، وما هي حدوده؟

يمكن القول إن موجة التطبيع بدأت عام 2019 بالإمارات العربية المتحدة وإيران. ففي ذلك الصيف، سعى مسؤولون إماراتيون إلى تخفيف حدة التوترات مع طهران في أعقاب سلسلة من الهجمات التي لم تعلن أي جهة مسؤوليتها عنها على السفن التجارية في الخليج. فسَّرت القيادة في أبو ظبي هذه الحوادث على أنها طريقة إيران في التحذير من أنه سيكون هناك تداعيات إذا دعمت دول الخليج العربية حملة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في ممارسة “أقصى الضغوط” على الجمهورية الإسلامية. ومن خلال زيارتهم لطهران ذلك العام، بعث مسؤولون إماراتيون رفيعون بإشارة إلى أن الإمارات لا ترغب في أن ترتبط بمحاولات الولايات المتحدة اتخاذ إجراءات قسرية ضد طهران، ولا سيما في أعقاب قرار ترامب انسحاب الولايات المتحدة أحادياً من خطة العمل الشاملة المشتركة، أي الاتفاق النووي الإيراني، الذي كان سلفه قد وقعه في عام 2015.

تبع ذلك مزيد من المباحثات بين الإمارات العربية المتحدة وإيران. بالنسبة لإيران، فإن هذه النافذة وفَّرت خروجاً محتملاً من عزلتها النسبية في المنطقة، مع احتمال ضخ استثمارات إماراتية في اقتصادها المتداعي. الإمارات العربية المتحدة، من جهتها، كانت تسعى إلى وضع إستراتيجية أمنية جديدة في خضم المواجهة الخطيرة بين إيران والولايات المتحدة. رغم كفاءة القوات المسلحة الإماراتية، فإن المسؤولين الإماراتيين كانوا قد شهدوا النتائج المختلطة للتدخلات العسكرية في ليبيا، حيث وفرت الإمارات الدعم العسكري لأحد الأطراف في الصراع المسلح، وفي اليمن حيث انضمت إلى جهد عسكري بقيادة السعودية ضد المتمردين الحوثيين الذين كانوا قد سيطروا على العاصمة. وفي كل حالة، اصطدمت تلك الجهود العسكرية بعقبات كأداء وحققت مكاسب محدودة. في هذه الأثناء، بدت الضمانات الأمنية الأميركية غير ذات مصداقية على نحو متزايد؛ إذ إن الأمر لم يقتصر على دفع إدارة ترامب إيران إلى زاوية، بل إنها فشلت، في أعين عرب الخليج، في بسط مظلة حمايتها عندما ردت إيران.

إدراكاً من المسؤولين الإماراتيين لوجود نقاط ضعف، فقد انتهجوا مقاربة أكثر دبلوماسية حيال المنطقة. ففي أعقاب الانفتاح على إيران في عام 2019، قرروا جعل علاقتهم الطويلة لكن السرية غالباً مع العدو الأكبر لإيران، إسرائيل، رسمية من خلال اتفاقات إبراهيم. المفارقة أن تحسُّن علاقات الإمارات بإيران ربما يسَّر اتفاقها مع إسرائيل. فلو كانت أبو ظبي قد اتخذت هذه الخطوة في ظل ظروف مختلفة، فإنها كانت ستقلل من مبررات إيران في ممارسة ضبط النفس عندما شعرت بأن مصالحها الحيوية مهددة. ما حدث هو أن إيران اكتفت بتحديد خط أحمر يتمثل في عدم السماح بوجود عسكري إسرائيلي في الخليج. في هذه الأثناء، ورغم أن نقل العلاقات الإماراتية مع إسرائيل إلى المستوى الرسمي لم يكن الهدف الرئيسي لقادة الإمارات، فإنه حمى ظهورهم من إدارة ترامب، التي طالبت شركاء واشنطن الخليجيين من حيث المبدأ بعدم التراخي في الضغط على إيران.

العلاج بالكلام

سرَّع انتخاب جو بايدن رئيساً للولايات المتحدة في عام 2020 شعوراً لدى القادة العرب بأن عليهم أن يعتمدوا أكثر على دبلوماسيتهم في معالجة التوترات الإقليمية. في مواجهة فترة من الاستقطاب السياسي والاجتماعي الداخلي العميق، بدا وكأن الولايات المتحدة تركز على الداخل، وفي السياسة الخارجية، كانت إدارة بايدن تعيد إحياء توجه “التحرك نحو آسيا” الذي وضعته إدارة أوباما. بعد وصوله إلى البيت الأبيض بوقت قصير، أشار بايدن إلى رغبته في أن تنتهي الحرب في اليمن – رغم أن الولايات المتحدة لم تفعل شيئاً يذكر لدفع الأمور في ذلك الاتجاه. بعد عام من ذلك، رفض التوسلات الإماراتية لإعادة تصنيف الحوثيين كياناً إرهابياً في أعقاب الهجمات بالطائرات المسيرة على أبو ظبي في كانون الثاني/يناير 2022.

تدهورت علاقات واشنطن بالرياض على نحو خاص. فعند دخوله البيت الأبيض، قاطع بايدن قائد السعودية بحكم الأمر الواقع، ولي العهد محمد بن سلمان، وحمّله مسؤولية قتل الصحفي المعارض جمال خاشقجي في عام 2018. كما أشار بايدن إلى أنه يريد أن تعود الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي مع إيران. رغم أن المسؤولين السعوديين لم يحسموا قرارهم بشأن ما إذا كانوا سيسعون للحصول على برنامج نووي خاص بهم، وفي أية ظروف، فإنهم قلقون بعمق بشأن الكيفية التي قد تفرض فيها إيران قوتها في المنطقة – سواء بنفسها أو من خلال حلفائها – إذا خففت واشنطن العقوبات في اتفاق نووي جديد.

في السعودية ودول الخليج العربية الأخرى، أعطى انعدام اليقين المتزايد بشأن الضمانات الأمنية الأميركية زخماً جديداً للدبلوماسية الإقليمية. ففي عام 2021، قررت السعودية وحلفاؤها الخليجيين وضع حدٍ لحصارهم لقطر الذي دام أربع سنوات، والذي جاء نتيجة تمسك قطر بعناد بسياسة خارجية مستقلة ودعمها للإسلاميين خلال الانتفاضات العربية. رغم حقيقة أن قطر لم تكن قد لبّت أياً من المطالب الأصلية للبلدان المحاصِرة، توصلت الرياض إلى اتفاق العُلا، الذي استأنف العلاقات القطرية مع السعودية والدولتين الأخريين العضوين في مجلس التعاون الخليجي البحرين والإمارات، إضافة إلى مصر، التي كانت قد انضمت إلى مقاطعة قطر أيضاً. رغم أنه ليس من الواضح إلى أي حد ستترافق هذه المصالحة الرمزية مع محتوى فعلي – ورغم أن العلاقات السعودية–الإماراتية بدأت بالبرود في الوقت نفسه تقريباً – فإن الانعطافة كانت مهمة. فقد سمحت للسعودية بإظهار سلوك جديد في السياسة الخارجية قائم على الدبلوماسية وليس على التنمر، ومكّنت قطر من استضافة كأس العالم بنجاح في عام 2022.

في هذه الأثناء، كان لدى حكومة أردوغان في تركيا دوافعها للعودة إلى الدبلوماسية. فلأكثر من عقد من الزمن، توترت علاقات أنقرة بالسعودية، والإمارات، ومصر بشكل كبير. ورغم أن تركيا كانت قد هيمنت في ليبيا ونجحت في مساعدة أذربيجان على استعادة جيب ناغورنو كاراباخ الأرميني ومناطق مجاورة له في عام 2020، فإن دعمها للإخوان المسلمين المصريين وغيرهم من الإسلاميين في المنطقة كان قد أغضب تلك الحكومات العربية.

رغم ذلك، فإنهم رأوا أن جهودهم الرامية إلى تحجيم الإسلاميين كانت قد نجحت إلى حد بعيد، أولاً من خلال انقلاب الفريق عبد الفتاح السيسي في عام 2013 في مصر ضد محمد مرسي، رئيس البلاد وزعيم الإخوان المسلمين، ومن ثم تدريجياً في مناطق أخرى أيضاً. وكما أظهرت زيارة أردوغان الأخيرة إلى الخليج، فإن تطبيع العلاقات، على الأقل في التجارة، يمكن أن يعني تعزيزاً كبيراً للاقتصاد التركي الذي يعاني من سوء الإدارة. ورأى نظراء تركيا في المحادثات أن دبلوماسية دفتر الشيكات تشكل طريقة أفضل لإقناع تركيا بعدم دعم سلوك يرون أنه تخريبي.

لقد ظهرت النتائج الأكثر دراماتيكية للاندفاعة الجديدة نحو التطبيع في الشرق الأوسط في النصف الأول من عام 2023. ففي تحرك جدير بالذكر على نحو خاص، وبعد سنوات من العداوة والشكوك المتبادلة، اتفقت السعودية وإيران على استعادة العلاقات الدبلوماسية في آذار/مارس. في سعيهم للتهدئة مع إيران، أدرك المسؤولون السعوديون أن مقاربة ترامب في فرض “أقصى الضغوط” قد فشلت وأنهم بحاجة لمسار بديل إلى الأمام. استمر مسؤولون أمنيون إيرانيون وسعوديون كبار في حوار ثنائي متقطع على مدى سنتين إلى أن تدخلت الصين في مطلع هذا العام. عند هذه النقطة، واجهت إدارة بايدن علاقات متردية مع إيران، وسط محادثات نووية مترنحة، واحتجاجات شعبية في إيران، وتقديم طهران الأسلحة لروسيا لاستعمالها في أوكرانيا. مع خروج واشنطن من الصورة، من المرجح أن بكين أدركت أنه أمامها فرصة استثنائية لمساعدة الجانبين في التوصل إلى اتفاق.

حظي الاختراق بترحيب كبير بالنظر إلى الأثر التدميري الذي أحدثته الخصومة الإيرانية–السعودية على مدى السنوات الأخيرة، ولا سيما في اليمن. كما يطرح إمكانية إجراء حوار إقليمي أوسع بشأن القضايا ذات الاهتمام المشترك، مثل أثر التغير المناخي، والتحول في استخدام الطاقة، وحرب روسيا في أوكرانيا. علاوة على ذلك، وكما كان الحال مع نظرائهم الإماراتيين، فإنهم بتخفيض التهديدات الإيرانية للبنية التحتية للنفط، فإن السعوديين وضعوا أنفسهم في موقع أفضل يمكِّنهم من تطبيع العلاقات مع إسرائيل، إذا اختاروا فعل ذلك، وعندما يختارون فعله.

لكن ثمة تحرك مثير آخر نحو التطبيع تمثل في جهود بعض القادة العرب لاستعادة العلاقات مع النظام السوري. قادت الإمارات هذه العملية بإرسال وزير خارجيتها إلى دمشق في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي وزيادة المساعدات والتجارة على حد سواء. ثم في أيار/مايو، سمحت الجامعة العربية بعودة سورية إلى صفوفها في أعقاب تحرك أخير من قبل السعودية. باتخاذ هذه الخطوات، فإن قادة الخليج العرب يعترفون فعلياً بأن الديكتاتور السوري الأسد قد انتصر على المعارضة التي قمعها بعنف. لكنهم يضيفون أيضاً جهداً يبذلونه منذ وقت طويل لإبعاد الأسد عن حُماته الإيرانيين والتعامل مع المشكلة المتنامية المتمثلة في تهريب المخدرات برعاية الدولة من سورية إلى الخليج. (ضبطت السلطات الجمركية في الأردن والخليج ملايين حبات الكبتاغون، ولاحقت القوات الأردنية المهربين، وقتلت بعضهم حتى داخل سورية.) بالإضافة إلى إعادة تأهيل النظام السوري، استأنفت تركيا النقاشات مع دمشق في ربيع هذا العام، بِحثٍّ من روسيا وحرصاً منها على الادعاء، قبل الانتخابات الرئاسية في أيار/مايو، أنها كانت تسعى بنشاط لإيجاد طريقة تمكِّن اللاجئين السوريين من العودة إلى سورية؛ وتحدثت الإمارات مع قائد المتمردين الأكراد في شمال سورية من أجل تقريب المجموعة أكثر من دمشق.

الشكل على حساب المحتوى

من منظور منع الصراعات، فإن عودة الشرق الأوسط إلى الدبلوماسية والتطبيع يوفر مزايا لا ريب فيها. عدد من الصراعات المتشابكة في المنطقة – بين إسرائيل وحماس، وإسرائيل وإيران، وإسرائيل وحزب الله – لا تفصلها أكثر من شعرة عن حدوث تصعيد كبير. ومن شأن خطأ واحد في الحسابات أو سوء التواصل، أو سقوط صاروخ على مدرسة أو مركز تجاري بدلاً من سقوطه على هدف عسكري أو في حقل مفتوح، أن يطلق سلسلة لا يمكن ضبطها من الأحداث. وفي مثل هذا الوضع، فإن وجود خطوط اتصال ودبلوماسية نشطة أمر حيوي، حتى لو لم تشمل تلك القنوات المتحاربين المباشرين.

أما ما إذا كان لكل هذا الكلام أن يساعد في معالجة القوى الأعمق المسببة للصراع في المنطقة، فإنه أمر غير مؤكد. تمثل المناظرة القديمة الحديثة بشأن دور الإسلام في الحكم، ولا سيما في شكله الأكثر تنظيماً، الإخوان المسلمين، إحدى هذه القوى الدافعة، الأمر الذي يؤدي إلى حالات متكررة من عدم الاستقرار والتوتر في بلدان مثل مصر وبين قطر والإمارات، على نحو خاص. وما يجعل الأمور أكثر تعقيداً هو أن المسألة الإسلامية تكتنفها وتعيد صياغتها اختلافات إثنية وطائفية، وأيضاً تطلعات بعض الدول إلى الهيمنة الإقليمية.

اليوم، على سبيل المثال، وبعد عامين من اتفاق العُلا، ما تزال الإمارات العربية المتحدة بعيدة عن قطر وتركيا، ناهيك عن إيران، بشأن مسألة دور الإسلام في الحكم. ورغم أنه من غير المرجح أن يستلم الإسلاميون السلطة في أي مكان قريباً، فإن الدعم الشعبي الذي ما يزالون يتمتعون به في جميع أنحاء المنطقة وقدرتهم التنظيمية الكبيرة مدعاة قلق إماراتي مقيم. كما أن اتفاق العُلا أبرز نوايا محمد بن سلمان المتمثلة في تحويل السعودية من بلدٍ يعتمد على النفط ومحافظ اجتماعياً إلى قوة عالمية متوسطة على قدم المساواة مع إندونيسيا أو البرازيل. ولتحقيق ذلك، فإنه يهمّش رجال الدين المتشددين الذين فرضوا على مدى عقود ضوابط اجتماعية قمعية؛ وينوّع الاقتصاد بعيداً عن اعتماده المفرط على الدخل المتأتي من النفط، كما في إستراتيجية “رؤية السعودية 2030” التي وضعها، والتي تدعو إلى تحديث جذري للاقتصاد والمجتمع السعوديين، بما في ذلك ضخ استثمارات هائلة في التحول الطاقي، وأيضاً إلى انفتاح اجتماعي واسع؛ والسعي إلى دور جديد في تسوية الصراعات الإقليمية، وأحدثها في الحرب الأهلية في السودان. (إضافة إلى إخلاء الأجانب العالقين وتوزيع المساعدات الإنسانية، فإن الرياض، مع واشنطن، توسطت في إجراء محادثات بين القائدين السودانيين الخصمين للتوصل إلى وقف لإطلاق النار، لكن دون نجاح حتى الآن.) بعبارة أخرى، فإن الهدف الرئيسي لمحمد بن سلمان في التحول إلى الدبلوماسية لم يكن تشجيع درجة أكبر من الوحدة في الخليج بل إعادة فرض الهيمنة الإقليمية السعودية.

على نحو مماثل، من غير الواضح إلى أي حد سيغير الاتفاق السعودي–الإيراني من إظهار إيران قوتها في المنطقة. على المدى القصير، يمكن للاتفاق أن يخفف حدة التوترات الإقليمية بشكل كبير، ولا سيما في اليمن. لكن رغم أن إيران يمكن أن تدفع الحوثيين إلى التوصل إلى اتفاق مع السعوديين، فمن غير المرجح أن تقلص دورها الإقليمي أو دعمها لوكلاء وحلفاء مثل الحوثيين، وحزب الله، والمجموعات شبه العسكرية في العراق، أو النظام السوري. قد يكون الأسد أمَّن عودة دخول سورية إلى الجامعة العربية، لكن الجامعة منقسمة بعمق وتشكل خليطاً منزوع الأسنان من الدول العربية. لن تجد الاستثمارات الخليجية طريقها إلى دمشق بأي شكل ذي معنى طالما ظلت العقوبات الغربية مفروضة على سورية أو طالما استمر الأسد في الاعتماد حصرياً على إيران وروسيا في بقائه. وفي كل الأحوال، من المرجح أن تستمر السعودية وإيران في التنافس على القوة والنفوذ الإقليميين.

ثم إن اتفاقات إبراهيم تكتنفها قيود كبيرة. فرغم أنها تمثل تغيراً مهماً في التحالفات الإقليمية، فإنها تركت كثيراً من القوى الكامنة خلف الصراعات، ولا سيما فيما يتعلق بالاحتلال العسكري الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة، دون معالجة، بل إنها أصبحت أكثر رسوخاً. تحقق إسرائيل والإمارات منفعة متبادلة من إخراج علاقاتهما إلى العلن، وهي علاقات رعياها في الظل منذ عدة سنوات. فإضافة للتجارة، والسياحة – حتى الآن من جانب واحد – فإن الإمارات كانت متشوقة لشراء أسلحة أميركية متقدمة بضوء أخضر من إسرائيل (بالنظر إلى أن ذلك شرط مسبق تقليدي لصفقات الأسلحة الأميركية في الخليج). إضافة إلى تكنولوجيا مراقبة إسرائيلية طورتها وجربتها إسرائيل في الأراضي الفلسطينية التي تحتلها. إلا أن العلاقة الإسرائيلية–الإماراتية الجديدة أقل بكثير من رغبة إسرائيل بتحالف معادٍ لإيران. فدول الخليج العربية، التي تخشى من أن تصبح أهدافاً جانبية في حرب بين إيران وإسرائيل و/أو الولايات المتحدة، أوضحت بجلاء أنها لا تريد أن تكون جزءاً من مثل هذا المشروع. لقد دفنت المصالحة السعودية والإماراتية مع إيران احتمال قيام مثل هذا التحالف في أي حال.

لقد كان الأثر التدميري الأكبر للاتفاقات على المسعى القلق وغير المستقر لتحقيق السلام بين إسرائيل والفلسطينيين. بالنسبة لأولئك في واشنطن الذين يعتقدون أن علاقات التطبيع بين السعودية وإسرائيل من شأنها أن تفضي إلى تحقيق تقدم في الوضع الفلسطيني، فإن الأمر يستحق النظر إلى نتائج الاتفاقات القائمة. لقد جادل المسؤولون الإماراتيون بأن علاقات إماراتية أقوى مع إسرائيل من شأنها أن تؤثر في القضية بشكل إيجابي، لكن حتى الآن ليس لديهم شيء يظهرونه كدليل على ذلك. بل على العكس، إذ إن إسرائيل التي تقودها الآن حكومة يمينية متشددة وسّعت المستوطنات واتبعت إجراءات عسكرية أقسى في الأراضي المحتلة، بينما تَعدُّ انقسام الصف العربي نصراً كبيراً.

لقد دقت الاتفاقات مسماراً في نعش مبادرة السلام العربية المحتضرة، التي طرحتها السعودية ودول عربية أخرى قبل عقدين من الزمن. ورداً على ذلك، حاول الدبلوماسيون السعوديون إعادة التأكيد على الأهمية الدائمة للمبادرة، لكن بدا أن مثل تلك الجهود تهدف بصورة أكبر إلى تحسين الموقع التفاوضي وليس بذل محاولة حقيقية لإحياء الخطة. أقصى ما يمكن أن تتفق عليه دول الخليج العربية اليوم هو نوع من السلام الاقتصادي بالنسبة للفلسطينيين الخاضعين للسيطرة الإسرائيلية، وهو ما حاولت مبادرة ترامب “من السلام إلى الرخاء” فرضه في عام 2020. لكن الفلسطينيين لم يظهروا أي اهتمام بمثل تلك المقترحات. وفي وجه كل الظروف، يستمرون في التطلع إلى دولة مستقلة خاصة بهم أو، إذا لم يتحقق ذلك، منح حقوق متساوية لجميع السكان في المنطقة الواقعة بين البحر المتوسط ونهر الأردن – وهو طرح مرفوض كلياً بالنسبة لمعظم الإسرائيليين. ما ينشأ بدلاً من ذلك هو نظام للسيطرة تقول منظمات فلسطينية، وإسرائيلية، ودولية لحقوق الإنسان أنه يتطابق مع التعريف القانوني للفصل العنصري ( الأبارثايد) – الآن بدعم فعلي من الأطراف العربية في اتفاقات إبراهيم.

في هذه الأثناء، يستمر الصراع الإسرائيلي–الفلسطيني دون هوادة، ويندلع في اندفاعات عنيفة على جملة من الجبهات وبتواتر متسارع. المجتمعان الإسرائيلي والفلسطيني على حد سواء يسودهما استقطاب كبير بحيث إن أياً منهما لا يستطيع أن يقدم تسوية تفاوضية مستدامة للصراع. ورغم أن إسرائيل يمكن أن تدّعي تحقيقها نجاحاً باهراً في استعمارها للضفة الغربية، فعاجلاً أم آجلاً سيترتب عليها مواجهة واقع التغيرات الديموغرافية التي تتحدى أساسات الدولة اليهودية بحد ذاتها. داخل الشرق الأوسط الأوسع، فإن حقيقة أن الأطراف الضالعة في أكثر صراعات المنطقة حساسية – أي إسرائيل وأعداءها – لا يتحدثون إلى بعضهم بعضاً، يزيد من مخاطر اندلاع اضطرابات في لبنان أو سورية، إن لم يكن في إيران.

كما أن الاعتراف الأميركي بالسيادة المغربية على منطقة الصحراء الغربية المتنازع عليها – وهو هدية ترامب إلى المملكة مقابل موافقتها على تطبيع علاقاتها مع إسرائيل – لا يفعل الكثير لتسوية هذا الصراع الذي يعد جزءاً من صراعات ما بعد الاستعمار، المستمر منذ نحو نصف قرن، بل إنه قد يجعل التوصل إلى حل تفاوضي سلمي أمراً أكثر صعوبة مع تمترس كل طرف في مواقعه.

المشي على رؤوس الأصابع حول برميل البارود

ربما يكون الأمر الأكثر أهمية هو ما يبدو من أن موجة التطبيع في الشرق الأوسط من غير المرجح أن تساعد سكان المنطقة أنفسهم الذين يعانون. إذ إن أعمق الأسباب الدافعة للصراع لا علاقة كبيرة له بدبلوماسية النخبة، وله كل العلاقة بكيفية إدارة الدول منفردة لاقتصاداتها وكيفية حكمها لمجتمعاتها. في المحصلة، فقد كان انتهاك الكرامة والغضب الشعبي حيال النخب الحاكمة – محسوبيتها وعدم قدرتها على تقديم الخدمات الأساسية بشكل يمكن الركون إليه أو، وسط شد الأحزمة على البطون، توزيع الدعم على أولئك الذين يحتاجونه أكثر من غيرهم – هي التي أخرجت الناس إلى الشوارع خلال ثورات عام 2011 وأنتجت صرخة مشتركة تطالب بتحقيق العدالة الاجتماعية. بعض البلدان التي تمكنت من تفادي الاضطرابات في عام 2021 – الجزائر، ولبنان، والعراق، والسودان – مرت بتجربة مماثلة بعد ذلك بثماني سنوات، وشهدت إيران موجة خاصة بها العام الماضي.

الأنظمة التي تمكنت من تجاوز عاصفة الغضب الشعبي – مصر، وسورية، والجزائر، وربما تونس أيضاً الآن، ورغم أنها واقعة تحت حكم قيادة استبدادية مختلفة – أعادت تشكيل أنفسها كدول “شرسة“؛ أي أنها ضعيفة داخلياً لكنها توجه الحد الأقصى من الموارد إلى ضبط شعوبها من خلال الأعمال الشرطية وتعزيز المراقبة والضوابط الاجتماعية. دول الخليج العربية التي قادت الثورة المضادة بعد عام 2011 – وحرضت على انقلاب عام 2013 ضد مرسي في مصر بيّنت الطريق – بمساعدة التكنولوجيا الإسرائيلية. وقد أظهرت العقود الماضية أن الدول المفرطة في قمعها تظهر قدرتها على البقاء لبعض الوقت، إلا أن عدم قدرتها المتنامية على التكيف مع الضغوط الاجتماعية والاقتصادية المتراكمة تصل إلى نهايتها في المحصلة.

تقارير التنمية البشرية العربية الصادرة عن الأمم المتحدة التي تقدم تبصرات ثاقبة من السنوات الأولى في هذا القرن حذرت من أن نظام الدولة العربية المتأخر في مجال التنمية البشرية مع جميع مشكلاته الاجتماعية والاقتصادية الأخرى أمر غير مستدام – وتنبأت بالانتفاضات بعد عدة سنوات. لكن اليوم باتت التحديات أسوأ. إذ إن الشرق الأوسط يواجه حالياً نُدوب الحرب، وجائحة كوفيد–19، ونمو سكاني سريع، وبطالة شباب واسعة الانتشار، وموجة تحضُّر غير منضبطة، ناهيك عن التغير المناخي والانتقال الناشئ إلى الطاقة النظيفة. ما من دولة في المنطقة قادرة الآن على مواجهة هذه القضايا بجدية.

من المبشّر أنه على أعلى مستويات الحكومة، يبدو أن جزءاً كبيراً من الشرق الأوسط يختار تدبر أمره والتكيّف. لكن الكأس نصف ملآن فقط. من السهل جداً تخيُّل حدث من قبيل ضربة حوثية واحدة بطائرة مسيرة لمركز تسوق في أبو ظبي، أو رجل لبناني يتسلق السياج الحدودي مع إسرائيل ويهاجم حافلة، أو قوات الأمن الإسرائيلية تقتل شباب فلسطينيين داخل المسجد الأقصى في القدس وإشعال العالم الإسلامي بأسره، أو تأخر مصر عن الوفاء بديونها وما يتطلبه ذلك من تقليص الدعم للخبز والطعام – حدث يمكن أن يقوض بسرعة ما يشبه الاستقرار الإقليمي حالياً. وحتى لو لم يخرج الناس مرة أخرى إلى الشوارع بأعداد كبيرة، فإن الضغوط الشعبية من أجل تحسين الحوكمة ستستمر في التفاعل. وهذا قد يدفع الأنظمة الاستبدادية إلى تقدير أن تنظيم بيوتها الداخلية قد يسمح لها بمواجهة التحديات الأصعب التي يستمر اللانظام العالمي في رميها عليها. والسؤال هو: هل ستغتنم الفرصة؟

* المصدر الأصلي للمقال: مجلة فورين بوليسي
https://www.crisisgroup.org/

اضف تعليق