q

كما هو منهج آبائه وأجداده، وصولاً على رسول الله، صلى الله عليه وآله، الاقتراب من المجتمع، وسماع همومه و شكواه، ومتابعة مداركه ومراقبة طريقة حياته، ومن ثم رفع مستواه الى المراتب الحضارية، كانت من أولى المهام القيادية للإمام علي بن موسى الرضا، عليه السلام، الذي نعيش هذه الايام الذكرى العطرة لولادته في الحادي عشر من شهر ذي القعدة الحرام.

خلف أبيه الامام الكاظم، عليه السلام، في إمامة المسلمين، وهو في المدينة المنورة، بينما قضى أباه ردحاً من الزمن في سجون هارون الرشيد ببغداد، وقضى في إحدى طواميرها مسموماً شهيدا، ثم حصل تطورات سياسية غير محمودة في الدولة الاسلامية بسبب شدة النزاع بين افراد البيت العباسي على السلطة، حتى آل أمرهم لأن يقتل الأخ أخاه، ونقل مقر "الخلافة" لأول مرة من بلاد عربية الى بلاد فارس، وهي خراسان.

أما الإمام الرضا، عليه السلام، فان كل هذه التحولات السياسية العنيفة والكبيرة، لم تغير من نهجه وسيرته مطلقاً، الامر الذي حيّر المأمون العباسي الذي سعى لاستقطابه بكل الوسائل ومنها عرض الخلافة ثم ولاية العهد، ظناً منه بأنه يجمّل وجهه أمام الامة، على أنه البديل الافضل بين بين العباس في الحكم، وأنه ينبذ الاضطهاد والتنكيل وخلق العداواة، والأهم من هذا؛ امتصاص نقمة المعارضين، وفي مقدمتهم الشيعة الإمامية وإسكات صوتهم، ولكن؛ حصل العكس تماماً، تشوهت صورته بالكامل أمام الامة وايضاً داخل البيت العباسي، بينما تألقت شخصية الإمام الرضا، عليه السلام، بين افراد الأمة، وحتى بين ابناء الديانات الاخرى، بل وحتى بين الجاحدين وأهل الجدل والزندقة.

كل هذا لم يكن لولا تجسيد الإمام لصفات اخلاقية حميدة في سلوكه اليومي وتعامله مع الناس، سواءً في المدينة المنورة، أم بعد ترحيله قسراً الى خراسان، فكان مثال المهندس العبقري للبناء الاخلاقي – إن جاز التعبير- في كيان الامة، لمواجهة الضربات الشديدة التي كان يوجهها الحكام العباسيون باستخفافهم بالقيم الاخلاقية والانسانية، واستخفافهم بمصائر الناس والاستئثار بالمال العام ونثره على المطربين والطبالين والغانيات والموائد العامرة.

ولذا كان الامام الرضا، عليه السلام، يكثر من مجالسة ابناء الشريحة الفقيرة والمستضعفة، وقد كثرت الروايات بهذا الشأن، فقد نقل عنه كثرته لصدقة السر والتخفّي عن السائل لدى تسليمه ما يريد من المال، أو مجالسة الفقراء على المائدة، ونقل في المصادر أنه اذا "خلا جمع حشمه كلهم عنده، الصغير والكبير، فيحدثهم ويأنس بهم ويؤنسهم، واذا جلس على المائدة، لايدع صغيراً ولا كبيراً حتى السائس إلا اقعده معه على مائدته".

ولعل حادثة الحمام تكون دليل آخر على حرص الامام الرضا، على تكريس الثقافة الاخلاقية في صفوف المجتمع ونبذ التمييز، مهما كانت المراتب والمنازل، فهو، عليه السلام، كان داخلاً ليستحمّ كأي شخص آخر، فبادره شخص في الحمام وطلب منه مساعدته بتدليكه، فاستجاب له الامام فوراً، وكان شخصاً قريباً منهما يعرف الامام، فأسرع بزجر ذلك الشخص، وهو يعرفه بشخصية الإمام الرضا، بيد انه، عليه السلام، أبى إلا أن يتم العمل الذي طلب منه ذلك الشخص، غير آبه بالاعتذار والتوسل وغير ذلك.

والتفاتة أدبية – اخلاقية اخرى يقدمها الامام لنا، فيما يتعلق باحترام المائدة وتفضيلها على ما سواها، كونها تمثل نعمة نازلة من السماء، فقد ورد أنه، عليه السلام، أوصى اصحابه بأن "إن قمت على رؤوسكم وأنتم تأكلون فلا تقوموا حتى تفرغوا"، لتكون هذه الوصية درساً لنا وللاجيال في مسألة غاية بالاهمية؛ وهي تفاضل القيم، وتقديم النعمة الالهية على الانسان العبد، وحتى وإن كان من أولياء الله، مثل إمام معصوم، فضلاً عما اذا كان انساناً عادياً، يحمل مرتبة من العلم او الجاه الاجتماعي او الثراء المادي.

وفي حركته التصحيحية هذه، يشمل الامام الرضا، عليه السلام، برعايته، الشعراء والادباء للسبب ذاته، من جملة اسباب ذات ابعاد انسانية واخلاقية، فقد عُرف العصر العباسي بتوظيفه الشعر والادب والموسيقى وسائر الفنون ليكون في خدمة الحاكمين وتكريس سلطتهم، من خلال تسطيح الوعي وتغييب الحقائق عن الاذهان وشغلها باللهو والطرب بعيداً عن هموم الأمة والمجتمع.

فهذا الشاعر العباسي المعروف؛ أبو نؤاس، الذي طالما أصر الكتاب والمؤرخون على هويته الماجنة وأدبه المائع الى درجة الاباحية، يصادف هذا الشاعر الامام الرضا، عليه السلام، وهو خارج من عند المأمون وهو على بغلته، فاستوقفه وسلّم عليه وقال: يا ابن رسول الله، قد قلت فيك أبياتاً وأحب ان تسمعها منّي، فقال، عليه السلام: هات، فأنشد:

مطهرون نقيات ثيابهم

تجري الصلاة عليهم أينما ذكروا

 

من لم يكن علويا حين تنسبه

فما لـه في قديم الدهر مفتخر

 

(فالله لما برأ خلقا فأتقنه

صفاكم واصطفاكم أيها البشر)

 

فأنتم الملأ الأعلى وعندكم

علم الكتاب وما جاءت به السور

 

فقال له الامام، عليه السلام، قد جئتنا بأبيات ما سبقك إليها أحد... يا غلام هل معك من نفقتنا شيء؟ فأجاب: نعم؛ ثلاثمائة دينار، فقال: اعطها إياه، ثم قال للغلام، سُق البلغة اليه".

فماذا نفهم من هذه السيرة وهذا السلوك؟

انه اشارة واضحة الى ان الامام الرضا، عليه السلام، - كما هو منهج سائر الأئمة المعصومين- لن يرتفع درجة في الكمال المعنوي والقرب من الله – تعالى- حتى يقترب بمثلها الى المجتمع بكل شرائحه، واذا كان هذا الخطاب موجه لعامة الامة، فانه سيكون خاصّاً لمن يدّعون القرب الى الأئمة، عليهم السلام، مثل العلماء والخطباء والباحثين ووجهاء المجتمع ممن يعدون انفسهم في مرتبة أعلى، ينبغي أن تصطف بين ايديهم الصفوف ويتلقون بالترحيب والتعظيم.

إن الامام الرضا، عليه السلام، يأنس في الوقت الحاضر، كما كان كذلك في حياته، مع من يجتمع بالقرب من مرقده الشريف او عبر المسافات البعيدة، ممن يماثله في الاخلاق وحسن السيرة والسلوك، فهذا هو الذي يُحيي شخصيته في النفوس فيشعر الانسان الشيعي والموالي بنشوة الكرامة والعزّ تغمره، فيفخر بانتمائه الى درجة تمكنه من التطلّع بايجابية الى حاضره ومستقبله.

اضف تعليق