q
كان العراق قلب الدولة الاسلامية النابض وقد بز سائر الامصار في ميادين السياسة والاقتصاد والاجتماع، وقد تهافت عليه جميع الثائرين ليتخذوه منطلقا لأهدافهم السياسية... ان الكوفة كانت البلد الوحيد في الأقطار الاسلامية التي تفقه قيم الاحداث ومغزى التيارات السياسية فقد ساد فيها الوعي الاجتماعي إلى حد كبير...

واختار الامام الحسين (ع) الهجرة إلى العراق دون غيره من اقاليم العالم الاسلامي، وهو على علم بما مني به أهل العراق من التذبذب والاضطراب في سلوكهم، ولعل سبب اختياره له دون غيره يعود لما يلي.

أولا ـ ان العراق في ذلك العصر كان قلب الدولة الاسلامية وموطن المال والرجال، وقد انشأت فيه الكوفة حامية الجيوش الاسلامية وقد لعبت دورا خطيرا في حركة الفتح الاسلامي، فقد شاركت في فتح رامهرمز والسوس وتستر ونهاوند، وكان عمر بن الخطاب يستنجد بها، فقد كتب إلى وإليه سعد بن أبي وقاص: «ان ابعث إلى الأهواز بعثا كثيفا مع النعمان بن مقرن» وكثيرا ما تمر في أخبار الفتوح الاسلامية هذه العبارة «وأمدهم عمر بأهل الكوفة» وكان عمر يثني عليهم ويقول:

«جزى اللّه أهل الكوفة خيرا يكفون حوزتهم، ويمدون أهل الامصار» وقال فيهم رجل من أهل الشام: «انكم كنز الاسلام ان استمدكم أهل البصرة أمددتموهم، وان استمدكم اهل الشام امددتموهم» (1).

ومضافا إلى ان العراق كان قاعدة حربية فانه قد اشتهر منذ القدم بتراثه «فهو قلب الأرض، وخزانة الملك الأعظم، وما قد خص اللّه جل وعلا به أهل الكوفة من عمل الوشي والخز، وغير ذلك من انواع الفواكه والتمور» (2) وكان الأمويون قد اتخذوه موردا مهما لبيت المال في دمشق (3) وقد بلغت جباية معاوية للكوفة وسوادها خمسين الف الف درهم (4) وبلغ خراج البطائح (5) خمسة آلاف الف درهم (6).

لقد كان العراق قلب الدولة الاسلامية النابض وقد بز سائر الامصار في ميادين السياسة والاقتصاد والاجتماع، وقد تهافت عليه جميع الثائرين (7) ليتخذوه منطلقا لأهدافهم السياسية... ان الكوفة كانت البلد الوحيد في الأقطار الاسلامية التي تفقه قيم الاحداث ومغزى التيارات السياسية فقد ساد فيها الوعي الاجتماعي إلى حد كبير وقد كان الكوفيون يفرضون آرائهم على حكامهم، وإذا لم يحققوا رغباتهم سلوا في وجوههم السيوف وثاروا عليهم.

وعلى أي حال فقد اختار الامام الهجرة إلى الكوفة باعتبارها مركز القوة في العالم الاسلامي، يقول عبد المتعال الصعيدي:

«ولم يخطئ الامام الحسين حينما ازمع على الهجرة إلى العراق لأنه المركز الصالح لقيام حكم عام يجمع أمر المسلمين، ولهذا اختاره من قبله وقد حققت الأيام للعراق هذا الحكم فقامت به الدولة العباسية التي حكمت المسلمين نحو خمسمائة سنة» (8).

ثانيا ـ ان الكوفة كانت مهدا للشيعة وموطنا من مواطن العلويين وقد اعلنت اخلاصها لأهل البيت في كثير من المواقف، فقد اندفعت جموع الثائرين تحت قيادة مالك الاشتر النخعي أحد اعلام الشيعة، إلى يثرب فحاصروا عثمان واجهزوا عليه، وقاموا بترشيح الامام للخلافة، وقد غرست بذرة التشيع في الكوفة منذ خلافة عمر، فقد كان من ولاتها عمار بن ياسر وعبد اللّه بن مسعود، فأخذا يشيعان في اوساطها مآثر الامام وفضائله، وما أثر عن النبي (ص) في حقه حتى تغدوا على حبه والولاء له، وقد خاض الكوفيون حرب الجمل وصفين مع الامام وكانوا يقولون له: سر بنا يا أمير المؤمنين حيث أحببت فنحن حزبك وانصارك نعادي من عاداك «ونشايع من أناب إليك واطاعك» (9) وكان الامام أمير المؤمنين يثني عليهم ثناء عاطرا فيرى أنهم أنصاره وأعوانه المخلصون له يقول لهم: «يا أهل الكوفة أنتم اخواني وأنصاري وأعواني على الحق ومجيبي إلى جهاد المحلين، بكم أضرب المدبر، وارجو اتمام طاعة المقبل» (10) ويقول (ع): «الكوفة كنز الايمان، وجمجمة الاسلام، وسيف اللّه ورمحه يضعه حيث يشاء» (11).

وقد خاض العراق أعنف المعارك وأشدها ضراوة من أجل أهل البيت فانتقم من قتلتهم وأخذ بثأرهم على يد الثائر العظيم المختار بن أبي عبيدة الثقفي، لقد كان اختيار للامام للهجرة إلى الكوفة ناشئا عما عرف به أهل هذه المدينة من الولاء العميق لأهل البيت.

ثالثا ـ ان الكوفة كانت المقر الرئيسي لمعارضة الحكم الأموي، فقد كان الكوفيون طوال فترة حكم الأمويين لم يكفوا عن معارضتهم، ويتمنون زوال دولتهم، ويعزو فلهوزن سبب بغض الكوفيون للأمويين إلى أن الخلافة قد انتقلت من الكوفة إلى دمشق، وانهم ـ بعد أن كانوا أصحاب الدولة ـ أصبحت مدينتهم مجرد ولاية في الدولة الجديدة وان دخلهم من خراج الأرض التي فتحوها قد فقدوه، ولم يعد أمامهم إلا أن يقنعوا بالفتات الذي يتساقط عليهم من موائد سادتهم الأمويين، ولكنهم ـ مع الأسف ـ لم يشعروا بهذه المرارة إلا بعد فوات الأوان، ومن هنا لم يكن من الغريب أن يروا في حكم أهل الشام نيرا ثقيلا على رقابهم يتربصون به الفرصة الملائمة ليتخلصوا منه، ويلقوه بعيدا عنهم».

ومما زاد في نقمة الكوفيين على الأمويين أن معاوية ولى عليهم شذاذ الآفاق كالمغيرة بن شعبة وزياد بن أبيه فأشاعوا فيهم الظلم والجور، واخرجوهم من الدعة والاستقرار، وبالغوا في حرمانهم الاقتصادي، واتبعوا فيهم سياسة التجويع والحرمان... وظلت الكوفة مركزا للمؤامرات على حكم الأمويين، ولم يثنهم عن ذلك ما عانوه من التعذيب والقتل والبطش على أيدي الولاة.

لقد كانت هجرة الامام إلى الكوفة واختيارها مقرا للثورة باعتبارها البلد الوحيد المعادي للأمويين، وقد وصل الحماس فيها ضد الأمويين ذروته بعد هلاك معاوية.

رابعا ـ ان الامام الحسين انما اختار الهجرة للعراق للدعوات الملحة والاصرار البالغ من الأغلبية الساحقة من أهل الكوفة للقدوم حتى في زمن معاوية، فقد توافدت عليه كتبهم، وهي تحثه على المسير إليهم، وتحمله المسئولية أمام اللّه والأمة إن تأخر عن اجابتهم لا سيما بعد أن كتب إليه سفيره مسلم بن عقيل يخبره باجتماع الناس على بيعته وتطلعهم إلى قدومه ويحثه على السفر إليهم فلم ير (ع) بدا من اجابتهم يقول الدكتور محمد حلمي: «انه لم يخرج الحسين من الحجاز في اتجاه الكوفة استجابة للدعوات التي وصلته من أهلها طالبة إليه القدوم عليهم ليتزعم ثورتهم على خلافة يزيد... لم يخرج الحسين إلا بعد أن اختبر استعداد الكوفيين للقيام بهذه الثورة وذلك بارسال ممثل له، ليتعرف على مدى هذا الاستعداد وذهب مسلم بن عقيل بن أبي طالب في هذه المهمة، ونجح في فترة قصيرة في قيادة اثني عشر الفا في ثورة عارمة بايعت الحسين، ونزعت بيعة يزيد، وكتب مسلم بهذا إلى الحسين الذي قرر الخروج لقيادة الحركة بنفسه، وبهذا لم يكن الحسين متسرعا في خروجه، ولا مندفعا، فقد أتته الكتاب، وأراد أن يطمئن على مدى جديتها، فاطمأن بخروج هؤلاء الآلاف في الفترة القصيرة التي نشط فيها ممثله» (12).

خامسا ـ ان الامام الحسين لو نزح إلى قطر آخر غير الكوفة فان الجيش الأموي لا بد أن يلاحقه، ولا بد أن يستشهد فيتجه له اللوم والتقريع ويقال له: لما ذا لم تتجه إلى العراق البلد الذي يضم أنصارك وشيعتك، وقد بعث إليك أهله آلاف الرسائل تحثك على القدوم إليهم، فما ذا يكون حينئذ جوابه لو سار إلى قطر آخر ولاحقته جيوش الأمويين؟

هذه بعض الأسباب التي حفزت الامام إلى الاختيار الهجرة إلى الكوفة ليجعلها مقرا لثورته.

الاعراض عن الحجاز:

بقي هنا شيء وهو ان الامام لما ذا لم يبق بالحجاز ويتخذه منطلقا للثورة، ولعل السبب في رفضه لذلك يعود إلى ما يلي:

أ ـ ان البيئة الحجازية كانت تتصف بقلة الموارد الاقتصادية فقد اشاع معاوية فيها الفقر والبؤس، ومن الطبيعي أن الثورة تحتاج إلى دعم مالي كبير، ومع انعدام المال في الحجاز كيف يفجر الامام ثورته فيه.

ب ـ انعدام الوعي السياسي في الحجاز فقد انصرفت الأكثرية الساحقة فيه عن الشؤون السياسية في حين أن العراق كان مشعل الوعي السياسي في البلاد العربية.

ج ـ ان الحجاز كان لا يصلح لأن يكون مركزا للثورة فقد أصبح مهددا بالغزو من الجيوش الأموية، فقد بعث يزيد بجيش مكثف لقتال ابن الزبير بقيادة أخيه عمرو بن الزبير.

د ـ ان الحجاز لم تكن فيه حامية عسكرية حتى يلجأ إليها الامام لتقوم بالذب والدفاع عنه.

5 ـ ان الأغلبية الساحقة في الحجاز كانت تحقد على أهل البيت عليهم السلام، وكانت ميولها مع بني أمية، يقول أبو جعفر الاسكافي.

«أما أهل مكة فكلهم كانوا يبغضون عليا، وكانت قريش كلها على خلافه، وكان الجمهور مع بني أمية» (13) ويقول الامام علي بن الحسين (ع): «ما بمكة والمدينة عشرون رجلا يحبنا» (14) ومع شيوع الكراهية في الحجاز لأهل البيت (ع) كيف يتخذه الامام مقرا له؟.. لقد نزح الامام من الحجاز بمرأى ومسمع من جميع الحجازيين فلم يخفوا معه، ولم يتبعه أحد منهم سوى أهل بيته، للقيام بنصرته والذب عنه.

الاعراض عن مصر:

وأعرض الامام عن مصر، ولم يراسل أحدا منهم، وذلك لأن أهلها كانوا طيلة عهد الخلفاء وطيلة الحكم الأموي ميالين إلى الدعة والسلام، والبعد عن التيارات السياسية على أنه لم ترد منهم أية رسالة للإمام يدعونه فيها للقدوم إليهم، فكيف يهاجر إليهم الامام، ومضافا إلى ذلك فان في مصر نزعة عثمانية، وقد كان وإليه عمرو بن العاص، فأشاع فيها البغض والكراهية لأهل البيت (ع) وغرس فيها الولاء لبني أمية، فكيف يقصدها الامام.

الاعراض عن اليمن:

وأشار ابن الحنفية وغيره على الامام أن يهاجر إلى اليمن لأن فيها شيعة له ولأبيه، ولم يستجب الامام إلى هذا الرأي، وفيما نحسب أن أسباب اعراضه عنه تعود إلى ما يلي:

1 ـ انه لم تكن في اليمن حامية عسكرية حتى تتمكن على حمايته والذب عنه إذا داهمته جيوش بني أمية، فقد كان اليمانيون عزلا من السلاح والعتاد، ولا قابلية لهم على الخوض في عمليات الحروب.

2 ـ ان جماهير اليمن لم تقم بحماية بلادهم حينما دهمتهم جيوش معاوية بقيادة الباغي بسر بن أبي ارطاة فأشاع فيهم القتل، وسبى نساءهم وباعها في الاسواق فمن كانت أعظم ساقا يبعث بثمن أكثر، ولم يثأروا للدفاع عن اعراضهم، وانما استسلموا للعدوان الأموي الذي أصاب من دمائهم وأموالهم حسب ما شاء ومع هذا الحال كيف يهاجر الامام إليها؟

3 ـ ان اليمن قد منيت بالفقر والبؤس فكانت الحياة الاقتصادية فيها مشلولة، ولا قدرة لأهلها على مد الثورة بما تحتاج إليه من المال والسلاح، وقد نزح الكثيرون منها إلى الكوفة طلبا للرزق والرفاهية.

4 ـ ان الامام لو ذهب إلى اليمن لما تركه يزيد وأرسل إليه جيوشه لمناجزته وتسفك بذلك الدماء، ويتهم الامام بإثارة الفتنة وشق عصا الطاعة وتضيع بذلك عدالة قضيته حسب ما يقول الدكتور أحمد محمود صبحي (15) وبما ذكرناه من هذا التحقيق يتضح وهن ما ذهب إليه الدكتور على حسين الخربوطلي من تخطأة الامام على عدم ذهابه لليمن وتخليه عن الحجاز لأن بهما أنصاره الحقيقيين وشيعة أبيه المخلصين، وان اليمن كانت تمتاز ببعدها عن مركز الخلافة، ومناعة حصونها وكثرة شعابها (16) وهذا الرأي لا يحمل أي طابع من التحقيق فان الامام لم يكن عنده أنصار حقيقيون في الحجاز، ولو كانوا لخفوا معه حينما أعلن الذهاب إلى العراق، وما تركوه وحده فريسة بيد الطاغية ابن مرجانة، وأما اليمن فقد ذكرنا أنها غير صالحة استراتيجيا لأن يتخذها الامام مقرا لثورته.

الاعراض عن فارس:

وأعرض الامام عن فارس لأنه لم يكن له فيها أي رصيد، ولم تتبلور فيها الدعوة لأهل البيت (ع) وانما كانت مركزا لدعوة العلويين بعد ردح من الزمن حينما نزحت إليها المجموعة الكبيرة من الشيعة التي نفاها زياد إليها فقد أخذت تعمل على نشر التشيع هناك، وقد استغل دعاة بني العباس تلك الثمرة التي أوجدتها دعاة الشيعة في فارس فاتخذوها مقرا لهم، ومنها انطلقت الثورة على بني أمية فأطاحت بعرشهم، وسلطانهم.

الاعراض عن البصرة:

وأعرض الامام عن البصرة لأنها كانت عثمانية الهوى، وكان الكثيرون من أبنائها شيعة للزبير وطلحة، يقول أبو جعفر الاسكافي: «كان أهل البصرة كلهم يبغضون عليا» (17) وسبب ذلك حرب الجمل التي حصدت رءوس الكثيرين من أبنائها فاترعت نفوسهم بالكراهية للإمام وأبنائه نعم فيها بعض الشيعة وقد كاتبهم الامام عند ما أراد التوجه إلى الكوفة.

وعلى أي حال فان الكوفة كانت أصلح مركز لإعلان الثورة على الأمويين فقد تزعمت هذه المدينة الثائرة الحركة المعارضة لبني أمية، كما كانت أهم موقع استراتيجي في العالم الاسلامي، وقد تهيأت تهيأ تاما بعد هلاك معاوية لدعوة الامام كما كانت الوطن الأم لشيعته، فقد كانت قلوب أهلها تفيض بالحب والولاء له.

لقد كان اختيار الامام (ع) الهجرة إلى الكوفة دون غيرها مبنيا على دراسته الوثيقة لواقع الأقطار الاسلامية واحاطته باتجاهات المواطنين فيها سواء في الميادين السياسية أو العقائدية، ومدى قدرتهم الاقتصادية والعسكرية، فقد خبر الامام كل ذلك ووقف عليه، فلم ير هناك قطرا تتوفر فيه الاستراتيجية الكاملة لحماية الثورة وضمان نجاحها سوى الكوفة التي كانت تضم القوى المؤيدة له، والمنحرفة عن الحكم الأموي، فكان الاتجاه إليها ضرورة ملحة لا غنى له عنها.

* مقتبس من كتاب حياة الامام الحسين، دراسة وتحليل، لمؤلفه الشيخ باقر شريف القرشي

....................................
(1) الطبقات الكبرى 6 / 85
(2) مختصر كتاب البلدان (ص 52) للهمداني
(3) فتوح البلدان (ص 293)
(4) اليعقوبي 2 / 258
(5) البطائح: أرض واسعة تقع ما بين واسط والبصرة، كانت قرى متصلة وارضا واسعة معجم البلدان 1 / 666.
(6) الخراج وصنعة الكتابة (ص 240) لقدامة بن جعفر
(7) العراق في ظل الحكم الأموي (ص 9)
(8) مجلة الغري السنة التاسعة العدد 11 ـ 14 ص 108
(9) الامامة والسياسة 1 / 231
(10) الامامة والسياسة 1 / 230
(11) مختصر البلدان لابن الفقيه (ص 163)
(12) الخلافة والدولة في العصر الأموي (ص 115 ـ 116)
(13) شرح النهج 4 / 103
(14) شرح النهج 4 / 104
(15) نظرية الامامة لدى الشيعة الاثنى عشرية (ص 343)
(16) تأريخ العراق في ظل الحكم الأموي (ص 121) وذهب لذلك الصولي في كتابه الدولة الأموية في الشام (ص 53).
(17) شرح النهج 4 / 103

اضف تعليق