q
إن كان هنالك اليوم غياب للتوعية الفكرية في قصائد النهضة الحسينية فإنَّ المشكلة ليست فقط في نوع القصائد أو الخطاب؛ بقدر ما هو ضعف في تشخيص الأزمة وفهمها، ثم تقديم ما يناسبها من خطاب بأسلوب يتناسب وهذا العصر ومستجداته. يمكن ملاحظة أن الأزمة الفكرية الراهنة تتجه نحو الانفتاح...

لماذا تغيب في بعض القصائد التوعية الفكرية المتناسبة مع خطاب النهضة الحسينية؟

وكيف يمكن ان تساهم القصيدة الحسينية في إحداث التغيير الاجتماعي؟

هنالك بعدان أساسيان لهذه المسألة: الأول: رسالة الخطاب وما يحمله من فكر سواء كان قصيدة أو نثرا. والآخر: الشعر وتطوره.

فيما يرتبط بالبعد الأول وهو رسالة الخطاب أو فحواه؛ لو ألقينا نظرة على القصائد الحسينية التي أُنشدت خلال ألف وأربعمائة عام منذ فاجعة الطف؛ فإننا سنراها تتناسب تماما مع الفترات والعهود التي مرت عليها المجتمعات من نشر وعي ويقظة فكرية. فحينما كان العهد عهد الكفاح في سبيل نيل الحرية ومقاومة الظلم؛ كانت القصائد في هذا الطريق.

وحينما كانت حقوق الإنسان مهدورة فإن الصبغة الشعرية كانت في سبيل المطالبة بها. وحينما كان هم الأفراد في طلب حقوقهم كان الاتجاه الشعري يسير في هذا المنحى. وحينما كان الاستبداد الايديولوجي هو الحاكم باختلاف أبعاده كان ديدن الشعراء يتجه لمقاومة ذلك النمط من الاستبداد مهما كان نوعه. وكانت القصيدة الحسينية تجد طريقها وتقوم بتحديث مسلكها حين تتجدد الابتلاءات الاجتماعية أو السياسية أو الفكرية، بكل انسيابية ومرونة دون أي تكلف أو تصنع.

من هنا وبناء على هذا الأساس؛ إن كان هنالك اليوم غياب للتوعية الفكرية في قصائد النهضة الحسينية فإنَّ المشكلة ليست فقط في نوع القصائد أو الخطاب؛ بقدر ما هو ضعف في تشخيص الأزمة وفهمها، ثم تقديم ما يناسبها من خطاب بأسلوب يتناسب وهذا العصر ومستجداته.

ومن خلال تتبع ميداني يمكن ملاحظة أن الأزمة الفكرية الراهنة تتجه نحو الانفتاح اللا واعي الذي يتجه نحو نوع من الردة والإلحاد أو اللادينية والذي يمكن أن يكون أحد أسبابه التصرفات الصادرة عن الجهات المحسوبة على الدين.

من هنا فإن الخطاب أو القصيدة الحسينية لو لامسا الوتر الفطري والإنساني فإنهما سيكونان قادرين على إحداث التغيير الذاتي ثم الاجتماعي، وذلك عبر تذكير المخاطبين بأن النهضة الحسينية قبل أن تكون ذات صبغة دينية فإنها مستقرة في ضمير الوجدان البشري والفطرة الإنسانية. كيف لا؟ والكثير من المفردات التي يتداولها المجتمع هي مفردات ذات أصل حسيني قد تجذرت في اللا وعي الجمعي حتى عند الملحدين الذين يستخدمون تلك المفردات في سبيل محاربة الدين.

أما فيما يرتبط بالبعد الثاني: الشعر وتطوره خلال مختلف العصور؛ فبعد ألف وأربعمائة عام ومع التطور التكنولوجي وانفتاح الاتصالات وتطور التقنيات الثقافية والإعلاميّة كان لابد للخطاب الحسيني -سواء شعرا أو نثرا- أن يواكب تطور هذه التقنيات والوسائل، ومع أنه سعى نحو ذلك بإقامة الندوات والمؤتمرات مثلا أو إنتاج المقاطع أو ما يسمى بالكليبات والبرامج، لكنه لم ينجح بشكل كاف من حيث نشر الفكر والوعي، ويعود ذلك لطبيعة التقدم وما خلفه على قريحة الشعر والشعراء عبر قرون من السنين المتعاقبة وهو واقع ملموس اليوم، فالعرب سابقا كانت تلقي الشعر بالفطرة وغالبا ارتجالا وكانوا يفرقون بين الحر والعبد بجودة الشعر إذ كان العبيد عادة يرجزون والرجز من أبسط الأبحر الشعرية من (المجتلب).

أما اليوم فالشعر يبكي شُعراه ويدوّن فيهم بدوره دوواين الرثاء إذ نراه يحتضر في مهد البلاد العربية التي نما وترعرع فيها وبلغ ذروته ونزل القرآن متحديا بلاغتهم وفصاحتهم الشعرية والنثرية، فبعد زمن المعلقات وذروة مجده صار الشعراء قلة، بل تطور الشعر من عمودي إلى حديث وخرج عن بحوره وغرق وصار أي شيء يقال يسمى شعرا؛ فإن برز ما يسمى بشاعر فعادة لوجود جماعة حوله ينشرون له ويزعمون أنه شاعر لا أن شعره ينطق فعلا عن قوة قريحته الشعرية؛ فالمصالح والوساطات والمجاملات حاكمة.. فكيف يمكن أن يُستعمل لبثّ فكرة كما يفعل النثر اليوم!

من هنا فإنا نرى ارتفاع صوت الرادود على صوت الخطيب، لا بسبب ما يحمله من رسالة أو فكر في قصيدته وإنما بسبب طريقة العرض والإداء، فكيف يمكن حمل هم غياب الفكر في هذا الجو؟

ولكن مع كل ذلك؛ فإن مجرد الحزن والبكاء والرثاء هو ذاته غرض نفيس لأنه بالأصل رسالة تغوص في أعماق الوجدان فتوقظ الضمير وتنتج الإنسان الذي يسعى نحو التكامل بدون خطاب يطول أو شعر يهز الشعور ويزول.

إن الحزن الذي يصبغ الخطاب الحسيني شعرا كان أو نثرا هو الذي يصنع المعجزات في التغيير ويحفر الأثر العميق في الروح والوجدان فتنبجس بالأخلاق والمكارم والوفاء وما حوته كربلاء من رسائل السماء، فالحزن الحسيني وحده فيه العطاء. ولا ضير من إعادة النعي بشعر الماضين إن ضعفت حقبة من الزمن عن إنتاج المزيد فالتراث الحسيني غور عميق.

وباختصار؛ فإنَّ إشعال جمرة الحزن بأي خطاب شعري أونثري هو الأصل لأنه نوع من إبراز المودة، وهذا على الأقل لم يغب يوما عن الشعر الحسيني حرا كان أو تقليديا أو حديثا..

* مداخلة مقدمة الى الجلسة الحوارية التي عقدها مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث في ملتقى النبأ الاسبوعي تحت عنوان (دور القصيدة الحسينية في بناء المسؤولية الاجتماعية)

اضف تعليق