q
الشعائر الحسينية بمختلف اشكالها هي التي تقود السلوك، وهي التي تصنع الثقافة والفكر، بل وتقوّم العقيدة، وليس العكس، وربما تكون هذه فلسفة الشعائر الحسينية؛ تضخ العِبر والدروس العملية –وليست النظرية- ذات الصلة بواقع الناس، صغيرهم، وكبيرهم، جاهلهم وعالمهم، ومختلف الشرائح والمستويات، لتغذي الجميع، كلٌ حسب قدرته الاستيعابية...

"ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفّة وسداد".

من رسالة أمير المؤمنين، عليه السلام، الى واليه على البصرة، عثمان بن حُنيف

جاءت في سياق التأكيد على المساواة ونبذ الطبقية الاجتماعية في عهده، عليه السلام، و أجدها اليوم تصلح لمعالجة مشاكل نفسية عندما ينجرف الانسان نحو أجواء تجعله يتخذ سلوكاً ومنهجاً يعده صحيحاً او مفيداً –بالمعنى الأدق-، ثم لا يرى تناقضاً في حملها معه أيام مراسيم عاشوراء، وإحياء مصاب الامام الحسين، وحتى أيام أربعينه، عليه السلام.

بيد أن ثمة من تستوقفه هذه الظاهرة (المشكلة النفسية) ليتساءل: كيف ينسجم المأتم الحسيني، واللطم على الصدور، وتسيير المواكب الهاتفة بقيم ومبادئ النهضة الحسينية، ثم الطبخ الوافر من الطعام للزائرين، بل وحتى شجّ الرؤوس بالسيوف صبيحة العاشر من المحرم، مع شخص لا يُصلي –مثلاً- او يمارس أعمال منافية للأخلاق وللدين، فمن المفترض أن يسبق السلوك الولاء للحسين –حسب اعتقاد البعض- بل وسمعت من اصدقاء من شريحة المثقفين؛ أن المفترض من المشارك في إحياء ذكرى الامام الحسين ان يكون على درجة من الثقافة والوعي والتحضّر، لا أن يكون أميّاً –مثلاً- او من القادمين من الأرياف والصحاري –مع بالغ الاحترام لسكان هذه المناطق-، وبمعنى آخر؛ تكون المجالس الحسينية مثل منتديات خاصة بالفكر والثقافة والأدب يحضرها أهلها، أما مراسيم الشعائر الحسينية فهي عروض فلكلورية وطقوس اجتماعية موروثة نجد مثلها في شعوب عديدة بالعالم، تنطلق في وقت معين ثم ينتهي كل شيء ويذهب كلٌ في حال سبيله.

نعم؛ يمكن تفهّم مشاعر المعترضين على هذا التناقض الظاهري عندما يقارنون المراسيم الحسينية بالفرائض الدينية، فالصلاة تحتاج لوضوء وأحكام خاصة يجب الالتزام بها لضمان صحة الصلاة، وكذا الحال بالنسبة للصيام والحج، بيد أن هذه الفرائض لن تتدخل في سلوك الانسان بشكل مباشر، فهي أفعال و أذكار يأتي بها المؤمن والمنافق، كما وجدنا قتلة الامام الحسين عادوا الى الكوفة وأدوا صلاة المغرب والعشاء يوم العاشر من المحرم، و واصلوا حياتهم الطبيعية كمسلمين يصلون ويصومون ويحجون، بل ثمة مسألة في أحكام الصلاة يذكرها العلماء تقول إن من يسافر بقصد ارتكاب المعصية لا يُعد مسافراً ولا تكون صلاته قَصراً، والآية الكريمة تنهى عن الصلاة في حال السكر، بمعنى؛ لو وجد شارب الخمر وهو يُصلي لا ينبغي استنكار صلاته.

أما الامام الحسين، عليه السلام؛ سليل النبوة، فانه تكفّل بنفسه الزكية معالجة هذه المشكلة النفسية التي عانت منها البشرية على مر التاريخ، والقرآن الكريم يذكر تجارب لأنبياء واجهوا مشكلة الكِبر وحب الذات، والجُبن، فمضى بعضهم قتلاً بشكل بشع بسبب تغلّب هذه الصفات النفسية السيئة، والبعض الآخر تعرض للتكذيب والتشريد، وما نزال نشهد آثار هذه الصفات في تزييف النصوص الدينية لدى الاديان والمذاهب، و تحريف الكثير من الاحكام السماوية، فقد قُتل يحيى بن زكريا في الحادثة المشهورة بالتاريخ، وبتلك الصورة الفضيعة، حيث أهدي رأسه الشريف الى بغي من بغايا بني اسرائيل، ولم يهتزّ جفنٌ في بني اسرائيل آنذاك، بينما رأس الامام الحسين تم إرساله أيضاً من دعيّ (ابن زياد) الى طاغية الشام، ولكن الفارق الكبير؛ التموجات العظيمة لهذه التضحية في قلب التاريخ وفي وجدان الامة على مر الاجيال.

فعندما نستشهد بالحديث الشريف بأن "الحسين مصباح هدى وسفينة نجاة"، فان السفينة هنا ليست بالمعنى المجازي والصورة الذهنية بقدر ما هي قافلة تسير على الأرض، وتواصل السير الى يوم القيامة، وهي تكرر نفس النداء الذي أطلقه الامام الحسين في ظهيرة العاشر من المحرم سنة 61للهجرة: "هل من ناصر ينصرنا"، فالنصرة بالابدان كانت آنذاك، وهي اليوم، وكل يوم بالأفعال والسلوك والثقافة.

إن مصداقية الارتباط العضوي بين رسالة الامام الحسين ورسالة السماء في هذه النقطة الجوهرية عندما تكون للناس خيمة تضم جميع اصناف البشر، المؤمن منهم والمنافق، وسليم الطوية والخبيث، والانتهازي والعصامي، ثم تبدأ عملية الغربلة والاختبار ليخرج الناجحون مرفوعي الرأس، ويكونوا مثالاً للقدرة على التغيير والإصلاح، فيما يتدحرج الخاسرون ويطويهم النسيان، و إلا من الذي يجعل مراسيم الشعائر الحسينية تتطور وتتعاظم من حيث الشكل والمضمون، ويزداد المشاركون سنة بعد أخرى، ليس في العراق، بل وفي جميع انحاء العالم لو كان الشرط الصارم امام المشاركين بأن يكونوا ملتزمين بالأخلاق الحميدة، وملتزمين بكافة الفرائض الدينية، ومن ذوي العقول النيرة والثقافة والوعي؟

الشعائر الحسينية بمختلف اشكالها هي التي تقود السلوك، وهي التي تصنع الثقافة والفكر، بل وتقوّم العقيدة، وليس العكس، وربما تكون هذه فلسفة الشعائر الحسينية؛ تضخ العِبر والدروس العملية –وليست النظرية- ذات الصلة بواقع الناس، صغيرهم، وكبيرهم، جاهلهم وعالمهم، ومختلف الشرائح والمستويات، لتغذي الجميع، كلٌ حسب قدرته الاستيعابية، كالشمس الساطعة يستفيد منها أهل العالم كلٌ حسب امكاناته وقدراته.

ومن هذه الفلسفة نفهم التأكيد على إقامة هذه الشعائر، ومنها المجالس الحسينية على مدار السنة في البيوت وفي الحسينيات والجوامع، للرجال وللنساء، لتواكب حركة المجتمع، وتشرف مباشرة على طريقة تفكيره ومنهج حياته، لتترك الأُثر المطلوب، وتجعل من العاصي، صالحاً ملتزماً، ومن الظالم عادلاً ومُحسناً، ولو بدرجات معينة كما أوصانا أمير المؤمنين، عليه السلام.

اضف تعليق