q

إن مفردة اغتراب كما هو معلَن لغوياً مشتقة من كلمة الغربة، وهي تعكس حالة شعورية نفسية تعزل الفرد عن محيطه نتيجة لعدم قدرة الفرد على استيعاب الأوضاع السياسية والاجتماعية والنفسية أو مجاراتها والتعايش معها في حالة تفاعل دائمة، لدرجة أنه يكون غير قادر على قبولها أو حتى مسايرتها بشكل حيادي، فيكون انعكاس تلك الأحداث على تفكيره ورؤيته وسلوكه نازعا أو مائلا الى الشعور بالغربة حتى مع الوسط الذي نشأ وترعرع فيه.

ويعرّف الاغتراب بحسب العلماء المختصين في علم النفس: على أنّه الحالة (السيكو اجتماعيّة) المسيطرة بشكلٍ تام على الفرد، بحيث تحوّله إلى شخصٍ غريبٍ وبعيد عن بعض النواحي الاجتماعيّة في واقعه. وتسيطر فكرة الاغتراب في الوقت الراهن على تاريخ الفكر الاجتماعي والأدب المعاصر، حيث خمّن (ملفن سيمن) أهميّة هذا الأمر للتحليل الاجتماعي عن طريق مقالة تمّ نشرها في المجلّة الأميركيّة لعلم الاجتماع، تحت عنوان (حول معنى الاغتراب)، أما البروفسور (آر. نسبت) فقد تطرّق خلال دراسته الفكر الاجتماعي إلى التركيز على الاغتراب في كتابه (تساؤلات عن المجتمع المحلّي).

ولدينا أيضا عدة أنواع من الاغتراب، منه السياسي الذي سيكون موضوع كلمتنا هذه، ويشير إلى (شعور المواطن الدائم نسبيًا بالانفصال عن أو رفض النظام السياسي السائد، فما هي أسباب هذا النوع من الاغتراب، خصوصا إذا عرفنا بأنه ينقسم بحسب العلماء المختصين إلى فئتين رئيسيتين: العجز السياسي والسخط السياسي. في المثال الأول، يُفرض الاغتراب على الفرد من قِبل بيئته، بينما في الحالة الثانية يتم اختياره طوعًا من قِبل الفرد).

وهناك أربع طرق مختلفة يضعها العلماء المعنيون بهذا المجال، يمكن التعبير من خلالها عن الاغتراب السياسي وهي:

العجز السياسي: وهو شعور الفرد بأنه لا يستطيع التأثير على أفعال الحكومة التي يخضع لحكمها.

انعدام المعنى السياسي: وهو تصور الفرد بأن القرارات السياسية غير واضحة وغير متوقعة وربما غير عادلة أيضا.

انعدام المعايير السياسية: وهو تصور الفرد بأن المعايير أو القواعد التي تهدف إلى تنظيم العلاقات السياسية معطلة وأن الخروج عن السلوك المحدد أمر شائع.

العزلة: وهي رفض الفرد للمعايير والأهداف السياسية التي يحملها ويتشارك فيها على نطاق واسع أعضاء آخرون من المجتمع).

وحين البحث أكثر في الأسباب التي تشترك في إظهار الاغتراب كمعضلة سياسية اجتماعية، فإن المعيار الأكثر إظهار لهذه المشكلة يتمثل بعزوف الناخبين عن ممارسة الحق الانتخابي، وهو تعبير عن رفض الشعب للطبقة السياسية وتأشيرا لفشلها في تحقيق متطلبات الفرد والجماعة معا، فكما يقول أحد المختصين: (إن معيار الحكم على الاغتراب السياسي هو في مدى تمثيل الإرادة الشعبية في الانتخابات أو مشاركة الفرد في صنع القرارات، وكلما زادت حالات التفويض لجهة ما غير الشعب كلما زادت حالات الاغتراب السياسي والذي يلحقه الاجتماعي وكلما كان التمثيل الشعبي واضحاً في القرارات تقل نسبة الاغتراب سواءً بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، أما النتائج الانتخابية الأكثر شيوعًا للاغتراب السياسي هي الامتناع عن التصويت والتصويت الاحتجاجي.

هنا قد يبرز تساؤل عن الجهة التي تقف خلف صناعة الاغتراب السياسي، وهل هناك جهة محددة بالضبط، ومن ثم ما هي أسس وأساليب المعالجات الحاذقة لتقويض أو تخفيف الشعور بالاغتراب، فكما نعرف هنالك طامعين في العراق، منهم في إطار المنطقة الإقليمية، والشرق الأوسط، وثمة دول وقوى كبرى تعاملت مع العراق ولا تزال كأنه كعكة (عالمية) يجب تقاسمها بين اللاعبين الكبار مع ترك حصة للدول الإقليمية، ولو أننا نستذكر تصريحات الرئيس الأمريكي ترامب أبان حملته الانتخابية حول نفط العراق، فإننا سنفهم أطماع الآخرين وأساليبهم، وما يزيد الطين بلّة تعاون بعض الأحزاب والشخصيات السياسية لتسهيل مهمة الدول الكبرى والإقليمية كي تنقضّ على خيرات العراق فيما ينتظر الشعب تعويضه عن عقود الحرمان التي تعاقبت عليه في ظل أنظمة فردية فاشلة.

هذه بعض الأسباب التي ضاعفت من حالات الاغتراب لدى العراقيين، فمن جهة هناك تكالب على ثرواتهم الطبيعية، مع أن الدول المجاورة للعراق تمتلك نفس الثروات كمّاً ونوعا، ولكن لا أحد يضعها ضمن إطار (الكعكات العالمية) التي ينبغي أن يتقاسمها الأقوياء العالميون والإقليميون، فمن ضمن الأسباب التي تجعل من نشر الاغتراب قائما بين العراقيين وانعزالهم عن النشاط أو النظام السياسي، هو التخطيط من الجهات والدول المستفيدة من نشر هذه الظاهرة بين العراقيين لإضعافهم، و وأد الشعور بالمواطنة لديهم، حتى يسهل الانقضاض على ثرواتهم الطبيعية وخيراتهم ومواردهم المتنوعة، بطرق وأساليب شتى يساعد على ترويجها وتنفيذها أذناب في الداخل يحصلون على حصصهم المتَّفق عليها.

فالنتائج في الواقع أشبه بالكوارث الكبرى إن لم تكن أشد وطأة منها، نحن من خلال رصدنا للواقع العراقي، يمكننا أن نلاحظ ضعف الشعور بالمواطنة، وهناك من المواطنين من يكره بلده، وثمة من يصرّح علنا أنه يرغب بالمغادرة وترك البلاد لأنها لم تقدم له حياة جيدة، وهذا يحصل بالضبط، ويتم بفعل فاعل وتخطيط مهني خبروي مدرَّب، ما يستوجب رصده بدقة ومعرفة أسبابه مع وضع الحلول اللازمة.

صحيح هنالك من يتمسك بأرضه من العراقيين ويدافع عنها، ويقدم الدماء والأنفس كي يصونها ويحميها، ولكن هذا لا يمنع من وجود ظاهرة تسميم سياسي مسبق تقودها قوى ودوائر منها خفية وأخرى معلنة، تسعى لنشر حالة الاغتراب بين الأفراد العراقيين لتجعل منهم أكثر استعدادا للسخط ورفض النظام السياسي والعزلة، وهي طرق يعبّر من خلالها الشعب عن رفضه للأخطاء التي يتم ارتكابها بحقه من الأحزاب السياسية، فما هو المطلوب لوضع حد لهذا النوع من الانحدار؟.

يرى الخبراء والمهتمون المتابعون أن ثمة حلولا كثيرة ومناسبة، لإخراج الفرد العراقي من حالة السخط والعزلة والكراهية للساسة، ومن ثم القضاء على حالة الاغتراب التي تعيشها نسبة مهمة من الشعب، تبدأ هذه الحلول بتأمين حياة لائقة للمواطن العراقي بغض النظر عن انتمائه العرقي أو الديني والمناطقي، وهذا يتعلق بالكيفية التي تتم فيها إدارة ثروات وموارد العراقيين والتعاطي بمهنية مع الأطماع الإقليمية والدولية، بالإضافة الى أهمية اقتناع الأحزاب والكتل السياسية والشخصيات الداخلة في العمل السياسي، بأهمية تعزيز الروح الوطنية، والكف عن عمليات الفساد والسلب والإهدار المتواتر للمال العام.

هذه الإجراءات إذا تحوّلت من الحلول النظرية، الى التطبيق، فإنها ستقتلع حالة الاغتراب السياسي التي يعيشها نسبة من العراقيين، وينبت شعور آخر يبدأ بتنمية المواطنة والحرص على البلاد واحترام بنود العيش، وتأدية الواجبات والضرائب، والشروع بالثقة بالنظام السياسي القائم، خصوصا عندما يقدم الأخير أدلّة عملية تسعى لتقديم الرعاية الاجتماعية والطبية والتعليمية، لتنتهي بحفظ الحقوق السياسية، مثل حرية الرأي والمعتقد والفكر والانتخاب والعيش بأمان في ربوع الوطن، هذه المعالجات ليست مستحيلة، ما يجعلها واقعا عمليا قابلا للتحقيق، توافر إرادة سياسية تخطط بعلمية للقضاء على ظاهرة الاغتراب السياسي.

اضف تعليق