الدولة العميقة تقوم على شبكة من التحالفات بين رجال السلطة ورجال المال والأعمال، مما يجعلهم في حالة دفاع مشترك ومستمر عن بعضهم البعض. تسعى عن طريقها إلى تقويض قرارات الرؤساء المنتخبين وأعضاء البرلمان، وهذا المفهوم يستعمل لوصف أجهزة حكم غير منتخبة، مثل المؤسسة الأمنية أو الجيش أو جماعات الضغط والمصالح التي تتحكم بتوجهات الدولة.

أولاً: نشأة الدولة العميقة:

تنسب العديد من المصادر فكرة الدولة العميقة إلى تركيا، وتؤكد على ذلك أن لها بعدا تاريخيا يمتد إلى أيام الدولة العثمانية، كما أن هذا المفهوم تم تداوله بصورة واضحة لدى الساسة والمسؤولين الأتراك.

فضلاً عن ذلك أن مصطلح الدولة العميقة هو بالأصل مصطلح تركي وهو (derindevlet) ويقصد به الدولة العميقة وقد أستعمل في الأدبيات السياسية التركية، وعموما تعود فكرة الدولة العميقة إلى الجمعيات السرية التي ظهرت في الدولة العثمانية، وفي هذا الخصوص عمل السلطان سليم الثالث الذي حكم بين (1789 – 1807م)، على إنشاء لجنة سرية وهي بمثابة جيش لحمايته شخصياً، بالوقت ذاته لم يكن الصدر الأعظم يعلم بوجوده، ومن جانبه عمل (مصطفى كمال أتاتورك) مؤسس الجمهورية التركية الحديثة على الإستفادة من هذه التنظيمات السرية إذ كان العمل بها متوارث عن الدولة العثمانية، حيث شكل مع أنصاره (جمعية الحرس) التي تعد بمثابة قوات خاصة تعمل على دعم فكرة الجمهورية بدلًا عن الخلافة العثمانية.

وقد أشار إلى الدولة العميقة صراحةً رئيس الوزراء التركي الأسبق (بولنت أجاويد)، كما كانت محاولاته لوضع حد لنشاط التنظيمات السرية التي تقف وراء تشكيل الدولة العميقة سبب في محاولة إغتياله في عام 1977، وخلال هذه المرحلة وما بعدها نمت شبكة سرية تجمع بين الضباط العسكريين وأنصارهم المدنيين وعملوا على مدى عقود على قمع المنشقين من الشيوعيين والإسلاميين والأقليات وإعلاميين وغيرهم ممن يعتقد بأنهم يشكلون تهديدًا للنظام العلماني.

وقد وصف الرئيس التركي الأسبق (سليمان دميرل) الدولة العميقة بأنها: "مرادف للقوات المسلحة، ولها القدرة على إخضاع الدولة الشرعية في أوقات الإضطرابات"، ويأتي التأكيد الأهم والأبرز على ظاهرة الدولة العميقة ومدى علاقتها بالتاريخ التركي ما أعلنه الرئيس التركي (رجب طيب أردوغان) في 26/1/2007، قائلاً: "أنا لا أتفق مع من يقول أن الدولة العميقة غير موجودة، بل هي موجودة وكانت موجودة دوما، ولم تبدأ مع الجمهورية فإنها تعود إلى الأزمنة العثمانية إنها ببساطة تقليد، ومن الواجب تقليلها ولو أمكن مسحها من الوجود".

ثانياً: مفهوم الدولة العميقة وإيديولوجيتها

تعددت تعاريف الدولة العميقة وفي هذا الخصوص عرفها عضو الكونغرس السابق عن الحزب الجمهوري (مايك لوفغرين) في عام 2014 بأنها: "ذلك الجزء المخفي من الحكومة والذي تمثله قطاعات أصحاب رؤوس الأموال والصناعيين والذين تشكلت لديهم إمكانية حكم الولايات المتحدة بدون ضرورة الإنخراط في العملية السياسية الرسمية".

فهي غير مرئية وتعمل خلف الكواليس وبعيداً عن مرأى ومعرفة الشعب، ويعمل في ظلها عدد كبير من النشطاء وبسرية كبيرة. ويرى (جيسون رويسليندسي) أن مصطلح الدولة العميقة يرتبط بشكل مباشرة بمؤسسة الأمن القومي لا سيما في البلدان المتقدمة، فالدولة العميقة تستمد سلطتها من جماعات الأمن والمخابرات الوطنية، وهو عالم تسوده السرية، ومصدر للقوة.

ومن جانبه فإن (هوغ دوغان) والذي شغل منصب سفير الولايات المتحدة في الأمم المتحدة قد وصف الدولة العميقة بكونها عنصر يقع بين إطارين مختلفين: الأول هو قطاع الخدمات الحكومية العامة والجهاز التكنوقراطي بدون الأخذ بالقيادات المنتخبة ديمقراطيا، وأما التعريف الحديث للدولة العميقة فهو "القوى الفاعلة العامة والخاصة والتي تحكم البلاد بدون الأخذ بعين الإعتبار نتائج الإنتخابات الديمقراطية، وعناصر الدولة العميقة قادرة على العمل بشكل تفاعلي، وإختصار الوقت الذي تستلزمه الأجهزة الحكومية لإنجاز أعمالها"، وأضاف بأن مفهوم وآليات الدولة العميقة قد عملت في كل من تركيا وروسيا الإتحادية وفي التخطيط والتحضير لثورات الربيع العربي الفاشلة، وبَينَ ضرورة أن تقوم الولايات المتحدة بالإستفادة من التجارب التي تفضي إليها الدولة العميقة والكيفية التي يمكن عن طريقها تطوير المجتمع الأمريكي والقيم الأمريكية، وأشار بأن هذا المفهوم قد تجاوز مفاهيم سياسية تقليدية كاليمين واليسار وسعى إلى تجاوز البيروقراطية الحكومية التي تمنع أفراد المجتمع من التعبير عن إرادتهم الحرة، كما أكد على "أن ميزة الدولة العميقة تقوم على الإرادة الحرة الطوعية، فليس هناك مركز أو مجال للتخطيط لفكرة أو ممارسة معينة، ولكن معطيات الدولة العميقة قادرة على التأثير على القادة المنتخبين، ولا يميل رجال الدولة العميقة للإستخدام العضلي أو اللفظي، بل بإستخدام المؤثرات والمدركات الشرعية والقانونية والعقود والمشاركات السياسية، وبتطبيق وإحياء العلاقة بين الحكومة وقطاع الأعمال، وإنجاز الأهداف التي تسعى عناصر الدولة العميقة إلى تحقيقها".

ويعرف قاموس أكسفورد الدولة العميقة بأنها تعني: "مجموعة من الناس، وهم عادة أعضاء مؤثرين في المؤسسات الحكومية أو الجيش، متورطون في التلاعب السري بالسياسة الحكومية أو السيطرة عليها.

فضلاً عما تقدم تُعرف الدولة العميقة بأنها: "مجموعة من التحالفات وشبكات العلاقات الممتدة داخل جسد الوطن أفقياً ورأسياً بدون شكل أو تنظيم محدد وملموس، وهي تشمل أعضاء برلمان وسياسيين ورجال أعمال ورجال أمن وفنانين وإعلاميين". أو هي "شبكة مصالح متشابكة ومترابطة لا يعرف أفرادها بعضهم البعض لكنهم يعملون لهدف مشترك وهو الدفاع عن مصالحهم وإمتيازاتهم خارج إطار القانون والمجتمع والدولة"، علما أن الدولة العميقة تقوم على ستة ركائز هي: الركيزة الإقتصادية، والسياسية، والإعلامية، والأمنية، والتشريعية، والقضائية، وجميعها تتحرك في إتجاه معين بما يصب في مصلحة الدولة العميقة بشكل أو بآخر، وهذا ينطوي ضمنيا على وجود تنظيم محكم يقع في قمة هرم هذه الدولة بحيث تستطيع التحكم بها جميعا وبدون حدوث تصادم أو تعارض في المصالح.

وعلى هذا الأساس فإن الدولة العميقة تقوم على شبكة من التحالفات بين رجال السلطة ورجال المال والأعمال، مما يجعلهم في حالة دفاع مشترك ومستمر عن بعضهم البعض. فهناك تحت الأنظمة والمبادئ الدستورية قوة عميقة موحدة ومتجذرة تعمل بصورة خفية للسيطرة على الدولة، ولها جدول أعمال ووسائلها الخاصة بها تسعى عن طريقها إلى تقويض قرارات الرؤساء المنتخبين وأعضاء البرلمان، وعلى الرغم من أنها حقيقة موجودة إلا أنها غير ظاهرة.

مما تقدم يتضح بأن مفهوم الدولة العميقة يستعمل لوصف أجهزة حكم غير منتخبة، مثل المؤسسة الأمنية أو الجيش أو جماعات الضغط والمصالح التي تتحكم بتوجهات الدولة، ويكون الهدف من الدولة العميقة أما المؤامرة على نظام الحكم القائم، أو يكون الهدف منها الحفاظ على مصالح هذا النظام والدفاع عنه، عن طريق أشخاص متنفذين في جميع مؤسسات الدولة ويعملون على تحقيق أهداف مشتركة، ولهم قدرة التأثير في القرارات السياسية للدولة. علما أن هذا المفهوم له تسميات أخرى منها الدولة الموازية أو دولة داخل دولة.

وأما بخصوص أيديولوجية الدولة العميقة فهي تقوم أساساً على المصلحة، وقد عبر عن هذه الحالة رئيس وزراء تركيا الأسبق (بولنت أجاويد) بأن الدولة العميقة تتكون من عدة مجموعات ولديها أجندة خاصة بها تعمل على تنفيذها فهي ليست إسلامية ولا ماركسية ولا علمانية، وهي بذلك تختلف عن الدولة الوطنية التي تقوم على إقرار حق التنوع والإختلاف، واحترام رأي الشعب في القيادة التي انتخبها، كما أن تعتمد على حل الخلافات بالقانون، وعليه فأنها صاحبة الشرعية.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية/2001–2018Ⓒ
http://mcsr.net

اضف تعليق