لا تزال التطورات الحاصلة في فنزويلا تلقي بظلالها على عموم المشهد السياسي في أمريكا اللاتينية، لاسيّما لجهة التدخل الأمريكي، وتهديد واشنطن بعمل عسكري لدعم المعارضة بقيادة خوان جوايدو رئيس البرلمان الفنزويلي ضد حكومة اليسار البوليفاري بزعامة نيكولاس مادورو، ناهيك عن ردود الفعل الدولية، سواء من جانب...

لا تزال التطورات الحاصلة في فنزويلا تلقي بظلالها على عموم المشهد السياسي في أمريكا اللاتينية، لاسيّما لجهة التدخل الأمريكي، وتهديد واشنطن بعمل عسكري لدعم المعارضة بقيادة خوان جوايدو رئيس البرلمان الفنزويلي ضد حكومة اليسار البوليفاري بزعامة نيكولاس مادورو، ناهيك عن ردود الفعل الدولية، سواء من جانب روسيا أم الصين أم غيرها، الأمر الذي يثير خوفاً كبيراً، وقلقاً متصاعداً لما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع في هذه الدولة الغنية بالنفط، والمحاصرة منذ عهد الرئيس هوغو تشافيز، وخصوصاً منذ العام 2006، والذي شكّل هاجساً جديداً لواشنطن بعد كاسترو وكوبا.

وإذا بدأ المزاج السياسي منذ العقد الأول في الألفية الثالثة بالميل لصالح اليسار في العديد من دول أمريكا اللاتينية، فثمة ارتكاس حصل فيه، ويكفي أن نطلّع على ما أفرزته الانتخابات الرئاسية في سبع بلدان خلال العام 2018؛ ليتبيّن لنا التغييرات الحاصلة في العديد منها؛ حيث بدأ يتشكل «توازن» مؤقت بين اليسار واليمين، وأصبحت الأنظمة القائمة تتأرجح بينهما.

ويعكس مثال البرازيل مثل هذا التوازن القلق، فبعد سنوات من التوجه اليساري، فاز اليمين فيه، في حين فاز اليسار في المكسيك بعد أن كانت بوصلة «مكسيكو» موجهة نحو الشمال، لكنها استدارت باتجاه أمريكا الوسطى، خصوصاً في ظلّ سياسة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وتهديداته وابتزازه لبناء الجدار العازل، وموقفه من اللاجئين والمهاجرين.

ويبقى الموقف من اليسار أو اليمين مرهوناً بتغيّر الظروف والأحوال، فهو ليس ثابتاً أو مستقراً على طول الخط، وإنما هو تعبير عن تنامي الوعي لدى الناخبين للتصدي لظواهر الفساد المالي والإداري والسياسي من أيٍّ أتت، وذلك بمعاقبة النخب السياسية الغارقة فيه، وعدم التصويت لها، بل اختيار خصومها ليكونوا بديلاً عنها. وكانت البرازيل قد انتقلت من اليمين إلى اليسار، لتعود مجدداً إلى حضن اليمين. والسبب هو: «إنه الاقتصاد يا غبي»، حسب العبارة التي استخدمها بيل كلينتون خلال حملته الانتخابية الناجحة ضد جورج بوش الأب العام 1992، فالأزمات الاقتصادية لم تكسب اليمين أو اليسار أي مناعة، ولم يستطع الاحتياطي العالمي من النفط الذي تطفو عليه فنزويلا من إخراجها من وضعها الاقتصادي البائس، والسبب يعود إلى الضغوط الخارجية والعقوبات الأمريكية المفروضة عليها بالدرجة الأساسية، إضافة إلى السياسات الداخلية والفساد المالي والإداري، وفشل خطط التنمية التي لم تستطع توظيف الفوائض النفطية واستثمارها في التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية والضمان الاجتماعي والرخاء الاقتصادي، وغير ذلك من «الوعود» التي ظل الفقراء يحلمون بها.

أما الأرجنتين فقد سجلت انكماشاً كبيراً في النمو؛ بسبب السياسات الداخلية الخاطئة التي ظلّت تراهن على الاقتراض من صندوق النقد الدولي، والأمر في بيرو لا يختلف كثيراً؛ حيث أوقع الفساد البلاد في أزمة خطِرة.

وتعاظم ضعف الثقة في دول أمريكا اللاتينية بين النخبة الحاكمة وشعوبها، لدرجة أن بعض البلدان انقسمت بين التيارين اليميني واليساري، خصوصاً بارتفاع النبرة الشعبوية ذات الرنين العالي والمدعومة أحياناً من واشنطن. كما ارتفعت قوافل المهاجرين من شعوب هذه البلدان بقصد التوجه إلى الولايات المتحدة، وهذا وحده دليل على تقهقر الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وتزايد البطالة، وتراجع مستويات العيش الكريم، ناهيك عن عبور مئات الآلاف من السكان خط الفقر إلى ما دونه، بأجور لا تزيد عن دولارين في اليوم. وينتشر العنف وتضعف الدولة أمام غول الإرهاب وانعدام الأمن. كما تنتشر المواجهات المسلحة في هذه البلدان بين مجموعات من المهرّبين وتجار المخدرات في المكسيك، وتتزايد التهديدات والابتزازات للسكان. وتشهد دول مثل الهندوراس والسلفادور وغواتيمالا التي تسمّى (دول المثلث الشمالي) نمو عصابات للجريمة المنظمة بشكل لافت؛ حيث ترتفع وتيرة العنف إزاء الشعوب الأصلية وسكان البادية والمدافعين عن البيئة والأرض والموارد الطبيعية.

والأمر يدلّ دلالة بالغة على فشل سياسات التنمية في تدبير وإدارة الأزمات الداخلية، إضافة إلى فشل سياساتها الخارجية؛ حيث تلعب واشنطن دوراً كبيراً في إذكاء الخلافات الداخلية والحساسيات المناطقية، فمثلاً تتنافس المكسيك والبرازيل حول «الزعامة الإقليمية»، ففي الوقت الذي تتجه فيه البرازيل نحو اليمين، وتلتحق بواشنطن وتنضم إلى الأرجنتين والباراغواي والأرغواي لتدخل في قطيعة مع اليسار، تفتح المكسيك حواراً سياسياً مع دول اليسار في مسعى لحل الأزمات.

ولم يتأخر رئيس البرازيل الجديد، ليثبت يمينيته وولاءه لواشنطن، في إعلان عزمه على نقل السفارة البرازيلية إلى القدس، بعد قرار ترامب بنقل السفارة الأمريكية إليها، من دون الاكتراث بعلاقات بلاده التاريخية بالعالمين العربي والإسلامي، على الرغم من عدم وجود ردود فعل عربية وإسلامية رسمية تتناسب وخطورة تلك الخطوة.

وهكذا فإن أمريكا اللاتينية التي كانت سبع دول منها خلال العقد الماضي تتجه صوب اليسار، إذا ببعضها يتراجع بشدة نحو اليمين، مثلما تستمر الضغوط على كوبا، وتواصل واشنطن حصارها على الجزيرة منذ خمسة عقود ونيّف من الزمان.

.........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق