q
على المجتمع وحده تقع مسؤولية الارتقاء بنفسه ونبذ الطبقة الحاكمة التي وبفعل رؤيتها القاصرة ومنهجها الفوضوي ازدادت معاناة الجماهير واتسعت الهوة بينهم وبين رعاياهم، فما مطلوب منهم اليوم هو خوض معارك ضارية لتصفية المنظومات التي اثبتت الأيام عدم قدرتها على الإنجاز والتأسيس لدولة قوية قادرة على إسعاد ابناءها بمختلف مستوياتهم...

يحق لاي شخص ان يفتخر بإنجازاته التي حققها ويعمل على إكمال المسير بطريق النجاح الذي ناله عبر مسيرة شاقة وطويلة تمتد لعقود من الزمن، اذ تشكل هذه المنجزات الإرث التاريخي للافراد العاملين ومنصة نحو البحث عن الجديد.

حب الذات والتمسك بالمكتسبات سمة من السمات التي تلازم الفرد ولا يمكن التخلص منها، كونه مجبول عليها، اذ تنسحب هذه الصفة الملاصقة على جميع التصرفات والافعال وفي مختلف الميادين، ففي المجال السياسي نجد الساسة يتفاخرون بما سطروه ابان معارضتهم الأنظمة القائمة آنذاك.

علماء النفس لم يتركوا ممارسة او صفة الى ووضعوا تفسيرا لها، وما نحن بصدد تناوله اليوم، يعرف بمصطلح (النكوص)، اذ يفسر علم التحليل النفسي هذا المصطلح، على انه، عودة الفرد إلى مرحلة سابقة من مراحل العمر وممارسة السلوك الذي كان يمارسه في تلك المرحلة لأن هذا السلوك كان يحقق له النجاح في تلك المرحلة العمرية، حيث كان بمثابة سلوك مريح وممتع يشعره بالأمان في تلك الفترة.

ومن ابرز الأمثلة على ذلك هو البكاء للحصول على شيء أو لجلب الانتباه أو عند الشعور بأن مشاعر المحبة لهم تواجه تهديد أو للتخلص من موقف يسبب لهم القلق ولو لفترة هرباً من الضغوط المحيطة به أو للتخفيف عما يعانيه الفرد من نكسات نفسية، فيلجأ لتذكر ماضيه المليء بالأمان.

وقد وظفت الطبقة الحاكمة هذا الامر لتحقيق الهروب من الواقع المرير، الذي خلفوه بفعل أعمالهم المتخبطة وعدم الاتزان في كل شيئ، الى جانب عدم ضبط إيقاع التصرفات لتكون اكثر تأثيرا في المقابل، كما وتم استخدام منجزات السابقين لتوجيه انظار الجمهور اليهم، وكأنهم من عمل المستحيل من اجلهم، وتخليصهم من بطش الأنظمة الجائرة بحقهم والمصادرة لحقوقهم، بينما الواقع يختلف كثيرا عن ذلك.

لا ينكر منصف ما حققته الحركات السياسية عبر نشاطاتها الجهادية من إرباك كبير لعمل الحكومات السابقة قبل العام 2003، بالإضافة الى توجيه انظار المجتمع الدولي الى الشؤون الداخلية ومجريات الاحداث الدائرة من بينها عمليات القمع وتكميم الافواه المستمرة.

ولم يكن العراق شاذا عن غيره من البلدان بل تحدث فيه عملية ركوب الماضي وامتطاءه للوصول الى مناطق النفوذ السياسي والهيمنة الدائمة على عملية إصدار القرار السياسي الذي يتحكم في رسم ملامح العملية السياسية الداخلية والخارجية.

اذ تشهد كواليس السياسة صراع دموي بين أصحاب النفوذ والمشتركين بالعمل الجماعي منذ عقود، حول تفسير الماضي وما يتعلق من إشكاليات بالحاضر، فيفتح الباب على كمية هائلة من الانتقادات التي يمكن توجيها لمن يتشبث بالماضي ويتخذه البوابة الرئيسية من اجل الولوج لعالم الحاضر.

جميع المناسبات الوطنية التي يشارك فيها النخبة السياسية في البلد نراهم يتغنون بما ورثوه على يد المناضلين الأوائل الذي قاوموا الأنظمة السياسية وتحملوا الكثير من اجل إنضاج الفكر الديمقراطي في البلد، وإشاعة مبدأ الحكم الجماعي بدلا من الشمولي الذي عانى منه أبناء الشعب الكثير، وكان ثمن ذلك باهضا ومؤثرا بالبنية الحزبية والتنظيمات السرية في حينها.

فكتابة التاريخ لم تكن خالية من التضليل وعدم الحيادية يوما ما، ومع صعود الأحزاب الحاكمة في الوقت الحاضر وتقدمها في مضمار العمل السياسي، تضاعف الاعتماد على الخزين الحزبي واستخدامه كوقود لسير المركب السياسي، واستمرار تسخيره عند الحديث عن الامجاد.

اما الذاكرة السياسية في العراق ما زالت تمثل مرجعية رئيسية لدى الكثير من النخبة التي تحتكم لها في مزاد المعاملات والمضاربات الحاصلة بفضاء العمل الحزبي المنظم، فالجميع اليوم يعلقون آمالهم على منجزات غيرهم التي أصبحت لا تغني ولا تسمن.

ويمكن ملاحظة توجهات مشابهة للتواجهات السابقة لدى المجتمع الغربي ففي أوروبا الغربية وتحديدا في عام 2005 ، قررت الجمعية الوطنية الفرنسية وجوب تدريس الطلاب "الدور الإيجابي" للاستعمار الفرنسي في إفريقيا لكي تفخر "الأمة الفرنسية العظيمة" بدورها الحضاري.

ولا تزال العقلية الحاكمة في العراق تحمل ماجنته من ارصدة جعلتها تتمتع بمقبولية نسبية في الأوساط المجتمعية، مكتفية (أي الشخصية العراقية)، بما حققه قادة الرعيل الأول، بينما نلاحظهم عاجزين عن إضافة منجزات تذكر تساعدهم على الاحتفاظ بالمكانة السابقة.

وخير دليل على ذلك هو ان اغلب الأحزاب المتنفذة بالعراق منذ تغيير النظام اخذت شعبيتها بالتراجع بشكل مثير للدهشة، ذلك ان هذه الأحزاب لم تعمل على توسيع قاعدتها الجماهيرية، وتزيد من رصيدها التعبوي عبر التأثير على الجماهير وكسب ودهم.

والصورة الباهرة التي رسمتها فرشاة الطبقة الحاكمة، قد لا تتمكن من مواجهة موجة الانتقادات الموجهة اليها من الجيل الناشئ، الجيل الذي يبحث عن اجازات حقيقية، لا مجرد العزف على وتر الابهار المتعمد بالمنجز المزيف الخاوي والذي يحتمي به أصحاب القرار.

نتفق جميعا ان أصحاب الريادة في العملية السياسية ثبتوا معالم الطريق الصحيح لمن يريد التغيير والنهوض بالمجتمعات البشرية على مختلف المستويات، لكن هذا لا يعني ان يبقى الحكام الحاضرون يجترون ما تختزنه الجعبة السياسية لهؤلاء الرواد، وترك العمل الجاد لتحقيق ذات المكتسبات.

مقولة، " ليس الفتى من يقول كان أبي، ولكن الفتى من قال ها أنا ذا، من المفترض ان يعلقها الخائضون بالمضمار السياسي كالقلادة على جيد الفتاة، وبالتالي يعملون على إبراز مكامنهم وإكمال المشوار الذي خطه السابقون بتضحياتهم وتفانيهم.

ولكي يتم الخلاص من حالة النكوص السياسي السائد في بلاد الرافدين، تقع على عاتق المجتمع مسؤولية ليست بالهينة، تتمثل هذه المسؤولية بحالة من الوعي المجتمعي من اجل الارتقاء بالطبقات الاجتماعية للعمل على تكسير قيود الاستبداد والترويج السياسي والتقديس لبعض الرموز.

من بين الأشياء التي أخرت عملية الارتقاء الاجتماعي هي إعادة تدوير ذات الأفكار الحزبية البالية عبر وجوه مختلفة تماما عن التي فقدت مقبوليتها، فنلاحظ جميع التحركات السياسية خالية من الحكمة والرشاد السياسي، وتقترب من موجات الدعاية المنظمة للأحزاب الحاكمة.

ان الفارق الكبير بين الزعامات السياسية السابقة والتي حققت شيئا ملموسا على ارض الواقع، مقارنة بالنخبة الحاكمة في الوقت هو انهم كانوا يسيرون على رؤية واضحة وخطة ممنهجة تمكنهم من الوصول الى هدفهم الاسمى وهو الظفر بالحكم او الحصول على قدر أوسع من التأييد الشعبي.

على المجتمع وحده تقع مسؤولية الارتقاء بنفسه ونبذ الطبقة الحاكمة التي وبفعل رؤيتها القاصرة ومنهجها الفوضوي ازدادت معاناة الجماهير واتسعت الهوة بينهم وبين رعاياهم، فما مطلوب منهم اليوم هو خوض معارك ضارية لتصفية المنظومات التي اثبتت الأيام عدم قدرتها على الإنجاز والتأسيس لدولة قوية قادرة على إسعاد ابناءها بمختلف مستوياتهم.

اضف تعليق