q
في السفر نتعلم قيمة الأوطان، وبه يتعزز حبها في الوجدان، ومن خلاله ترى الجميل في أهلك، وتصرف بصرك عما هو قبيح، فما أحلاكم أهلي، فلا غيرة تضاهي غيرتكم، ولا كرم يطاول كرمكم، ولا خلق يناظر خلقكم، وبئس من جعلكم تئنون طوال ليلكم ونهاركم، وما أقبح من أدار ظهره للثكالى من حرائرنا، ومال بوجهه عن بؤس أيتامنا...

ما سافرت الى بلد الا وشدني الحنين الى وطني وأهلي، حتى لأعجب كيف يعيش المهاجرون في بلاد الغربة؟، يدق جرس الانذار عندي بعد مضي اسبوع حالما ينتهي تحقق الأهداف التي من أجلها سافرت، وما ان أعود الى الوطن حتى أفكر بالسفر ثانية، وكأن السفر حقنة مسكنة تتيح لك تحمل الاحباط والقهر والانفعال لمدة وجيزة، وبعد انتهاء مفعولها تخرج عن طورك وكأنك لست أنت .

لذلك ما عدت لائما اولئك الذين يعودون الى أوطانهم مع انهم قضوا سنوات طويلة بعيدا عنها، بالرغم من التطور الحضاري ونظام الحياة المتماسك ومساحة الحرية والاسترخاء الواسعة التي تتوافر في بلدان الغربة المتحضرة، ولو سألت أي مغترب لأجابك من دون تردد برغبة العودة لو كانت الظروف مؤاتية، الكثير منهم مجبرون على البقاء، بينما الوطن يعشعش في القلوب والعقول، يشعرك العيش في الغربة ان حياتك بلا هدف، ولا معنى لجميع ما تحققه، يغيب صداه في محيطك الا اذا كان فعلك استثنائيا، وفي ما عداه قد يبدو عليك رائقا، لكنك تغلي في دواخلك، لأنك في أرض لا جذور لك فيها، تسبح في فضاء غير فضاءك، وثقافة غير التي نشأت عليها، وأناس غير الذين تعرفهم، لذلك تتضاءل أهمية الفرص المتاحة أمامك مع انك كابدت كثيرا للحصول عليها .

كما لست بلائم الذين يفكرون بهجرة الأوطان بحثا عن حياة أرقى من التي يعيشونها في بلدانهم، وأناس أكثر تحضرا في تعاملهم، وفرصا متكافئة للجميع بعيدا عن ألوانهم ومذاهبهم وأديانهم وقومياتهم، فالحياة يمنحها الله تعالى للبشر مرة واحدة لا تتكرر، ومن العبث أن تُهدر في بلدان لا يمكن وصفها الا بالمتخلفة، يتحكم بمجرياتها من لا يعرف للحياة معنى، ومن أتت به الصدفة الى صدارة الصفوف، او فاز بها مغامرون لا شيء عندهم ليخسروه عندما تنتهي الى الفشل مغامراتهم، ويندر أن يكون بينهم من جاءوا برغبة التطوير وانتشال الناس من الوحل الذي هم فيه، وهم في واقعنا كقطرة ماء زلال في بحر شديد الملوحة.

ولا تتوقع لقطرة الماء اتساعا، فقد تشابكت اللحى، وصار عصيا تماما فك تشابكها، وفي مثل هذا الواقع تشعر ان الاصلاح يُراد له قدرة قادر، فقد بلغ التخلف فينا مبلغا، ومعه أصبح اللحاق بركب المتقدمين ضربا من الخيال.

وبتنا عاجزين حتى عن تضييق الفجوة التي تفصلنا عنهم، ففي سلوكنا العبثي ما يوسع تلك الفجوة بدل ردمها او تضيّق مسافتها، بل ولم يعد يضيرنا أن يغادر حياتنا العلماء والمتنورون موتا او هجرة او انزواء. فتبتئس، ولشدة ابتئاسك تحزم أمتعتك لتفر بجلدك. وفر كثيرون ليخدموا أوطانا لا ينتابهم أدنى شعور بالانتماء لها، وكم تمنوا لو كان عطائهم لأهلهم، ولكن من الذي يسمح لهم بالعطاء ؟، فثمة من لا يكتفي بالنهب والسلب واشاعة الموت في الطرقات، بل ويحول دون أن تعطي، فعطاء الكبار نفوسا فضح لآثام الفاسدين، وتعرية لعقول غير العارفين، فيجّيشون لك من يسخف أفكارك، ويقلل من قدرك، بينما انت الذي يشير لك الغرباء بالبنان، وبين هذا وذاك تمضي الحياة في غابة من الاحباط واليأس والانكسار.

في السفر نتعلم قيمة الأوطان، وبه يتعزز حبها في الوجدان، ومن خلاله ترى الجميل في أهلك، وتصرف بصرك عما هو قبيح، فما أحلاكم أهلي، فلا غيرة تضاهي غيرتكم، ولا كرم يطاول كرمكم، ولا خلق يناظر خلقكم، وبئس من جعلكم تئنون طوال ليلكم ونهاركم، وما أقبح من أدار ظهره للثكالى من حرائرنا، ومال بوجهه عن بؤس أيتامنا، ولا يتذكر بالفعل وليس القول من جادوا بأنفسهم لننعم بما نحن فيه، فالوطن انتم وليست الأرض، ولست بذلك أتعالى على غيرنا، بل هي الحقيقة، ومن لا يعرفها فليجرب السفر .

........................................................................................................................
* الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق