q
وقد سعت الصهيونية اليهودية في توظيف تلك العقيدة التوراتية في كل حروبها مع العرب، وكانت دولة إسرائيل العلمانية في إدعاءاتها وتمظهراتها الخادعة والتي قامت على أسس الصهيونية التوراتية في نظرية "أرض الميعاد" تجد في تلك العقيدة الحربية التوراتية أهم وسائلها النفسية والدعائية وأكثر آلياتها الاستراتيجية في إدامة التيقظ اليهودي...

اتسمت دولة إسرائيل بأنها دولة قائمة على فكرة الحرب ونمت في تاريخ مرهق في الحرب، وبذلك تأسست جذريا وفق عقيدة الحرب، والحروب التي خاضتها منذ نشأتها تكشف عن تفاصيل هذه الحقيقة السياسية والتاريخية، وإذا تحرينا عن جذور هذه العقيدة نجد أصولها الفكرية والتاريخية تمتد عميقا في التوراة اليهودية وهو ما سمح لها أن تتكلس وتتركب في الشخصية اليهودية عبر التاريخ وأن تكون إحدى أهم مقومات تلك الشخصية الغرائبية.

ويحتوي سفر أشعيا على كل المعاني في القسوة والنقمة والحرب الموعودة في ذاكرة الإسرائيليين، إنها نصوص تؤكد لشعب التوراة أن المواجهة والحرب مع الأمم واقعة نبوئية تشكل أحد قواعد الإيمان اليهودي، وفي تلك الحرب الموهومة تقول التوراة "في ذلك اليوم يعاقب الرب بسيفه القاسي العظيم الشديد لوياثان الحية الهاربة لوياثان الحية المتحوية، ويقتل التنين الذي في البحر" سفر أشعيا 1:27

هكذا الأمم في نظرهم وفق تربية وتعليم التوراة حيات وتنين البحر ومصيرهم القتل بسيف الرب، وفي تأكيد النتيجة التي تنتهي إليها حروب التوراة تقول التوراة " ويصير جمهور أعدائك كالغبار الدقيق، وجمهور العتاة كالعصافة المارة. ويكون ذلك في لحظة بغتة" اشعيا 15:28، ومن أجل تبرير تلك العقيدة الحربية وإكسابها مزيدا من التأثير في قناعات الإيمان اليهودي يقول نص توراتي أخر "هوذا اسم الرب يأتي من بعيد. غضبه مشتعل والحريق عظيم. شفتاه ممتلئتان سخطا، ولسانه كنار آكلة" أشعيا 27:29، ثم تبدو النقمة واضحة ومكرسة في القلب اليهودي تجاه الأمم الأخرى وفي ذلك يقول هذا النص التوراتي "ونفخته كنهر غامر يبلغ إلى الرقبة. لغربلة الأمم بغربال السوء، وعلى فكوك الشعوب رسن مضل" اشعيا 28:30.

ولأن النقمة والقسوة والكراهية هي موضوعة التعاملات التوراتية لا سيما مع الاغيار، وهو مصطلح توراتي ويهودي في وصف الأمم والشعوب الأخرى، فإنها تنسحب الى النقمة والقسوة والكراهية تجاه الذات اليهودية وغالبا ما نجد تلك التعبيرات التوراتية في ذم وقدح الذات اليهودية المكفهرة والناقمة على ذاتها وإلهها وفي ذلك تقول التوراة "لأنكم قلتم: قد عقدنا عهدا مع الموت، وصنعنا ميثاقا مع الهاوية. السوط الجارف إذا عبر لا يأتينا، لأننا جعلنا الكذب ملجأنا، وبالغش استترنا" اشعيا 28:15.

إن سفر أشعيا يغذي الوجدان اليهودي بكل مبررات القسوة والعنف والحرب فهو يتحدث عن مملكة إسرائيل الموعودة التي تقام بواسطة قهر الأمم وإذلالها واستجابة الرب وفق النص التوراتي في سفر أشعيا لكل الرغبات المأزومة والمرضية في الذات اليهودية والتي تجد تلذذها بالانتقام وشعورها بالغبطة في قهر الأمم وإذلالها كما تشي نصوص سفر أشعيا بدء من إصحاح "24" ومابعده.

وقد سعت الصهيونية اليهودية في توظيف تلك العقيدة التوراتية في كل حروبها مع العرب، وكانت دولة إسرائيل العلمانية في إدعاءاتها وتمظهراتها الخادعة والتي قامت على أسس الصهيونية التوراتية في نظرية "أرض الميعاد" تجد في تلك العقيدة الحربية التوراتية أهم وسائلها النفسية والدعائية وأكثر آلياتها الاستراتيجية في إدامة التيقظ اليهودي–الإسرائيلي والاستعداد الدائم نحو الحرب.

وفي سبيل توكيد واستعادة الزخم الديني المخادع في حروب إسرائيل ومن أجل تكريس وجودها السياسي والجغرافي في المنطقة تقوم الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ نكسة حزيران في العام 1967م بتشجيع المتطرفين اليهود واليمين الإسرائيلي على الإساءات المتكررة للمسجد الاقصى ومحاولات محو هويته الإسلامية بل وإزالته من أرض القدس كأحد أهم الدلالات الإسلامية المعبرة عن الهوية المقدسية.

وقد توافقت الصهيونية العلمانية والصهيونية الدينية على مبدأ محو الوجود المكاني والزماني للمسجد الأقصى وكل يعمل وفق عقيدته الخاصة به. فالصهيونية العلمانية تسعى الى هدف سياسي في ضم القدس الى إسرائيل عبر إفراغها من دلالتها العربية والإسلامية والتي يرمز لها المسجد الأقصى، والصهيونية الدينية تسعى الى هدم المسجد الأقصى للوصول الى جبل الهيكل المزعوم، ورغم الاختلافات بين العلمانية الإسرائيلية والدينية اليهودية والمواجهات المستمرة بينهما وأخرها تلك الاحتجاجات على صعود اليمينية الصهيونية–الدينية ومشاركتها في الحكومة وتحالفها مع القوى اللادينية في إسرائيل، إلا إننا لا نكاد نجد احتجاجا علمانيا واحدا على اقتحامات المسجد الأقصى المتكررة والتي يقوم بها المتطرفون المتدينون اليهود وعلى رأسهم عناصر سياسية مشاركة في حكومة تل أبيب، مما يكشف عن التواطؤ المستمر بين تلك الاتجاهات الإسرائيلية المتضادة والمتناحرة سياسيا تجاه سياسات المحو المكاني والزماني للمسجد الأقصى.

وقد تزامنت تلك السياسات المفرطة في العدوانية تجاه المسجد الأقصى وهويته الإسلامية مع محاولات أو استراتيجيات التطبيع العربي مع دولة إسرائيل، وكان أخرها الإعلان عن تقدم أحزرته دولة إسرائيل وحلفائها الأوربيين والأميركيين في إجراءات ومقدمات التطبيع مع المملكة العربية السعودية، وكانت قد تمت على ثلاث مراحل بينهما فاصل زماني يسير لجس النبض العربي والإسلامي تجاهه، وأول هذه المراحل هو الإعلان عن الخط التجاري الرابط بين الهند وإسرائيل عبر الاراضي السعودية والذي حظي بموافقة ومباركة ولي العهد السعودي وحكومته واعتباره جزءا من حركة التجديد التي يقوم بها في دولته ومدينته الجديدة نيوم في شمال غرب المملكة وهي على مقربة من إسرائيل، وقد أشار بعض الكتّاب العرب الى توراتية ذلك الاسم "نيوم" وأنه إشارة الى مملكة نعوم التوراتية وأنها جزء من خارطة إسرائيل الكبرى بعد العثور على الهيكل وفق الرواية التوراتية[1]، والمرحلة الثانية هي زيارة وزير السياحة الإسرائيلي في سبتمبر الى الرياض للمشاركة في مؤتمر لمنظمة السياحة العالمية التابعة للأمم المتحدة ويعتبر وزير السياحة أول وزير إسرائيلي يترأس وفدا رسميا إسرائيليا إلى السعودية وبعدها وفي نفس الاسبوع توجه وزير الاتصالات الإسرائيلي إلى الرياض من أجل المشاركة في مؤتمر البريد العالمي، والمرحلة الثالثة هي مجموعة تصريحات سعودية وإسرائيلية وعلى أرفع المستويات بشان التطبيع الذي لم يبدو مفاجئا للكثيرين.

فقد صرح ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في 20 سبتمبر في مقابلة مع شبكة "فوكس نيوز" أن الاتفاق يقترب بشأن تطبيع العلاقات بين المملكة وإسرائيل" وبعد ذلك أكد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو في تصريح له في الذكرى السنوية لحرب أكتوبر 1973: "قبل خمسين عاما، كانت معظم دول الشرق الأوسط متحدة في كراهيتها لإسرائيل واليوم تريد العديد من دول الشرق الأوسط السلام مع إسرائيل".

وقد استشعر الفلسطينيون الخطر الكامن في محاولات التطبيع هذه لاسيما مع تأكيد الأطراف المعنية وذات العلاقة باقتراب الحسم في هذه المحاولات باتجاه تنفيذ هذا التطبيع وجعله أمرا واقعا امام العالمين العربي والإسلامي وسيخضع الى إتفاقيات سلام غير متكافئة بين العرب واسرائيل ويتخلى العرب بموجبها عن شعار الأرض مقابل السلام، بل سيتخلى الحل الدولي عن مبادرته الدولية في حل الدولتين، وتتخلى أيضا المملكة السعودية عن مبادرتها في هذا الحل والقائم على مبدأ القدس الشرقية عاصمة الدولة الفلسطينية، مما يؤذن بضياع كامل للحق الفلسطيني واعتباره من مخلفات حقب تاريخية أضحت غير موجودة أو غير فاعلة وهو حقيقة الاستشعار الفلسطيني بالخطر. فالتطبيع المزمع بين المملكة السعودية والكيان الإسرائيلي الغاصب سيؤدي الى محو كامل للقضية الفلسطينية على الصعيد التاريخي والسياسي وأخطره على الصعيد الديني الإسلامي وذلك بتأثير الثقل السياسي والديني للمملكة السعودية في كلا العالمين العربي والإسلامي.

وأمام تلك التحديات الإسرائيلية الهادفة الى المحو المكاني والزماني للمسجد الأقصى والتحديات العربية الداخلية والهادفة الى محو القضية الفلسطينية من الذاكرة الدينية والقومية للعرب وللمسلمين، وجد الفلسطينيون أنفسهم أمام تحديات تاريخية وسياسية دولية وإقليمية تحاصر قضيتهم وتهدد كيانهم وتفضي الى الضياع بدولتهم التي رسمتها لهم حقوقهم التاريخية والإنسانية، بل وتضع مجتمعهم وشعبهم على حافة هاوية الإبادة المعنوية، والعيش بلا معنى للهوية في عالم عادت فيه الهويات الجامعة والفرعية تتنازع التعبير عن الذات وإثبات الحق في الوجود.

وبإزاء الهوية العربية والإسلامية التي يتشبث بها الفلسطينيون كأداة وقبل ذلك قناعة للخلاص من الاحتلال الإسرائيلي يعيش الفلسطينيون تحديات الوجود أو اللا وجود أمام خيارات الموت في الحياة وتوكيدات الهزيمة عبر الاستسلام والرضوخ أو الحياة في الموت واحتمالات النصر عبر المواجهة والمقاومة، ويبدو أنهم اختاروا طريق الحياة في الموت واحتمالات النصر والتي تعبر عنها أدبيات ورسائل الإسلام بالنصر أو الشهادة، فكان طوفان الأقصى هو الاستجابة الحية للتحديات التي يواجهها شعب فلسطين وبإزائهم العرب والمسلمين ممن آمنوا بعدالة القضية الفلسطينية وبالوعد الإلهي بالنصر لمن صدق وأوفى بالعهد.

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–Ⓒ2023
http://shrsc.com

.......................................
[1] - نيوم مملكة نعوم التوراتية! لماذا تروج السعودية للرواية الصهيونية، أسعد العزوني، موقع صحيفة نيسان الألكترونية-

اضف تعليق