q
اذا كان التسامح يعني الاحترام والقبول والتقدير للتنوّع الثري لثقافات عالمنا ولأشكال التعبير وللصفات الانسانية لدينا، فان اللاتسامح سيكون نقيضه بكل ما له علاقة بالتعصب والتطرف والغلو والغاء الآخر وتهميشه. التسامح يتعزز بالمعرفة والانفتاح والاتصال وحرية الفكر والضمير والمعتقد...

اذا كان التسامح يعني الاحترام والقبول والتقدير للتنوّع الثري لثقافات عالمنا ولأشكال التعبير وللصفات الانسانية لدينا، فان اللاتسامح سيكون نقيضه بكل ما له علاقة بالتعصب والتطرف والغلو والغاء الآخر وتهميشه. التسامح يتعزز بالمعرفة والانفتاح والاتصال وحرية الفكر والضمير والمعتقد، وهو ما أخذ به اعلان مبادئ التسامح الصادر عن منظمة اليونسكو »منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة« في العام 1995 حين اعتبر يوم 16 تشرين الثاني »نوفمبر« من كل عام هو يوم التسامح العالمي. والتسامح ليس واجباً أخلاقياً فحسب، وانما واجب سياسي وقانوني أيضاً، وهو الفضيلة التي تيّسر قيام السلام، ويسهم في احلال ثقافة السلام محل ثقافة الحرب.

والتسامح يعني اتخاذ موقف ايجابي فيه اقرار بحق الآخرين في التمتع بحقوق الانسان وحرياته الأساسية المعترف بها عالمياً. ولهذا نوّه اعلان اليونسكو ودفعاً لأي التباس بأنه لا يجوز الاحتجاج »التذرّع« بالتسامح لتبرير المساس بالقيم الأساسية لحقوق الانسان، وهو ما حاولت الشبكة العربية للتسامح الأخذ به حين فرّقت بين قيم التسامح والدعوات الي الاستسلام والتنازل عن الحقوق، لاسيما بخصوص فلسطين.

والتسامح لا يعني قبول الظلم الاجتماعي أو تخلّي المرء عن معتقداته أو التهاون بشأنها، بل ينبغي التمسك بها، مثلما علي الآخرين التمسك بمعتقداتهم، ولا يعني الاقرار بحق الاختلاف في طباع البشر ومظهرهم وأوضاعهم ولغاتهم وسلوكهم وقيمهم فحسب، ولكن تأكيد الحق في العيش بسلام، وذلك يعني عدم فرض الرأي علي الغير ونبذ الدوغماتية والاستبدادية.

ولعل هذه النظرة التي أخذ بها اعلان اليونسكو لا زالت غائبة في الكثير من الأحيان لا فيما يتعلق بمنطقتنا وشعوبنا فحسب، بل ازاء نظرة الغرب الينا، مثلما هي نظرتنا الي الغرب أيضاً، حيث يشوب كلا النظرتين المسبقتين الكثير من الالتباس والتشوّش والغموض والابهام، ويحلّ الصراع والعنف محل الحوار والسلام والمشترك الانساني.

لقد حققت أوروبا والغرب عموماً، ولاسيما بعد الثورة الفرنسية، العام 1789 تطوراً تدريجياً كبيراً في قضايا الحريات والمساواة وحقوق الانسان، وهو ما كان قد مهّدت له كتابات فولتير ولاسيما حول “التسامح” و مونتسكيو، وخصوصاً كتاب “روح الشرائع” وجان جاك روسو وبالتحديد كتابه ” نظرية العقد الاجتماعي”، وذلك بتهيئة بيئة ثقافية للثورة.

وعلي الرغم من مرور أكثر من مئتي عام فان عالمنا العربي والاسلامي، لا يزال يقف في الكثير من مجتمعاته في مرحلة ما قبل الدولة وعند بوابات الحداثة التي تم ولوجها من جانب أوروبا، والانخراط فيها علي نحو عميق، الأمر الذي يحتاج الي تأكيد مسألتين أساسيتين: المسألة الأولي تعزيز مستلزمات بناء الدولة التي لا تزال هشّة وضعيفة وهو ما كشفته أحداث الربيع العربي مؤخراً حيث ظهر تماهي السلطة مع الدولة، في اطار السياسة والاقتصاد والثقافة والاعلام وأجهزة القمع والمال والبزنس. ولم تتوفر بعد ارادة سياسية جماعية علي مستوي الكيانية القائمة للاعتراف بقيم ومبادئ التسامح ونشرها وتأكيد احترامها والالتزام بها.

والمسألة الثانية أن الثقافة العامة والفردية ازاء قيم التسامح لا تزال متدنّية، بل غائبة في الكثير من الأحيان، الأمر الذي أدي الي تشبث الكثير من الجماعات بالتعصب والتطرف والنظرة السلبية ازاء الآخر، سواءً الأوربي، الغربي، غير العربي أو المسلم أو غير المسلم »الآخر المختلف« في الأقطار الاسلامية، المسيحي، اليهودي، الصابئي، الايزيدي، وغير العربي: الكردي، التركماني، الأمازيغي وهكذا.

واذا كان هذا الأمر ظاهرة عربية واسلامية بامتياز، فان الغرب ليس بريئاً منه، فالنظرة الاستئصالية الالغائية تسود لديه أيضاً في ظل أجواء التطرف والتعصب، وفي اطار اعتقادات خاطئة وتصوّرات مسبقة، وذلك حين يتم اختزال الاسلام الي دين والي تعاليم “مشوّهة”، في حين أنه هوية لحضارة ممتدة ومتصلة، بغض النظر عن الوطن والقومية واللغة والجنس والأصل الاجتماعي والاتجاه السياسي.

ومن جهة أخري تدمغ بعض التيارات الاسلاموية قيم الحداثة والديمقراطية والعقلانية والليبرالية والعلمانية بالكفر وتعتبرها قيماً غربية حصرياً، الأمر الذي يدفع باتجاهين خاطئين: أمّا الي التعصب أو الي التغريب، الذي تغيب معهما فكرة التسامح الحقيقية. ولكن الفرق واسع والمسافة شاسعة بيننا وبين الغرب، ففي الغرب هناك قوانين وأنظمة ومؤسسات تستند الي قيم التسامح وان وجدت بعض الممارسات من بعض الاتجاهات المتعصبة والمتطرفة »وهي موجودة« لكن روادعها موجودة قانوناً، في حين أننا لا نزال حتي الآن بعيدين عن قيم التسامح ومبادئه، قانونياً وسياسياً واجتماعياً، فضلاً عن غياب المؤسسات الضامنة.

من هنا تكتسب مسألة التسامح راهنيتها، وخصوصاً في مجتمعات عانت من اللاتسامح والعنف والتهميش، ولهذا عندما تقوم مؤسسة كردية ثقافية عراقية مرموقة مثل دار آراس ووكالة آكا نيوز بترجمة عمل فكري عربي خاص بالتسامح ” فقه التسامح في الفكر العربي ــ الاسلامي: الثقافة والدولة” فانه في ذلك أكثر من معني، الأول أن المسألة ضرورية، بل هي حاجة ماسة لهذا المجتمع، لتجاوز الماضي بكل آثاره السلبية وجروحه العميقة، والثاني السعي لترميم الحياة السياسية بعيداً عن الكيدية والانتقام ورد الفعل والعنف والثأر ازاء ما حصل، والثالث حاجة المجتمع الكردستاني العراقي الي التخلص من التركة الثقيلة لنزاعات داخلية كردية ــ كردية، وتلمّس خطورة مثل هذا الطريق. ولعل المعني الرابع يتلخص في رؤية اعتذار منزّه من الاعتبارات المصلحية والنفعية السياسية والشخصية عن معاناة الشعب الكردي التي لحقت به جرّاء حروب وأعمال ابادات وقمع أكثرها مأساوية وشهرة ما حصل من استباحات وقتل جماعي في حلبجة والأنفال في الثمانينيات.

واذا لم يرد ذكر لمصطلح التسامح في القرآن فقد كان هناك ما يدلّ عليه مثل التقوي والتآزر والتشاور والتواصي والتراحم والتعارف والعفو والصفح والمغفرة وهي كلّها تدلّ علي التسامح. واذا كانت المسيحية قد سبقت الاسلام الي ذلك تاريخياً، لكن الاسلام عمّق مفهوم التسامح، فاضافة الي القرآن الكريم والسنّة النبوية، فان التوجه العام كان يميل الي تأكيد احترام الحقوق والاقرار بالتنوّع والتعددية والخصوصية وحق الاختلاف، وقد ورد ذلك في حلف الفضول قبل الاسلام الذي أبقي عليه الرسول من بين جميع أحلاف الجاهلية ولعل مقولة النبي محمد»ص« عندما فتح مكة كانت دلالاتها كبيرة جداً في تهيئة أجواء التسامح عندما خاطب الأسري قائلاً: اذهبوا فأنتم الطلقاء، تمهيداً لاصدار عفو عام، كان اعلانه قد جاء علي لسان الرسول بقوله: “من دخل بيت أبو سفيان فهو آمن”.

لم تكن اذاً أجواء التسامح التي دعا اليها وقادها زعماء تاريخيون لتحقيق قيم العدالة وتأمين الحقوق، كافية لردع اللامتسامحين، الذين كانت تستفزهم مثل تلك الأوضاع، فيستغلون الأجواء المتسامحة لتحقيق مآربهم لمعاكسة قيم التسامح، الأمر الذي يتطلب عملاً متواصلاً لنبذ ادّعاء امتلاك الحقيقة والأفضليات والاستعلاء علي الغير. وكان بوذا قد قال: اذا اضطررنا الي مواجهة الحقد بالحقد والكراهية بالكراهية فلن نجد أنفسنا بعيدون عنها.

واذا كانت فكرة التسامح المعاصرة قد جاء علي خلفية حركة التنوير، فان خير من عبّر عنها في العصر الحديث هو المهاتما غاندي الزعيم الهندي الذي كتب رسالة من السجن: بالقول قد لا أحب التسامح لكني لا أجد أفضل منه وسيلة للتعبير عمّا أقصده، وهو ما آمن به لتحرير بلاده من الاستعمار البريطاني، وحذا حذوه مارتن لوثر كنغ المناضل من أجل الحقوق المدنية ونيلسون مانديلا زعيم جنوب أفريقيا، وان كان غاندي وكنغ قد ذهبا ضحية اللاتسامح.

ولعل التسامح يحتاج بيئة يستطيع أن ينمو ويترعرع فيها، بل ويزدهر وهذه تتطلب توفر القوانين والأنظمة »البيئة التشريعية« فضلاً عن البيئة التربوية »مناهج التعليم وأساليبه« وبيئة قضائية »قضاء مستقل ونزيه« وبيئة اعلامية »حرية التعبير« وبيئة مجتمعية مدنية »منظمات مستقلة تكون قوة اقتراح وليس قوة احتجاج حسب«.

التسامح قيمة عليا ولعل الثقافات الحيّة هي التي تأتي برافدها الي التسامح ولا تتذرع برفضه بحجة أنه “نبت شيطاني غربي” أو ادعاء أنه موجود لديها فقط دون غيرها من الثقافات والحضارات الأخري أو تتعامل معه بشكل انتقائي أو بتغريبية ترفض التراث كلياً، الأمر الذي يستوجب اثارة مثل هذه الحوارات والثقافات بل والجدل المفتوح ، وهو ما قصدته دار آراس التي نظمت ندوة فكرية لمناقشة الترجمة الكردية الأنيقة لكتاب فقه التسامح!

اضف تعليق