q
لدى البشر طريقتان أساسيَّتان في التفكير تؤثِّران على سلوكنا. إحداهما محكومة، وبطيئة، ومتأنية، وتأمُّلية، وواعية بذاتها. أما الأخرى، فلا تخضع لسيطرتنا وسريعة وبديهية وغير واعية. العملية الأخرى لا تخضع لسيطرتنا وسريعة وبديهية وغير واعية. ونظرًا لأنها تحدُث خارج إطار وعيِنا، فإنها تتطلَّب أيضًا القليل من الجهد منَّا؛ ومِن...

أرسى التنوير قوة التفكير البشري الواعي. غير أن مُفكرين آخرين كانوا مُهتمين بجوانب السلوك البشري التي بدت وكأنها تُفلِتُ من الوعي. ففي عام ١٨٩٠، كان ويليام جيمس، أحد «الآباء المؤسسين» لعلم النفس، يُشدِّد على مقدار القوة التي تُمارسها العمليات الاعتيادية والتلقائية على سلوكنا واستنتج أن هذه القُدرة على القيام بأشياءَ معقَّدة دون تفكير كانت مفيدة بصورةٍ جوهرية:

كلما زادت تفاصيل حياتنا اليومية التي يمكن أن نُودِعَها في رعاية العمليات التلقائية السهلة، ستتحرَّر المزيد من قدراتنا الذهنية العُليا للقيام بعملها الصحيح واللائق. فما من إنسانٍ أكثر بؤسًا من ذلك الذي ليس لدَيه شيءٌ اعتيادي سوى التردُّد، والذي يرى في كل سيجارة يُشعلها، وكل كوبٍ يشربه، ووقت الاستيقاظ والنوم كل يوم، وبداية كل عملٍ ولو صغير، موضوعات للتفكير المُتروِّي الواعي المباشر. فمِثل هذا الشخص يذهب نصفُ وقتِه بالكامل إلى اتخاذ قرارات، أو الندم، بشأن أمورٍ يُفترَض أن تكون متأصِّلةً فيه بحيث لا يكون لها وجودٌ فِعلي في وعيِه على الإطلاق.

خلال تلك الفترة تقريبًا، كان فيلهلم فونت (الذي بنَى أول مُختبر علم نفس في عام ١٨٧٩) يقترح التمييز بين الفعل الطوعي واللاطوعي؛ حيث الأول «بطيء ومُجهد وواع»، بينما الثاني «يتطلَّب القليل من الجهد ويعمل خارج نطاق السيطرة الواعية». ستُدرك أن ما كان يقترِحه جيمس وفونت مُشابهٌ تمامًا لمبادئ الرؤى السلوكية. ولكن مرَّت مائة عامٍ أخرى قبل أن يبدأ علماء النفس في الاتفاق على الأدوار النسبية للدوافع التلقائية والانعكاسية للسلوك وكيفية تفاعُلها. تتخطَّى قفزة المائة عام هذه كثيرًا من الأحداث (بما في ذلك صعود نجم «منهج السلوكية» وأفوله في منتصف القرن العشرين) وتهبط بنا في الفترة التي بدأ فيها كانمان وتفيرسكي في إجراء تجاربهما في السبعينيات.

في هذه المرحلة، استند كثيرٌ من نظريات السلوك إلى مبدأ أن مواقف الناس ودوافعهم ونواياهم تُحدِّد أفعالهم بقوة. ولعلَّ ما يدعم وجهة نظرنا تلك حقيقة أن واحدةً من أكثر هذه النظريات شعبيةً كانت تُعرف باسم «نظرية الفعل العقلاني». ولكن من هذه النقطة فصاعدًا، بدأ علماء النفس وعلماء الأعصاب إخراجَ كمياتٍ مُتزايدة من الأدلة التجريبية على أهمية الدوافع اللاواعية للسلوك.

وكانت تجارب كانمان وتفيرسكي على الاختصارات الذهنية جزءًا من هذا الاتجاه، ولكنها بعيدةٌ كلَّ البُعد عن القصة بأكملها. كان من الأمثلة البارزة الأخرى عمَل عالم النفس الاجتماعي روبرت سيالديني. فقد أوضح كتابه الشهير «التأثير» (١٩٨٤) كيف يُمكن تفسير أمثلة الإقناع اليومي (الذي يُمارسه مندوبو المبيعات أو الشركات مثلًا) من خلال استجابة الناس دون تفكيرٍ لأنواعٍ معيَّنة من المواقف أو الطلبات. وأدَّت هذه الأدلة المتراكمة إلى توافُقِ كثيرٍ من علماء النفس على نظريات المعالجة المزدوجة لتفسير السلوك.

يتلخَّص جوهر منظور المعالجة المزدوَجة في أن البشر لديهم طريقتان أساسيتان في التفكير تؤثِّران على سلوكنا. إحداهما محكومة، وبطيئة، ومُتأنية، وتأمُّلية، وواعية بذاتها. فهي تتطلَّب منا جهدًا مركزًا؛ ومن ثَم قد تكون لدَينا قدرةٌ أو نزعةٌ محدودة لاتخاذ القرارات بهذه الطريقة. وهذه هي العملية التي تحدُث عندما نُخطِّط لرحلةٍ غير مألوفة أو نتعلَّم لغةً أجنبية. وفي الاقتباس السابق، أطلق عليها ويليام جيمس «التفكير الواعي المباشر»، بينما نُسمِّيها نحن «النظام التأمُّلي».

لدى البشر طريقتان أساسيَّتان في التفكير تؤثِّران على سلوكنا. إحداهما محكومة، وبطيئة، ومتأنية، وتأمُّلية، وواعية بذاتها. أما الأخرى، فلا تخضع لسيطرتنا وسريعة وبديهية وغير واعية.

العملية الأخرى لا تخضع لسيطرتنا وسريعة وبديهية وغير واعية. ونظرًا لأنها تحدُث خارج إطار وعيِنا، فإنها تتطلَّب أيضًا القليل من الجهد منَّا؛ ومِن ثَم يُمكننا اتخاذ كثيرٍ من القرارات بهذه الطريقة دون تعب. هذه هي العملية التي تنشط ونحن نستقل المواصلات يوميًّا، أو نتحدَّث لُغتنا الأم، أو نؤدي نشاطًا مُعتادًا. بل تتضمن هذه العملية ردود الفعل الغريزية التي قد لا نربطها بصورةٍ وثيقة بمصطلح «التفكير» في حدِّ ذاته، مثل تقدير سرعة مَركبةٍ قادمة، أو الإجفال عند تعرُّض طائرة لمطبٍّ هوائي. وقد أطلق ويليام فونت على هذه العملية اسم «الفعل الطوعي»؛ بينما نُطلِق عليها الآن «النظام التلقائي».

يتفاعل كِلا هذَين النظامَين لإنتاج سلوكنا، ولكنَّ ثمَّة اتجاهًا عامًّا يتمثل في الاعتراف المتزايد بقوة النظام التلقائي. غير أن علم النفس نظر إلى هذا الاتجاه من منظورٍ مختلف تمامًا عن علم الاقتصاد. فبينما نظر علم الاقتصاد إلى النظام التلقائي من منظور الانحراف عن عملية اتخاذ القرار «العقلانية»، يرى كثيرٌ من علماء النفس أن لغة «التحيُّز» مَعيبة؛ لأنهم لا يَمتلكون نموذجًا معياريًّا متفقًا عليه للانحراف عنه من الأساس. ويؤكِّد كثيرٌ منهم على أن النظام التلقائي غالبًا ما يُسفِر عن نتائجَ أفضل. وقد كانت هذه الاختلافات مصدر جدلٍ كبير في الواقع.

زعم بعض الباحثين، على رأسهم عالم النفس جيرد جيجرينزر، أن منظور الاقتصاد السلوكي معيب بسبب تركيزه الواضح على تحديد الانحيازات وتصحيحها. وهذا التركيز، من وجهة نظرهم، يُقوِّض قدرة الأشخاص على اتخاذ قرارات جيدة. ويركزون بدلًا من ذلك على قوة الاستدلال ويقولون إن العامل الرئيس هو ما إذا كانت مثل هذه الأساليب الاستدلالية تتوافق بصورةٍ جيدة مع بيئة صنع القرار؛ بعبارة أخرى، ما إذا كانت هناك «عقلانية بيئية». لذا، فإن أفضل مسار عملٍ لأولئك الذين يَسعَون إلى تحسين عملية صنع القرار هو توعية الناس بكيفية استخدام الاستدلال عل نحوٍ فعَّال. الفكرة هي أن الحكومات يمكن أن تُساعد في «تعزيز» قدرة الناس على استخدام النظام التلقائي، بدلًا من مجرد التحايل عليه. على العكس من ذلك، لا يرى دانيال كانمان شيئًا مُبشرًا في هذا النوع من النهج، وهو ما يعزوه تحديدًا إلى أننا لا ندرك متى يُوجِّهنا نظامنا التلقائي.

تكمن قوة نهج الرؤى السلوكية في قُدرته على دمج كِلا المنظورين. في بعض الأحيان يكون الخيار الأفضل هو تصميم سياسة تستغلُّ النظام التلقائي لتوجيه الناس نحو خياراتٍ مُعينة؛ وفي أحيانٍ أخرى، ستكون مساعدة الناس على تطوير قواعد أساسية فعَّالة، مثل أمثلة التثقيف الغذائي المذكورة في الفصل الأول، أكثر فاعلية. من منظور الرؤى السلوكية، لا بد أن تُحدِّد قوةُ الأدلة أيَّ نهج يُتَّبَع، أو كيف ينبغي الجمع بين الخيارات بما أنها ليست مُتعارضة. وهذه الطبيعة البرجماتية والقائمة على الأدلة لنهج الرؤى السلوكية هي أحد الأسباب التي جعلته يُثبت جاذبيتَه للحكومات، كما يوضح آخِر مسار في تاريخنا.

* مقتطف من كتاب (الرؤى السلوكية)، للمؤلفين مايكل هالزوورث وإلزبِث كيركمان، ونشر مؤسسة هنداوي

اضف تعليق