q
ما يشدني اليها تشربها بالأصيل من القيم، والنبيل من العادات، والسامي من الأعراف، بطبعي أعشق المجتمعات القيمية، وتميل نفسي الى ما هو معنوي، وتنبذ ما هو مادي، ذلك ان الحياة تفقد معانيها اللذيذة بلا قيم، بدلالة ان حياة الغرب فاقدة للمعنى بالرغم من استقرار الحياة ورفاهية العيش...

ولادتي لم تكن فيها، ولم أعش وطرا من شبابي على ضفاف نهرها او بين حقولها الخضر، ولم يحدث أن مر جزء من شيخوختي بين مضايفها العامرة بكل ما هو أصيل، ولم تربطني بأمكنتها الذاوية ذكريات من نوع ما، أزورها في أوقات متباعدة قد يمتد بعضها لسنوات، لكني في كل زيارة أشعر بفرح غامر يدب في أنحاء  جسدي، لا أعرف على وجه التحديد ما هو؟، أفسره بغير اقتناع بنسبة الأوكسجين العالية التي توفرها بيئة معطرة برائحة العنبر، ومرة أقول لا، قد تنتقل جينات عشق الأمكنة بالوراثة، كونها موطن الآباء والأجداد، فترسبت حكايات بلا ملامح في ذاكراتي، وما أن تحط قدماي في دروبها حتى أشعر اني غيري، غير ذاك الذي أعرفه، قد تستغربون ان قلت، يحضرني من قاموس مفرداتها ما لم أستخدمه في كلامي عندما أكون خارجها. وأحيانا تراودني فكرة ان الأوطان ليست الأمكنة، بل هم الناس، فحيثما تملكك انتماء لهم، تشعر ان هذا هو الوطن وغيره غربة، لا أدري، ربما يكون عشقا مختلفا، وعبثا تبحث عن أسبابه .

ليس بالضرورة أن يكون العشق لامرأة، بل قد يكون مكانا يحرك فيك مشاعر الوجد، ألم يعشق الشاعر الفلسطيني محمود درويش بيروت؟، وعندما ينطق أسمها تسمع همس المشاعر قبل رنين الحروف، وقد تكون الحبيبة شجرة يغازلها صاحبها بأرق المشاعر صباح مساء، ينظر الى أغصانها كيف تنمو، والى بريق ثمارها كيف يلمع تحت خيوط الشمس، صدقوني: لقد مرض صديقي لموت شجرة غرسها في حديقة منزله، وعندما عجبت لحاله قال: كنت أذرع طولها بمشاعري. ألم تتسرب اليكم أحزان شاعرنا الكبير بدر شاكر السياب وهو يوثق لنهره الحبيب (بويب)، حتى بلغ عشقه أصقاع الدنيا؟، فصار الناس متشوقين لرؤية بويب، مع انه نهر صغير ومثله العشرات في بلادنا وغيرها .

هكذا هي حالي مع (المهناوية) الناحية التي مازالت قرية بكل معانيها وان بُنيت بعض أجزائها بالاسمنت والطابوق، وان عُبدت بعض شوارعها بعد  طول انتظار دام عقود، ومع ذلك لم يتغير شكلها، فقد رأيتها بهذه الحال منذ أكثر من خمسين عاما عندما اصطحبتني والدتي لزيارة بعض الأقرباء، حينها كنت طالبا في السادس الابتدائي، وقد تعاقبت عليها حكومات ملكية وصفها الكارهون بالرجعية والمحبون بالناضجة المستقرة، وأخرى جمهورية نعتها عشاقها بالتقدمية وأعداؤها بالدكتاتورية المقيتة، وانتهى المآل الى من يرى في نفسه وكيل الله في أرضه، الا ان المهناوية مازال وجهها متربا، وأقدامها متشققة، وشفاهها متيبسة فرط القهر، وظهرها محنيا من أسواط الظلم، ومع كل هذا الحزن الذي يلفها ظلت حضنا دافئا لأبنائها، ووجها باسما لعشاقها، ومضيفا بلا أبواب لضيوفها .

ما يشدني اليها تشربها بالأصيل من القيم، والنبيل من العادات، والسامي من الأعراف، بطبعي أعشق المجتمعات القيمية،  وتميل نفسي الى ما هو معنوي، وتنبذ ما هو مادي، ذلك ان الحياة تفقد معانيها اللذيذة بلا قيم، بدلالة ان حياة الغرب فاقدة للمعنى بالرغم من استقرار الحياة ورفاهية العيش، ولكن ما يحزنني في هذه المنطقة وأمثالها أمراضها الاجتماعية التي خلفها العوز والظلم والقهر والعزلة، وما أفرزه ذلك من عادات وأعراف بالية، نخرت في جسد مجتمعها، وأوقعت من الحوادث ما يستعصي محوه من الذاكرة .

 

تذكرني هذه الحسناء بكل ادعاءات الأنظمة حول التغيير الاجتماعي الذي لم يبدأوه أصلا، لذا لم يتغير من حالها سوى تلك التي غيرها الزمان وليس الحكومات، وهو تغيير بطيىء لم يرتق بها، فتخلفت، ومع ذلك يعيبون عليها تخلفها مع انهم أسباب التخلف . عذرا، لا أظن أحجاري البيضاء ستحرك الراكد من المياه، او تلفت عين التفاهة لجمال الأشياء  .

اضف تعليق