q
مع انحلال العدل والإنصاف يغيب التفاهم والتفاوض والتصالح، وتتصاعد النزاعات وتتحول الى انشقاقات وصراعات، وتصبح بالتالي حروبا كبيرة فيما بين الناس، لأن الإنسان عندما يرى إن حقه الذي يستحقه لم يحصل عليه، وهناك من يسلب الحقوق فإنه لن يقبل بهذا التجاوز، وهؤلاء الذين يستلبون الحقوق يتصارعون...

ماهو دور الاعتدال في حل النزاعات واستيعاب الصراعات؟ وفي المقابل كيف يقوم التطرف بإشعال الفتن والصراعات والنزاعات فيما بين الناس؟ ولحل النزاعات ذكرنا بأن هناك معايير وقواعد لابد أن نرجع إليها في حلها.

إن المعايير الثابتة المطلقة لها دور اساسي في استيعاب النزاعات ووقف الصراعات، بالأساليب الجيدة والطرق المنطقية التي تتناسب مع واقع حركة الإنسان والمجتمعات الإنسانية، وقد ذكرنا في المقال السابق بأنه من أهم المعايير التي يجب أن نرجع إليها في تحديد الحق من الباطل، والإنصاف في التحكيم الصحيح وتحقيق العدالة، هم أهل البيت (عليهم السلام).

حيث أن القيادة لها دور جوهري في عملية حل النزاعات، ووضع القواعد والمعايير التي يجب أن يتبعها الناس في تنظيم علاقاتهم.

هذه القيادات التي تتصف بالنزاهة والنظافة والطهارة والفهم والمعرفة والعلم هي قادرة على أن تحقق مفهوم الالتزام والطاعة عند الناس، فكلما تكون القيادة نزيهة وطاهرة وكفوءة يلتزم الناس بها، ويطيعونها، ويلتزمون بتلك المعايير التي تحقق العدالة والاستقامة والاعتدال والإنصاف دون تمييز بين الناس، وبالتالي يبتعدون عن النزاعات والصراعات.

عندما تظهر الحقيقة يغيب النزاع

إن الآية القرآنية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)، النساء 59، تُرجعنا إلى أهل البيت (عليهم السلام)، الذين يضعون المعايير والقواعد والحدود، وبالتالي يبتعد الناس عن النزاعات ويحققون الانسجام والتفاهم والتعايش فيما بينهم.

وقد رُوي عن الإمام الحسين (عليه السلام) قوله: ((نحن حزب الله الغالبون، وعترة نبيه الأقربون، أحد الثقلين اللذين جعلنا رسول الله (ص) ثاني كتاب الله، فيه تفصيل لكل شيء، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والمعول علينا في تفسيره، لا نتظنى تأويله، بل نتبع حقائقه، فأطيعونا، فان طاعتنا مفروضة إذ كانت بطاعة الله ورسوله مقرونة، قال الله: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فان تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول))(1).

نلاحظ أن هذا الحديث يعبّر عن أهمية أهل البيت (عليهم السلام)، في عملية بناء الحقائق، فعندما تغيب الحقيقة يظهر النزاع، وعندما تكون الحقيقة قوية يغيب النزاع، ولكن عندما تكون الحقائق غائبة والحق غير واضح يتنازع الناس فيما بينهم، حول فهم القضايا، ويكبر الاختلاف، ويظهر التنازع وبالتالي تندلع الصراعات والحروب.

أما إذا كانت هناك قواعد ومعايير ثابتة وقادة واضحون نزيهون طاهرون، سوف نستطيع من خلال ذلك أن نوقف كل المشكلات والمسائل التي تؤدي إلى النزاع بين الناس وتحول الاختلاف بين آرائهم الى صدامات، وبالتالي يؤدي ذلك إلى وجود حالة من الاختلال السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وظهور البؤس والنزاعات في تلك المجتمعات، هذا ماطرحناه في النقطة الأولى في المقال السابق.

النقطة الثانية: غياب التحكيم العادل

(وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) النساء 35.

هذه الآية الكريمة تؤكد على ضرورة وجود التحكيم العادل والمنصف، حيث يؤدي ذلك إلى تحقيق التوازن والاعتدال في الحقوق، وعدم ضياعها واهتزازها، حيث يؤدي غيابها إلى النزاع بين الناس، فإذا تم الحفاظ على الحقوق وحافظت الناس على حقوق بعضهم بعضا في ظل الإنصاف والعدالة في الحياة، فإنهم سوف لا يتنازعون بل يتفاهمون وينسجمون، ويحترم أحدهم الآخر.

ولكن عندما يغيب التحكيم المنصف ويغيب الإنصاف وتغيب العدالة، يؤدي ذلك إلى عملية تخلخل التوازن الاجتماعي وظهور التطرف والصدام والعنف فيما بين الناس.

الميزان وحفظ الحقوق

يمثل الميزان اهم مفهوم يعبر عن تحقيق التوازن في الحقوق، ودرء الفساد الاجتماعي.

يقول الله تعالى في كتابه الكريم:

(وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ، وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ) هود84/85.

 فكلمة الميزان تعني الاعتدال والاستقامة، واتباع المعايير الصحيحة المتوازنة في الحياة حتى لا تنقص الحقوق، ولا تزيد الحقوق بل تكون متساوية ومتوازنة.

كل يأخذ حقه بقدره الذي يستحقه، ولا يأخذ أكثر من استحقاقه، ولا يضيع حقه الذي يستحقه، هنا في هذه الآية الآيات القرآنية نفهم عدة معاني:

أولا: إن الميزان يحمي الحقوق

أي أن التوازن والاعتدال يحمي الحقوق، بالعدل والتقسيم العادل، ولا ينقصها ولا يأخذها طرف معين، وليس هناك ميل لطرف معين، ولا يزيدها لطرف آخر، عملية التوازن والميزان هذه هي التي تحقق الإصلاح والإيمان، وتحقق العواقب الخيرة في الحياة، فالخير للإنسان يأتي من الميزان الصحيح والسليم، ويأتي من الاعتدال والتوازن في الحياة.

ثانيا: التوازن والانسجام يتحقّق من الوفاء

الذي نفهمه من هذه الآية القرآنية، هو معنى الاتفاق والالتزام المشترك بين أفراد المجتمع، وهذه هي قاعدة الاستقرار، فعندما يلتزم الناس بهذا الميزان العادل يتحقق الاستقرار، وتتحقق الاستقامة، ويتحقق الأمن ورضا الناس النفسي والروحي والجسدي، ولكن عندما لا يفي الناس بالتزاماتهم، ولا يفي الناس بتعاقداتهم التي اتفقوا عليها، فإن هذا يؤدي إلى اختلال الميزان وفقدان التوازن.

ثالثا: الميزان يأتي بالعواقب الحسنة

من خلال حماية الحقوق بالتوازن، ومن خلال الوفاء بالالتزام والاتفاق، فإن هذا الأمر يأتي بالخير كله، وتأتي العواقب الحسنة كلها، وكل هذه العواقب الحسنة تأتي بالإنصاف والاعتدال في الحقوق. فإذا غاب هذا الاعتدال وغاب هذا الإنصاف والتوازن، تختل العواقب فيزول الخير عن الإنسان، ويتجه نحو الشر، وبالتالي تتخلخل حياته ويفقد توازنه.

رابعا: عدم الإنصاف يفتح أبواب الشر

إن تنقيص الحقوق وعدم إنصاف الناس في حقوقهم وبخس الحقوق، وتقليلها، وعدم إعطاء الحق المطلوب الصحيح السليم، يفتح كل أبواب الشر التي تأتي منها جميع القضايا النفسية السيئة، والتصرفات والسلوكيات المسيئة التي تنتج عن عدم مراعاة الحقوق، كالكذب والاحتيال والغش والخيانة والخوف والنفاق.

ان الاحتيال والغش ينشأ في المجتمع، عندما يختل الميزان، فالناس يلاحظون غياب الحقوق، وأن هناك من يتجاوز على حقه بالغش والاحتيال، في حين أن من يأخذ الحقوق بالاحتيال فهذا ليس بحق، بل هي سرقة ولصوصية، وعندما كل شخص لا يرجع إلى معايير التوازن والعدالة والاعتدال، فيصبح هناك احتيال وغش وسلب وخيانة.

وهذا الأمر يفتح كل أبواب الشر ويغلق كل أبواب الخير، وأبواب الخير متعلقة بالميزان، وأبواب الشر تُفتَح نتيجة لاختلال المكيال والميزان وبخسه وبخس الحقوق.

خامسا: صراع جدلي بين الفساد والإصلاح

كلّما أوغلوا في البخس تضخّم الفساد، وفي هذه الحالة سوف يغيب الإصلاح، ودائما هناك صراع جدلي بين الفساد والإصلاح، والفساد يعبر دائما عن اختلال الموازين، وعن النفس الشريرة الخبيثة التي تزداد فيها الرذائل، فيؤدي ذلك إلى الفساد، ولكن دائما في مقابل ذلك هنالك إصلاح يرمّم هذا الفساد ويصلحه ويُرجِع الإنسان أو المجتمع إلى حالته الطبيعية أو قريب من الحالة الطبيعية، فيصبح هناك نوع من التوازن فيما بينهما وعدم هيمنة الفساد.

ولكن في أكثر الأحيان يتغوَّل الفساد، ويتضخم في غياب الإصلاح، وبالنتيجة يختلّ الميزان إلى أبعد حد، وهذا ما عبرت عنه الآية القرآنية في قولها: (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) الشعراء 183. وهذا يعني أن الفساد أصبح قويا جدا في داخلهم، وأصبح شرعيا وقانونيا، أي أنهم شرعنوا الفساد وجعلوه طبيعيا يتلبس شكل الصلاح، فجعلوا الصالح باطلا والفساد صالحا.

تضخّم الفساد باختلال الميزان

(لا تعثوا في الأرض مفسدين) هكذا أصبح الفساد بهذه الدرجة عندما أخذ يتضخم نتيجة لاستمرار اختلال الميزان، وبالنتيجة ينبعث الشر كله، ومن صلب هذا الشر تظهر المواقف السيئة، وتحصل المشكلات الكبيرة التي تفتك بالمجتمعات فتقع في هذا المستنقع السيّئ الموبوء بالرذائل والأشياء الشريرة، فيكون هناك القلب المريض، والنفس المعتلة مع شيوع القلق والتوتر وعدم الشعور بالسعادة.

لأن المال الحرام لا يعطي السعادة لأي إنسان، ولا يشعر الإنسان بأنه يستحق هذا المال، بل هو مال باطل، وهو احتيال وغش وكذب، فهو يعرف أنه لا يستحق هذا المال لذلك يرفضه ضميره، ولا يستسيغه ولا يقبله، لذلك فإن هذا الفساد يكون دائما مقرونا بالتعاسة والشعور بالبؤس وعدم الإشباع من الحاجات النفسية الطيبة اللذيذة عند الإنسان.

سادسا: غياب التفاهم بغياب العدل

مع انحلال العدل والإنصاف يغيب التفاهم والتفاوض والتصالح، وتتصاعد النزاعات وتتحول الى انشقاقات وصراعات، وتصبح بالتالي حروبا كبيرة فيما بين الناس، لأن الإنسان عندما يرى إن حقه الذي يستحقه لم يحصل عليه، وهناك من يسلب الحقوق فإنه لن يقبل بهذا التجاوز، وهؤلاء الذين يستلبون الحقوق يتصارعون فيما بينهم، وهناك غياب للتفاهم والتصالح فيما بين الناس، ويوجد صراع على الموارد المختلفة، بالتالي يؤدي هذا إلى تحول الاختلافات الشديدة إلى نزاعات.

منطق التمرّد الشيطاني

لأنه هنالك غياب للإنصاف، وغياب للنفس الطيبة المتَّقية التي ترى في النزاع والصراع جريمة كبرى، تنبعث الشرور وتهتز الحياة الإنسانية، فغياب العدل خلاف لفطرة الإنسان وضميره، ومعارض للمنطق السليم في الإنسان العاقل، بل ان الظلم هو منطق الشر والتمرد الشيطاني الذي يبحث عن استخراج الشر في كل مكان، ويستفز جميع كوامن الشر وكل الرذائل السيئة، من الحسد والخبث والكذب والخيانة والاحتيال.

وعن الإمام علي (عليه السلام): (سبب الشحناء كثرة المراء)(2)، الشحناء تعني النفوس المشحونة بالعداوة والحقد والتغالب بالصراع والنزاع، فلماذا تنشأ هذه الشحناء والكراهية ويتصاعد سوء الظن بالآخرين، الجواب: ينشأ من كثرة المراء، فماذا يعني المراء؟

المرائي يبحث عن الصراعات

إن المراء يعني المجادلة والخصومة بهدف إظهار القوة والغلبة على الطرف الآخر، والتقليل من شأنه، ولا ينتهي هذا المراء، إلا بالخصومة والنزاع، أو تأجيج نار الحقد في النفوس، فلذلك فإن هذا المراء الذي يعبر عن النفس الميالة للنزاعات مع الآخرين، والنفس التي تميل للخصومة مع الآخرين، والمرائي نفسه تبحث عن المشكلات والصدام والصراع.

فالمراء ينتج من خلال الجدال بالكلام، والجدال بالأفكار، وهو لا يبحث عن احقاق الحق بل يتجه بسلوكه نحو الباطل، فالمرائي بجدله السقيم يصنع الصراعات، وفي بعض الأحياء يتحول المراء إلى ثقافة تدخل في نفس الإنسان وترسخ في أعماقه وهو لا يشعر بأن هذا المراء موجود في داخله، لا يشعر بذلك، ولكن أصبح ثقافة راسخة تنتج الصراع.

صناعة المشكلات

يقول بعض الناس، إذا لم أدخل خلال يوم واحد في صراع أو اثنين أو ثلاث مع الناس، فإنني لا أشعر بالراحة، فلابد أن يصنع مشكلة مع طرف ثانٍ، مثلا لابد أن يصنع مشكلة بسيارته مع سيارة ثانية، أو مع مالك لسوبر ماركت، أو في داخل بيته مع زوجته أو مع أحد أفراد عائلته، أو مع أحد زملاء العمل، أو مع المراجعين إذا كان موظفا.

فلابد لهذا النوع من الناس أن يصنع مشكلة مع الآخرين، لأن المراء والبحث عن الصراع أصبح في داخله كثقافة راسخة، وسلوكا ثابتا في داخله للأسف الشديد، فهذا الحال موجود لدى بعض الناس وهو يؤدي إلى المزيد من الكراهية والأحقاد، والمشكلة أن هذا النوع من الناس يربون أبناءهم على الشحناء والخصومة.

فنلاحظ أن هذا النوع من العائلات تتغذى بالكراهية دائما ضد الآخرين، فيتربى هذا الإنسان على الصدام وعلى الصراع وعلى النزاع، لذلك يؤدي المراء إلى الشحناء، والعداوة والكراهية.

الإصلاح بالتحكيم

ندخل الآن في البحث الذي طرحناه، وهو يتعلق بقضية التحكيم في حل النزاعات، فالآية القرآنية (إِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا)، تأتي في عملية حل النزاع بين زوجين، بلغت الأمور بينهما إلى حد الانفصال أو الطلاق فيما بينهما، فهنا يوجّه القرآن الكريم إلى حل رائع وجميل جدا في حل المشكلات الزوجية، حيث الخلافات الزوجية تعدّ من أهم الخلافات الاجتماعية، فإذا أستطاع المجتمع أن يغيّر ثقافة العلاقات الاجتماعية ويستوعب الخلافات الزوجية، سوف يستطيع أن يستوعب كل الخلافات الاجتماعية الأخرى.

فهذه العملية المتعلقة بالحلول التي يحصل عليها المجتمع من خلال المصالحة العائلية والأسرية، تؤدي إلى انبعاث السلام وانبثاق الوئام والتصالح ودرء النزاعات عن المجتمع، وهذه الآية القرآنية توجّه الناس نحو هذا المطلب، (وإن خفتم شقاقا)، بمعنى لابد للإنسان أن يحذر من الصراعات، ويتحصن من النزاعات ويقف امام الانشقاقات، لأنها خطيرة جدا بسبب تهديدها الأمن المجتمعي والأمن العائلي والاقتصادي.

الشقاق والأمن التربوي

كذلك تهدد الأمن التربوي في المجتمع، فالإنسان إذا تربّى على ثقافة الانشقاق سوف يتربّى منشقّا هشّا، ضعيف النفس، ولا يوجد عنده استقرار، لأنه الشقاق والنزاع والصراع يؤدي إلى عملية تحطيم النفس الداخلية للإنسان، حيث يرى إن الحياة ليس فيها استقرار ولا انسجام ولا تفاهم وعدم القدرة على الانسجام والتعايش مع الآخرين، ولذلك فإن الشقاق أمر خطير جدا.

علينا أن نعتبر الشقاق والنزاع والصراع من المخاطر الكبيرة جدا في المجتمع، لذلك علينا أن نخاف دائما منها ونضع لها خططا كي نستوعب هذه الشقاقات، وعدم الوصول إلى هذه المرحلة من التصدع، والشقاق تعني المباعدة، الانفصال، التباين، وابتعاد البعض عن البعض الآخر، وإذا انشق الشيء، أي أصبح شيئين، بعد أن كان شيئا واحدا. فمعنى الشقاق أي المباعدة، والمباينة، والشقاق يأتي من الشق، مثلا شق الحائط أو الجدار، وهو الجزء البائن، فشق صاحبه بالعداوة، يعني أصبح عدوّا له، فالمتشاقان كل واحد منهما في شق غير شق صاحبه، بالعداوة، أي في ناحية. وعكسه التوفيق وأصل التوفيق: الموافقة، وهي المساواة في أمر من الأمور.

بناء الاعتدال الاجتماعي في حل النزاعات

فماذا نفهم من هذه الآيات بما يصب في مفهوم بناء الاعتدال الاجتماعي، ومواجهة النزاعات واستيعابها، واستثمار الاعتدال الإنساني والتوازن النفسي في مواجهة النزاعات، واقتلاع النزاع والشحناء من نفس الإنسان، واجتثاث الصدام والكراهية والتطرف من نفس الإنسان.

فمن خلال هذه الآيات القرآنية، ومن خلال أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) كيف نفهم الطريق الأمثل لترسيخ مفهوم الاعتدال، واقتلاع النزاعات وحلها واستيعابها وإيجاد الحلول الوسطية فيما بين الناس، هناك مراحل وأسباب تبدأ منها النزاعات والصراعات ومن خلال فهمها نصل الى الحلول المناسبة، وهي:

أولا: الاختلاف

يوجد في الاختلاف جانبان، الأول إيجابي وهو الاختلاف في الرأي، فكل إنسان له رأيه، ولا يوجد إشكال في ذلك، فالإنسان يختلف في آرائه وأذواقه وأفكاره عن الآخرين وفي رؤيته إلى الأمور، وهذا شيء طبيعي، ولكن إذا تحول هذا الاختلاف إلى عملية استبداد وتمسك بالرأي، يصبح الاختلاف سلبيا، وهذا الاختلاف السلبي يتحول إلى تنازع فيما بين الطرفين.

وعندما يستحكم النزاع ولا يلجأ الناس إلى الحلول، كما جاء في الآية القرآنية (فردّوه إلى الله ورسوله)، لم يرجع المتنازعون إلى المعايير الحقيقية وإلى الحقائق الثابتة، وإلى أهل البيت (عليهم السلام)، فيتحول النزاع إلى شقاق وانفصال وخصومة شديدة فيما بين الناس، ويتحول هذا الشقاق إلى أمراض.

وهذه الأمراض لا تبقى ثابتة على حالها، لأن الأمراض إذا لم تُعالَج بطريقة صحيحة ومناسبة، وليس هناك دواء مناسب لهذا المرض، فسوف يتضخم ويكبر، كذلك الاختلاف السلبي، إذا لم يُعالج سيتحول إلى نزاع، ثم يتحول إلى انشقاق، والانشقاق يتحول إلى صراع، فأما يكون صراعا لفظيا، أو صراعا من نوع آخر.

ولا ينتهي الأمر إلى ترك الطرفين بعضهما للبعض الآخر، أي كل طرف يترك الطرف الآخر ويمضي في حال سبيله، بل يتحول الخلاف إلى صدام فيما بين الطرفين، وقد يكون عنيفا، سواء كان ذلك في الكلام أو في القلب، أو بالأيدي، وفي مراحل معينة يتحول إلى حروب عنيفة دموية، بين الدول، وبين الجماعات.

ثقافة حلّ النزاعات

وإذا لم تتوفر في المجتمع ثقافة لحل هذه النزاعات، فإنها سوف تتحول إلى صراعات متضخمة وخطيرة، تهدد أمن البلد، واستقراره، وتهدد الأمن الاجتماعي.

وعن الإمام الهادي (عليه السلام): (المراء يفسد الصداقة القديمة، ويحلل العقدة الوثيقة، وأقل ما فيه أن تكون فيه المغالبة، والمغالبة أس أسباب القطيعة)(3)، يعني تبدأ القطيعة والنزاع من هنا، حيث يريد الإنسان أن يكون الغالب وحده، وهو المسيطر على الآخرين وهو الذي يفرض رأيه عليهم، بغض النظر عن كونه محقّا أو باطلا.

وعن الامام علي (عليه السلام): (جماع الشر اللجاج وكثرة المماراة)(4).

إذا كان محقّا لابد أن يترك المراء، كما في حديث روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (رسول الله صلى الله عليه وآله قال: أنا زعيم ببيت في ربض الجنة، وبيت في وسط الجنة وبيت في أعلى الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا، ولمن ترك الكذب وإن كان هازلا، ولمن حسن خلقه)(5). وإذا كان باطلا فمن الأوجب عليه أن يترك المراء، ولا يذهب إلى حد بعيد في إفساد الصداقات، وتلويث العلاقات الاجتماعية، فيؤدي إلى قطيعة متواصلة فيما بين الناس.

ثانيا: الاعتدال

الاعتدال هو الطريق الأمثل لحل النزاعات والوقوف امام الانشقاقات واندلاع الصراعات، لذلك ترى ان اهم مسببات الصراعات هو التطرف، والذهاب الى مديات بعيدة في التخالف مع الآخرين والجدال الاعمى، وعن الامام الصادق (عليه السلام): (إياكم والخصومة في الدين فإنها تشغل القلب عن ذكر الله عز وجل وتورث النفاق وتكسب الضغائن وتستجير الكذب)(6).

ثالثا- التفاوض

مع وجود التنازع والاختلاف يمكن التفاوض للتفاهم على الحل، فما يقرب اكثر ما يبعد، ولكن مع الانشقاق يحصل التباين والانفصال فيصعب جدا إيجاد التصالح وتضمحل الغايات الاجتماعية في العيش المشترك ويهتز النظام الاجتماعي، وعن الامام علي في وصيته لولديه الحسن والحسين (عليهم السلام): (أُوصِيكُمَا وَجَمِيعَ وَلَدِي وَأَهْلِي وَمَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي بِتَقْوَى اللَّهِ وَنَظْمِ أَمْرِكُمْ وَصَلَاحِ ذَاتِ بَيْنِكُمْ فَإِنِّي سَمِعْتُ جَدَّكُمَا صلى الله عليه وآله يَقُولُ صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَام)(7).

وعن الامام الصادق (عليه السلام): (صدقة يحبها الله إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا، وتقارب بينهم إذا تباعدوا)(8).

رابعا- إرادة الاصلاح

يجب ان تكون إرادة الإصلاح اقوى من عدم ارادتها، فبعض الناس تخنقهم العداوة والكراهية، وان كانت تؤدي الى عواقب وخيمة.

(فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) الأنفال 1.

(وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) الحجرات 9/10

وعن الإمام الباقر (عليه السلام): (إياك والخصومات، فإنها تورث الشك، وتحبط العمل، وتردي صاحبها، وعسى أن يتكلم الرجل بالشيء لا يغفر له)(9).

وعن الإمام علي (عليه السلام): (إياكم والمراء والخصومة، فإنهما يمرضان القلوب على الإخوان، وينبت عليهما النفاق)(10).

خامسا- العقل يرشد والمزاج يعمي

العقل يرشد الانسان الى أهمية التوافق من خلال التفاهم والتنازل والليونة، ولكن المزاج الغاضب المتمخض عن الانفعال وهوى النفس وتجبرها وتكبرها يؤدي الى الصدام والاستغراق في الباطل، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): (إن من التواضع أن يرضى الرجل بالمجلس دون المجالس، وأن يسلم على من يلقى، وأن يترك المراء وإن كان محقا، ولا يحب أن يحمد على التقوى)(11).

الإمام الجواد (عليه السلام): (حسب المرء من كمال المروة... ومن اسلامه تركه ما لا يعنيه وتجنبه الجدال والمراء في دينه... ومن عقله إنصافه من نفسه، ومن حلمه تركه الغضب عند مخالفته، ومن إنصافه قبوله لحق إذا بان له...)(12).

سادسا- ثقافة الانصاف

ثقافة الانصاف من النفس تقبر النزاعات وتوقف التنقيص وتحقق الاعتدال والمحبة، فغياب الانصاف يؤدي الى تصاعد الشعور بالحيف والغضب وبالتالي تولد الانفلات العنيف تجاه الجميع دون تمييز.

وعن الامام علي (عليه السلام): (اسْتَعْمِلِ الْعَدْلَ وَاحْذَرِ الْعَسْفَ وَالْحَيْفَ فَإِنَّ الْعَسْفَ يَعُودُ بِالْجَلَاءِ وَالْحَيْفَ يَدْعُو إِلَى السَّيْفِ)(13).

لذلك فإن الانصاف يعتبر قمة العقل في تحقيق معادلة استجلاب الأرباح للجميع وبناء السلم الاجتماعي عبر توازن الحقوق وتكافلها المشترك.

وعن الامام علي (عليه السلام): فَالْحَقُّ أَوْسَعُ الْأَشْيَاءِ فِي التَّوَاصُفِ وَأَضْيَقُهَا فِي التَّنَاصُفِ لَا يَجْرِي لِأَحَدٍ إِلَّا جَرَى عَلَيْهِ وَلَا يَجْرِي عَلَيْهِ إِلَّا جَرَى لَهُ... ثُمَّ جَعَلَ سُبْحَانَهُ مِنْ حُقُوقِهِ حُقُوقاً افْتَرَضَهَا لِبَعْضِ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ فَجَعَلَهَا تَتَكَافَأُ فِي وُجُوهِهَا وَيُوجِبُ بَعْضُهَا بَعْضاً وَلَا يُسْتَوْجَبُ بَعْضُهَا إِلَّا بِبَعْضٍ)(14).

لذلك فإن تحول الانصاف الى ثقافة اجتماعية راسخة تؤدي الى بناء سلوك اجتماعي يبتعد عن التجبر والتكبر والطغيان.

وعن الامام الحسين (عليه السلام): (فَمَنْ أَنْصَفَ وَقَبِلَ الْحَقَّ وَتَرَكَ الْمُمَارَاةَ فَقَدْ أَوْثَقَ إِيمَانَهُ وَأَحْسَنَ صُحْبَةَ دِينِهِ وَصَانَ عَقْل)(15).

وأخيرا لابد من التأكيد على أهمية وجود مؤسسات تحكيم رصينة تقدم الاستشارات والحلول، تحصينا من التطرف والصراع وتحقق الاعتدال في التعامل المشترك بين افراد المجتمع، تدعمها لجان ثقافية اجتماعية تقوم بتوعية الناس بأهمية الصلح والتفاهم والتعايش وتركز على البناء الثقافي لسلوكيات الاعتدال والانصاف واحترام الحقوق.

وهذه المؤسسات الاستشارية واللجان الاهلية يجب ان تقوم على الحياد والحكمة وتهدف الى الإصلاح والتقريب، بوجود افراد وخبراء وحكماء يمتلكون المهارات التخصصية والقيم الأخلاقية، مما يؤدي الى بناء حاضنات صحية تحتوي التطرف والعنف والنزاع، وترسخ الاعتدال والتسامح والتعايش.

..............................

(1) بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٤٤ - الصفحة ٢٠٥.

(2) عيون الحكم والمواعظ - علي بن محمد الليثي الواسطي - الصفحة ٢٨١.

(3) بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٧٥ - الصفحة ٣٦٩.

(4) غُرَرُ الحِكم ودُرَرُ الكلِم، الشيخ عبد الواحد بن محمد التميمي الآمدي، الحديث رقم: 10638.

(5) بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٢ - الصفحة ١٢٨.

(6) بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٢ - الصفحة ١٢٨.

(7) نهج البلاغة - كتب الإمام علي (ع)، الكتاب رقم: 47.

(8) الكافي - الشيخ الكليني - ج ٢ - الصفحة ٢٠٩.

(9) الكافي - الشيخ الكليني - ج ١ - الصفحة ٩٢.

(10) الكافي - الشيخ الكليني - ج ٢ - الصفحة ٣٠٠.

(11) معاني الأخبار - الشيخ الصدوق - الصفحة ٣٨١.

(12) كشف الغمة - ابن أبي الفتح الإربلي - ج ٣ - الصفحة ١٤٠.

(13) نهج البلاغة - حكم الإمام علي (ع)، حكمة رقم 476.

(14) نهج البلاغة - خطب الإمام علي (ع)، الخطبة رقم: 216.

(15) منية المريد - الشهيد الثاني - الصفحة ١٧١.

اضف تعليق