q
حسب المعطيات فإن الحكومة العراقية لا تريد اخراج القوات الأميركية دون رغبة الاخيرة، لان ذلك سيضر بمصالح البلد نظراً للأوراق التي تمتلكها واشنطن للضغط على العراق اقتصادياً وامنياً وسياسياً، لكن بسبب ضغط فصائل المقاومة الضاغطة باتجاه إخراج القوات الأميركية من العراق، تعمل الحكومة الان بشكل اضطراري...

زار رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني واشنطن في منتصف شهر نيسان الجاري، بناءً على طلب امريكي، التقى فيها الرئيس الامريكي جو بايدن وتم فيها بحث ملفات مختلفة اهما: الاستثمار والاقتصاد، لكن مع ذلك برزت مسألة الوجود الاجنبي- الامريكي في العراق كأحد أهم مسارات التباحث بين الطرفين ولو ضمن قنوات التواصل الخلفية.

 اذ برزت في الاسابيع القليلة الماضية في التصريحات غير الرسمية العراقية فضلا عن وسائل الاعلام مسألة جدولة الانسحاب العسكري الامريكي من العراق في قبالة التصريحات الحكومية الرسمية التي تحدثت عن جولات ولقاءات مستمرة حول انهاء وجود قوات التحالف الدولي من العراق والتحول نحو علاقات وشراكات ثنائية امنية مباشرة، والفرق كبير بين الاثنيّن، اذ تغيب هذه الاشارات والاستخدامات في البيانات الامريكية فيما يخص الانسحاب، في حين هنالك لغة مشابهة للغة العراقية الرسمية فيما يخص الشراكة الثنائية.

تستثمر الحكومة العراقية هذا التباين ولا تصرح او تصحح او ترد على الفهم الخاطئ او الموظف اعلامياً او الضاغط عليها من قبل الجهات الرافضة للوجود العسكري الامريكي، مع ادراكها عدم رغبة واشنطن بمغادرة العراق، وتحاول تصوير الوضع على وجود عملية تفاوضية واقعية مع الجانب الامريكي تفضي الى انسحاب قوات الاخيرة من العراق، وهذا غير صحيح، والصواب وجود جولات حوار ثنائية مع اطراف التحالف الدولي لإنهاء وجوده في العراق، والامران مختلفان بطبيعة الحال، فإنهاء وجود هذا التحالف لا يعني اخراج القوات الامريكية من البلد اطلاقا.

وحتى مسألة التفاوض مع أطراف التحالف الدولي فيها ابعاد ووجهات نظر مختلفة، اذ صرحت السفيرة الامريكية مؤخرا عن استمرار وجود التحالف الدولي للقضاء على تنظيم داعش، ما يعني سيكون العراق ساحة لتنفيذ اهداف التحالف بغض النظر عن انسحابه من عدمه.

اذ نشأ التحالف الدولي لمواجهة تنظيم داعش في العراق وسوريا عام 2014 برعاية امريكية في عهد إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، وكان الاقتراح بداية لن يكون تدخل امريكي جوي فقط لهزيمة التنظيم، لكن اوباما اراد ان يكون التدخل اوسع واقوى رسوخاً عبر انشاء تحالف دولي واسع تقوده واشنطن لهزيمة داعش بدلاً عن تدخل عسكري أميركي احادي الجانب، على اثر ذلك فاتحت واشنطن في حينها دول عدة اوربية وشرق اوسطية لدخولها ضمن التحالف، وكانت الاستجابة سريعة بالإيجاب وانضمت اليه 86 دولة، ولكي يفضي اوباما شرعية اكثر على التحالف تم تأسيسه وفق اسس الشرعية الدولية بالاستناد إلى قرارات أصدرها مجلس الأمن، اهمها القرار 2178 في 24/9/2014 الذي نص: على الدول الأعضاء منع وقمع تجنيد أو تنظيم أو نقل أو تجهيز الارهابيين، وكذلك منع وقمع تمويل أو سفر هؤلاء الأفراد، الذين جندهم تنظيم داعش وجبهة النصرة في العراق وسوريا وكافة الجماعات والمؤسسات والكيانات المرتبطة بتنظيم القاعدة أو الذين انضموا إلى صفوفها.

 والقرار 2249 في 20/11/2015 الذي وفر إطارا قانونيا وسياسيا للتحرك الدولي الرامي لاجتثاث تنظيم داعش من ملاذاته في العراق عبر اتخاذ كل الإجراءات اللازمة لمحاربة التنظيم واعتبره تهديدا عالميا وغير مسبوق للسلم والأمن، فضلا عن قرارات عديدة صدرت في عام 2015 لمنع تمويل الجماعات الإرهابية من خلال تهريب وبيع الآثار والنفط وغير ذلك، وصدرت هذه القرارات الدولية تحت طائلة الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ما يعني أنها واجبة التنفيذ وملزمة للدول الاعضاء وفق آلية التعاون الدولي فيما بينها، وساهمت هذه الدول عسكرياً بشكل مباشر او على شكل دعم استخباري ولوجستي وفني واستشاري ومالي وانساني طبي وعلاجي، وارتبط هذا الدعم ايضاً بتوفير التدريب للقوات التي قاتلت داعش كالجيش العراقي وقوات سوريا الديموقراطية.

رسمياً كان على العراق ان يقدم طلباً حكومياً في وقتها ليكون جزءاً من التحالف الدولي، واعطت الحكومة موافقات رسمية لاستدعاء القوات الامريكية المقاتلة ضمن هذا التحالف للاستفادة من خدماته الذي تقوده واشنطن، كان ضمن هذا التحالف فيما يخص تقديم الدعم للعراق: حلف الناتو الذي قدم خدمات استشارية وتدريبية وعسكرية للقوات العراقية.

ولا تزال قوات التحالف الدولي تتمتع بالشرعية الدولية في اداء اعمالها ولم يصدر اي قرار اممي لإنهاء مهماته، واطلقت الولايات المتحدة على مهماتها ضمن التحالف تسمية (العزم الصلب). ولا زالت القوات الأمريكية منتشرة في العراق وسوريا، لضمان ألا يعود التنظيم او تحل قوى اخرى كروسيا وايران محلها في هذه المهمة.

وبالتالي أصبح الوجود الامريكي مغطى بمسارين: الاول: غطاء قانوني اممي يعكس مصالح الدول الاعضاء، والاخر: غطاء غير قانوني يعكس اهدافها ومصالحها الخاصة.

وفي ضوء ذلك، اي مباحثات او جولات حوار بخصوص إنهاء مهام التحالف الدولي والتحول إلى علاقة ثنائية، أو شراكة أمنية مباشرة لا يعني ان انسحاباً امريكيا سيحصل كما هو الحديث السائد الآن، بل حسب اللغة السائدة انهاء وجود قوات التحالف الدولي، اي انهاء تقديم الخدمات اللوجستية والاستشارية والتدريبية ومهمات اخرى، مع تأكيد عراقي على انسحاب القوات الامريكية من القواعد المتواجدة فيها.

 لكن في الحقيقة، لا تعني هذه المفاوضات والحوارات ان شيئا جوهرياً سيحصل اذا التزمت اطراف التحالف بتنفيذ ما تم الاتفاق عليه، اذ ستتحول العلاقة من جماعية متعددة الاطراف الى ثنائية مباشرة وينطبق الامر ذاته على الوجود العسكري الأميركي في العراق، فبدلاً من استمراره في إطار التحالف الدولي بالاستناد الى قرارات مجلس الأمن في هذا الشأن، سيستمر على أساس علاقة امنية استراتيجية ثنائية مع العراق، خاصة مع وجود اتفاقية الاطار الاستراتيجي بين الطرفين وهي نافذة وملزمة وتم التأكيد عليها حاليا في اطار جولات الحوار العراقي الامريكي.

حسب المعطيات فإن الحكومة العراقية لا تريد اخراج القوات الأميركية دون رغبة الاخيرة، لان ذلك سيضر بمصالح البلد نظراً للأوراق التي تمتلكها واشنطن للضغط على العراق اقتصادياً وامنياً وسياسياً، لكن بسبب ضغط فصائل المقاومة الضاغطة باتجاه إخراج القوات الأميركية من العراق، تعمل الحكومة الان بشكل اضطراري للتفاوض مع الجانب الاميركي ضمن اطار التحالف الدولي والتحرك نحو جدولة الانسحاب العسكري الاجنبي- الامريكي، من البلد والتحول نحو شراكة ثنائية امنية مبنية وفقا لاتفاقية الاطار الاستراتيجي. ولا يوجد لغاية الان قرار عراقي رسمي صادر مباشر من الحكومة العراقية يناقش بشكل واضح هذا الانسحاب وجدولته دون موافقة واشنطن.

ولهذا من المستبعد تحقق هذا الانسحاب في المدى المنظور، لكن الدافع الوحيد المؤثر في تسريع وتيرة الانسحاب هو ضغط فصائل المقاومة على الحكومة وخلاف ذلك ستستمر هذه الفصائل بتنفيذ عمليات ضد المصالح الامريكية في العراق وسوريا ومناطق اخرى.

في حين ترى واشنطن ان بقاء قواتها يُعد ضرورة استراتيجية رئيسة بالنسبة للولايات المتحدة؛ لذا فإن أي قرار او تحرك تتّخذه بغداد لإخراج القوات الأمريكية من البلاد من شأنه أن يُقوّض الأهداف الاستراتيجية للإدارة الأمريكية في العراق والمنطقة، وعليه ستحرص هذه الادارة على البقاء والضغط باتجاه مساومة الحكومة العراقية بقضايا اقتصادية ومالية وسياسية.

بالمقابل تتفهم الادارة الامريكية حجم الضغوطات التي يتعرض لها السوداني من ايران والاطار التنسيقي وهي ترى دعواته العلنية وخطواته بالتصريح لانسحاب القوات الامريكية كتكتيك لاسترضاءها، والاتجاه السائد امريكياً هو النظر إلى هذه الخطوات باعتبارها رد فعل ناجم عن موقف مُصمَّم بشكل أساسي لأغراض داخلية وسياسية أكثر من كونه تغيير حقيقي في نهج الحكومة، من شأنه أن يعمل على تبني مقاربة واقعية لإنهاء التواجد العسكري الأمريكي في العراق.

في حين تأمل حكومة السوداني وايران بالحد الادنى، تقليص الحضور العسكري الامريكي على المدى القصير في العراق، لكن لا تزال الادارة الامريكية لديها رغبة ملحة بالحفاظ على وجودها العسكري في العراق، وهي تدرك ان مُعظم القوى السياسية والاجتماعية السُنية والكردية ترى أن من مصلحتها بقاء وجود القوات الامريكية في البلاد لموازنة قوة الفصائل الشيعية والحد من النفوذ الايراني في البلاد، وهذا هو السبب الرئيس اضافة الى اسباب تتعلق بالوضع الاقليمي العربي وامن اسرائيل، الذي سيدفع الادارة الامريكية إلى ايجاد طرق ضاغطة للبقاء في العراق على الرغم من الضغط الكبير الذي ادت اليه ديناميات الحرب الاسرائيلية الامريكية على غزة، من حيث مُمارسة المزيد من الضغوطات على العلاقات العراقية-الأمريكية.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية / 2001 – 2024 Ⓒ

http://mcsr.net

اضف تعليق