تشمل العدالة الانتقالية على سلسلةً من الاجراءات او السياسات مع المؤسسات الناتجة عنها، والتي يمكن ان تُسن في مرحلة تحول سياسي بين فترة عنف وقمع الى فترة استقرار سياسي. وتستمد العدالة الانتقالية مضمونها من رغبة المجتمع في اعادة بناء ثقة اجتماعية، مع اصلاح نظام قانوني مهترئ، وبناء نظام حكم ديمقراطي...

مع انتهاء الحرب الباردة بين القطبيين الرئيسيين في العالم، وما اعقبها من هبوب رياح التغيير والتي عصفت بالكثير من الديكتاتوريات في العالم، ظهرت العديد من المفاهيم والرؤى الداعية الى تحقيق العدالة الاجتماعية ومراعاة حقوق الانسان، واشاعة اجواء الحرية والديمقراطية في ارجاء العالم المختلفة. ومن بين ابرز تلك المفاهيم والرؤى ظهر مفهوم العدالة الانتقالية ورغم التباين في تحديد هذا المفهوم من حيث المصطلح والتطبيق الا ان مفهوم العدالة الانتقالية يشير بشكل عام الى مجموعة من الاساليب، التي يُمكن للدول استخدامها لمعالجة انتهاكات حقوق الانسان السابقة. 

وتشمل العدالة الانتقالية على سلسلةً من الاجراءات او السياسات مع المؤسسات الناتجة عنها، والتي يمكن ان تُسن في مرحلة تحول سياسي بين فترة عنف وقمع الى فترة استقرار سياسي. وتستمد العدالة الانتقالية مضمونها من رغبة المجتمع في اعادة بناء ثقة اجتماعية، مع اصلاح نظام قانوني مهترئ، وبناء نظام حكم ديمقراطي. 

وقد حَظي مصطلح العدالة الانتقالية حديثا على الكثير من الاهتمام من قبل الباحثين وصناع القرار السياسي، كما حَظي بالاهتمام في المجالات السياسية والقانونية. ولهذا يمكن وصف الفترات الانتقالية من حياة الشعوب والامم بانها من اصعب المراحل التاريخية في سُلم تطورها اثناء عملية التغيير والتحول من النظام الشمولي الدكتاتوري الى النظام الديمقراطي التعددي، خصوصا اذا شملت تلك التغيرات نظام الحكم والنهج السياسي والايديولوجي لهذا النظام، ومؤسسات الدولة المختلفة، وكذلك نمط وسلوكيات العلاقات الاجتماعية والثقافية للمجتمع. 

ولكن مع وجود كل هذه التحولات هناك من يعتقد ان افضل طريق يمكن سلوكه وتجنب تلك المطبات يكمن في مفهوم العدالة الانتقالية، على اعتبار ان هدف ومنهجية مؤسسات العدالة الانتقالية هو السعي الى بلوغ العدالة الشاملة اثناء فترات الانتقال السياسي من الشمولية الى الديمقراطة، ومعالجة ارث انتهاكات حقوق الانسان في الماضي، ومساعدة الشعوب على الانتقال بشكل مباشر وسلمي وغير عنيف بهدف الوصول الي مستقبل اكثر عدالة وديمقراطية. 

فالمعروف ان كل وضع غير ديمقراطي واستبدادي ينتج عنه صور مختلفة من انتهاكات حقوق الانسان، ولانه لا يمكن التقدم للامام وتحقيق اي انتقال ديمقراطي، ما لم تتم معالجة ملفات الماضي في ما يتعلق بتلك الانتهاكات، وهذا الامر يجب ان لا يقوم على الثار والانتقام، وانما الوصول الى حلول عادلة ترتكز علي اعتقاد مفاده بان السياسة القضائية المسؤولة عن تلك الملفات يجب ان تتوخي هدفا مزدوجا وهو، المحاسبة علي جرائم الماضي، ومنع الجرائم الجديدة من الوقوع مجددا.

اما بشان التجربة العراقية فان استلهام التجارب العالمية كان ينبغي ان تاخذ الخصوصية العراقية بنظر الاعتبار، فاذا كانت مفاهيم العدالة الانتقالية تعتبر ضرورة مُلحة للبلدان والشعوب، التي شهدت تغييرا وتحولا جذريا لانظمتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فان الامر بالنسبة للعراق كبلد يعتبر اكثر الحاحا، وهو بامس الحاجة الى الاخذ بتلك المفاهيم، وذلك لجملة من الاسباب والمبررات الموضوعية، يقف في مقدمتها طبيعة ومنهجية النظام السياسي والايديولوجي الذي حكم البلاد طوال تلك العقود المنصرمة، والذي انفرد بافعال وتوجهات واساليب لم يشهد لها مثيل عبر التاريخ المدون، ليس في نهجه القمعي والتسلطي بل في كيفية ادارة شؤون الدولة ومؤسساتها والنهج الايديولوجي، الذي اصطبغ به تلك المؤسسات والمجتمع عموما، ولهذا فان عملية التحول الواسع النطاق الذي طرا على الواقع العراقي والمتمثل بالانتقال من الدكتاتورية الى الديمقراطية المُفترضة، والتي لم تتم فصولها بعد، هو بمثابة التحول الى النقيض الايديولوجي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي، ويبدو ان هذا الامر كان اكثر صعوبة وتعقيد من عملية التغيير نفسها. 

وعلى الرغم من اننا لسنا بصدد تقييم تجرية العدالة الانتقالية التي اعقبت عملية التغيير، والمؤسسات التي استُحدثت لهذا الغرض، ونظرا لاهمية الموضوع وحساسيته، كان يُفترض على الجميع المشاركة في النقاش الذي كان يدور حول مواجهة وتصفية تراكمات العهد البائد، واختيار افضل السبل لتحقيق المصالحة الوطنية، ومنع عودة الدكتاتورية من جديد، بافساح المجال لمؤسسات العدالة الانتقالية باخذ دورها في عملية البناء والتغيير. 

على اعتبار ان فكرة وتطبيق العدالة الانتقالية واحدة من الحلول الناجعة والناجحة للمجتمع العراقي، وتُعد خطوة مهمة في تحقيق الطمانينة والسلم الاجتماعي. واليوم ونحن نعيش اجواء هذا التغيير، وبعد مرور اكثر من عقدين على هذا المشهد الدراماتيكي نستطيع القول، ان العدالة الانتقالية جاءت لمعالجة الاوضاع السابقة، وهي لا تقوم على الثار والانتقام، لكنها تهدف الى انصاف الضحايا وذويهم، وعدم افلات الجناة من العقاب مهما كان بسيطا، في ظل معالجة حكيمة بين مُرتكب الانتهاكات وضحاياه، من اجل اعادة بناء وطن يسع الجميع، قوامه احترام حقوق الانسان، والديمقراطية، وسيادة حكم القانون.

اضف تعليق