هذه الفكرة كانت بحاجة فعلا إلى النقد، وإلى ضرورة إخضاعها للتشريح والتفكيك، وفحصها وإعمال النظر فيها، لأنها من جهة تعد فكرة جديدة وحديثه بهذا المبنى والمسمى، ولأنها من جهة ثانية تعبر عن فضاء وأفق واسع، وتتسم بالشمولية والجمع والتركيب بين العديد من العناصر والأبعاد المتعددة...

في تسعينيات القرن العشرين توسع الاهتمام بفكرة المشروع الحضاري في المجال العربي، وكانت هذه المحطة الأبرز في مسارات تطور هذه الفكرة، وذلك من جهة التداول والتراكم الكمي، ومن جهة اتساع مساحة المتابعة والاهتمام المكاني والجغرافي، الذي امتد من مشرق العالم العربي إلى مغربه.

وظهر الاهتمام بهذه الفكرة، وتجلى في العديد من الأعمال والنشاطات الفكرية والثقافية ذات الطابع الجمعي، والذي هو أكثر دلالة في التعبير من الطابع الفردي، وتحددت هذه الأعمال والنشاطات في ندوات ومؤتمرات متلاحقة، وفي كتابات ومؤلفات متتالية.

ومن هذه الأعمال والنشاطات، بحسب ترتيبها الزمني:

- في سنة 1992م عقدت الجمعية الفلسفية المصرية ندوتها الرابعة في القاهرة، بعنوان: (نحو مشروع حضاري جديد).

- وفي نوفمبر 1993م، عقدت في مدينة فاس المغربية ندوة بعنوان: (المشروع الحضاري العربي).

- وفي مارس 1994م، خصصت مجلة الوحدة الصادرة عن المجلس القومي للثقافة العربية في المغرب، ملف العدد حول (المشروع الحضاري العربي)، واحتوى على عدد من المقالات لكتاب وباحثين من دول عربية عدة.

- وفي نوفمبر 1994م، عقدت صحيفة الأهرام المصرية ندوة فكرية كبيرة في القاهرة، بعنوان: (نحو مشروع حضاري عربي).

هذه بعض الأعمال والنشاطات التي تناولت فكرة المشروع الحضاري في المجال العربي المعاصر، وإلى جانبها كان هناك الكثير من المقالات والكتابات المنشورة في صحف ومجلات ودوريات عربية مختلفة.

ومع الولوج إلى القرن الحادي والعشرين، تواصل وتجدد الاهتمام بهذه الفكرة في المجال العربي، ولعل الحدث الأهم في هذا الشأن مع مطلع هذا القرن، هو الندوة الفكرية الكبيرة التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، وعقدها في مدينة فاس المغربية في أبريل 2001م، بعنوان: (المشروع الحضاري النهضوي العربي)، وحضرها جمع كبير من المفكرين والأكاديميين العرب.

وبعد صدور أعمال هذه الندوة، الأوراق والتعقيبات والمناقشات، في كتاب مجلد كبير بعنوان: (نحو مشروع حضاري نهضوي عربي) صدر سنة 2001م، اعتبره الكاتب المصري السيد ياسين في مقالة منشورة في كتابه (إعادة اختراع السياسة.. من الحداثة إلى العولمة) الصادر سنة 2006م، اعتبره أنه ذروة عالية من ذرى الإبداع العربي.

هذه الندوة حاولت بلورة عناصر ومكونات تكون معبرة عن محتوى ومضمون المشروع الحضاري العربي، وتحددت هذه العناصر والمكونات في ستة، اتفق وتوافق عليها المشاركون، وهي بحسب الترتيب المعتمد: (الوحدة العربية، الاستقلال الوطني والقومي، الديمقراطية، التنمية المستقلة، العدالة الاجتماعية، التجدد الحضاري).

وهذه كانت أول محاولة يتم فيها بلورة فكرة المشروع الحضاري في المجال العربي، بهذا النوع من المضامين والمحتويات الستة، وبهذا تكون هذه الفكرة بحسب أصحاب هذه الرؤية، قد تحددت معالمها وملامحها ومكوناتها، وتجاوزت مرحلة القلق والاضطراب والضبابية، وأصبح من الممكن القول والادعاء بوجود مشروع حضاري عربي، يمكن الاستناد عليه في النهضة الحضارية للأمة.

ومن جهة التصنيف الفكري والسياسي، فإن هذه الفكرة بهذه العناصر والمكونات الستة، أصبحت تحسب وتصنف على الفكر العربي بتياريه القومي واليساري، الذي يرى أنه أنجز لنفسه هذه المهمة، وأنه خطى خطوة متقدمة في هذا الشأن، وبات يجادل الآخرين بوصفه صاحب مشروع حضاري عربي له عناصره ومكوناته الواضحة والمحددة.

وفي الأوساط الفكرية والسياسية الأخرى الإسلامية والليبرالية، هناك من يتفق مع هذه الرؤية في جانب، ويختلف معها ويجادل في جانب آخر، فالإسلاميون مثلا يفضلون تقديم عنصر التجدد الحضاري على باقي العناصر الأخرى، والليبراليون مثلا يعطون الأولوية للديمقراطية ولا يقدمون عليها أي عنصر آخر، وهكذا.

وبهذا يكون الفكر القومي العربي من ناحية النظر، قد اظهر تفوقا في هذا الجانب، على باقي التيارات الفكرية الأخرى الإسلامية والليبرالية، حين بلور لنفسه رؤية واضحة لفكرة المشروع الحضاري في المجال العربي.

نقد فكرة المشروع الحضاري

لم تسلم فكرة المشروع الحضاري من النقد، حالها كحال غيرها من الأفكار الأخرى التي مرت على المجال العربي المعاصر، وما كان من الممكن أساسا أن تمر هذه الفكرة بهذا الوزن الثقيل، وبهذا الحجم الكبير من دون النقد، بغض النظر عن طبيعة هذا النقد نوعيته وجديته، صائبا كان أم لا؟ وفي محله ومكانه أم لا؟

ومن وجه آخر، فإن هذه الفكرة كانت بحاجة فعلا إلى النقد، وإلى ضرورة إخضاعها للتشريح والتفكيك، وفحصها وإعمال النظر فيها، لأنها من جهة تعد فكرة جديدة وحديثه بهذا المبنى والمسمى، ولأنها من جهة ثانية تعبر عن فضاء وأفق واسع، وتتسم بالشمولية والجمع والتركيب بين العديد من العناصر والأبعاد المتعددة، ولأنها من جهة ثالثة بحاجة إلى ضبط وتحديد في حقلها الدلالي، وإمساك ببنيتها المفاهيمية، لإخراجها من دائرة الغموض والإبهام إلى دائرة الجلاء والوضوح.

وعند النظر في المواقف النقدية في المجال العربي، يمكن الإشارة إلى ثلاثة أنماط من النقد، تنتمي إلى ثلاث حقب زمنية، هي الحقب التي شهدت انبعاث وتطور هذه الفكرة في المجال العربي، وهذه الأنماط الثلاثة هي:

النمط الأول: يرجع هذا النمط من النقد إلى حقبة ثمانينيات القرن العشرين، وأشار إليه الدكتور محمد عابد الجابري في مداخلة له بندوة: (المجتمع العربي.. إلى أين؟) عقدت في العاصمة المغربية الرباط، نوفمبر 1984م، ونشرت فيما بعد في مجلة الوحدة الصادرة هناك، عدد مارس 1985م، بعنوان: (المشروع الحضاري العربي.. بين فلسفة التاريخ وعلم المستقبلات).

 في هذه المداخلة اعتبر الدكتور الجابري أن عبارة (المشروع الحضاري العربي) من العبارات التي تكاد تكون فارغة من المعنى، ليس بسبب إغراقها في العمومية فقط، بل لكونها مستقلة بالحلم أيضا.

وعند البحث عن معنى لهذه العبارة، وجد الدكتور الجابري أنه مضطر إلى الانتقال بالتفكير فيها من مستوى التحليل العلمي إلى مستوى التأمل الفلسفي، ومن إطار المجتمع العربي إلى أين؟ إلى إطار التاريخ العربي إلى أين؟ وبهذا الانتقال من السوسيولوجيا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، إلى فلسفة التاريخ، فإنه يستطيع حسب قوله أن يتبين معنى فلسفيا لعبارة المشروع الحضاري العربي.

وبعد هذا الانتقال، توصل الدكتور الجابري إلى أن المشروع الحضاري العربي، هو مشروع الماضي ومشروع المستقبل، وينزع إلى تحقيق ثلاثة أهداف هي: الوحدة والتمدين والعقلنة.

النمط الثاني: يرجع هذا النمط من النقد إلى حقبة تسعينيات القرن العشرين، وأشار إليه الباحث المغربي الدكتور محمد سبيلا في مقاله له بعنوان: (المشروع الحضاري العربي.. ومخاض الحداثة العسير)، نشرت في مجلة الوحدة، مارس 1994م، ضمن ملف العدد حول (المشروع الحضاري العربي).

في هذه المقالة، اعتبر الدكتور سبيلا أن المشروع الحضاري العربي هو مجرد مشروع يعكس طموحات العرب النهضوية، ويتسم بأنه تعبير عن طموح أكثر من كونه وصفاً لواقع قائم، واستشراف للمستقبل أكثر مما هو تقرير عن الحاضر، وبما أن هذا المصطلح ليس وصفاً لواقع، فإنه يتخذ صفة المصطلح الأيديولوجي، ويعبر عن أمل جماعي لا أقل ولا أكثر، لكنه في نفس الوقت، يصبح مدار صراع أيديولوجي، ويلعب دور الشعار لا غير.

النمط الثالث: يرجع هذا النمط من النقد إلى بدايات القرن الحادي والعشرين، وأشار إليه الباحث اللبناني علي حرب، في مقاله له بعنوان: (الرجعيون الجدد وفشل المشروع الحضاري)، منشورة في كتابه: (أزمنة الحداثة الفائقة) الصادر سنة 2005م.

وجاءت هذه المقالة على أثر النقاش حول المشروع الحضاري العربي، الذي كان أحد محاور مؤتمر: (مستقبل الثقافة العربية)، عقد بالقاهرة مطلع يوليو 2003م.

وأمام هذه الفكرة، اعتبر علي حرب أن المشروع الحضاري العربي، هو قضية كبرى تتعلق بكل ما يعني المجتمعات العربية من التقدم والتحرر، أو النمو والتحديث، أو الإصلاح والتغيير، وهذه المهمة تتعدى النخب الثقافية وتتجاوزها، وإنها لم تعد شأن نخبة أو فئة، وإنما هي شأن المجتمع، وقد ولى الزمن الذي تدعي فيه فئة، القدرة على إصلاح مجتمع، أو تنمية بلد، أو إنقاذ أمة، بعدما وصل المشروع الحضاري العربي إلى آفاقه المسدودة.

هذه ثلاثة أنماط من النقد لفكرة المشروع الحضاري العربي، تعكس بعض صور واتجاهات الفهم لهذه الفكرة في المجال العربي المعاصر.

* الأستاذ زكي الميلاد، باحث في الفكر الإسلامي والإسلاميات المعاصرة-رئيس تحرير مجلة الكلمة

http://www.almilad.org

اضف تعليق