الخطاب السياسي الفلسطيني ينزلق في كثير من الأحايين إلى إحدى المثلبتين: الأولى النقد والنقد الذاتي بلا حدود أو قيود، في تجاهل للوجه الإيجابي من المشهد السياسي وللإنجازات التي سطرها الشعب بصبره ومقاومته، والثانية تضخيم الذات أو (الانجازات) السياسية أو العسكرية لدرجة عدم رؤية وفهم الواقع وعدم تقدير العواقب. ما بين هاتين المثلبتين يناضل مثقفون من مشارب متعددة للترويج لخطاب نقدي بناء يقاوم الرداءة في الفكر والواقع.

انزلاق الخطاب السياسي لهاتين المثلبتين يعود لأسباب ثقافية خاصة بطبيعة الشعب الفلسطيني، وسياسية خاصة بواقع الاحتلال والشتات بما أفرز من (إيجابيات) غير مقصودة كغياب سلطة فلسطينية للكل الفلسطيني تمارس دور الرقابة والضبط والمحاسبة لكل الأفعال والأقوال، ثم في مرحلة لاحقة بسبب الانقسام الذي غَيَّب المرجعية الواحدة حتى في نطاق الضفة وغزة وأتاح للبعض ليتصرف في المؤسسة التي يديرها دون خوف من محاسبة أو عقاب.

قبل نقد هذا الخطاب لا بد من الإشارة إلى أن لهذا الخطاب مَن يدافع عنه ويرى فيه بعض الإيجابيات، من منطلق أن له مبررا وأساسا ويتغذى من حالة سياسية مأزومة: حالة الاحتلال والشتات، حالة السلطة الوطنية، حالة الأحزاب خارج السلطة، حالة مؤسسات المجتمع المدني وحالة الانقسام. فالنقد الذاتي يساعد على إصلاح المسيرة النضالية، كما أن تضخيم الذات والإنجازات في بعض المنعطفات الحرجة قد يساعد على رفع الروح المعنوية داخليا وإخافة العدو خارجيا، كما أن كثيرا من أوجه النقد التي يمارسها سياسيون ومثقفون، سواء كان نقد الخصم السياسي الوطني أو نقد الذات حتى داخل الحزب أو المؤسسة، يمكن إدراجها كممارسة حق من الحقوق الديمقراطية أو كحالة وعي ونضج سياسي يتمتع به الفلسطينيون، كما يلعب دورا في التثقيف السياسي وفي كبح جماح بعض الممارسات السلطوية والحزبية وفي ردع الفاسدين، حتى وإن دفع ممارسو هذا النقد ثمنا، وبعضهم كانت حياته هي الثمن.

من المعروف أن المبالغة في نقد الذات وجلدها تؤدي لحالة مرضية تسمى عند علماء النفس والاجتماع بـ المازوشية أو الفتشية وقد يتحول النقد لسلوك هادم للذات، المقابل لذلك هو المبالغة في تضخيم الذات وقد يتطور الأمر هنا أيضا إلى شكل من البارانويا وتَوهّم عظمة. ولكن نحن هنا لا نتحدث عن سلوكيات فردية لمثقفين وكُتَاب موجودة في كل المجتمعات، بل عن ظاهرة تَسم الخطاب السياسي العام وخصوصا الحزبي، حيث إن انتشار هذا السلوك ومنطق التفكير، بحدية المتناقضين، في الخطاب السياسي يؤدي إلى إنتاج (فتشية جماعية) أو (بارانويا جماعية).

لا شك أن المفاعيل الإيجابية للنقد والنقد الذاتي تكون أكثر حضورا لو كانت في جو سياسي وثقافي سليم وفي إطار إستراتيجية إعلامية أو وجود حد أدنى من التوافق على الثوابت والمرجعيات الوطنية وخطوط حمر لا يجوز تجاوزها. النقد والنقد الذاتي ينتميان لثقافة الديمقراطية عندما يكونا داخل المؤسسات والأطر الحزبية أو عبر وسائل إعلامية وطنية مسئولة حريصة على المصلحة الوطنية، وعندما يكونان مشفوعين بخطة عمل تصحيحية أو إرشادية، وينطلقا من منطلق الرغبة في البناء عليه لتصحيح المسار، سواء داخل السلطة أو داخل كل حزب ومؤسسة.

ولكن في ظل الانقسام والإعلام الحزبي المُتسِم بالتحريض، وفي ظل ضعف العمل المؤسساتي وضعف ثقافة الديمقراطية والنقد الذاتي البنَّاء. كل ذلك يجعل كثيرا من هذا النقد نوعا من التنفيس عن الغضب أو الرغبة بالانتقام من الخصم ولو بالكلمة غير الصادقة، أو يدخل في باب (قل كلمتك وامضي) أو (اللهم إني قد بلغت). وبالنسبة للمنتَقَدين فإنهم يتعاملون مع منتقديهم كمناكفين أو محرضين ومشككين بالشرعية، أية كانت هذه الشرعية، مما يعطيهم الحق من وجهة نظرهم بالتنكيل بمنتقديهم.

هيمنة هذا الخطاب إعلاميا يؤدي لإظهار الوجه القبيح فقط للفلسطينيين والتغطية على جوهر القضية وما يتعرض له الفلسطينيون من جرائم على يد الاحتلال، كما يتم طمس كثير من الانجازات الوطنية. المشكلة الأكثر خطورة تكمن في أن أعداء الشعب الفلسطيني وظفوا هذا الخطاب بشقيه وحولوه إلى مادة خصبة لخطاب هجومي مضاد يعتمد على ما يتم تسجيله وجمعه مما تقوله الأطراف الفلسطينية المختلفة والمتخالفة من اتهامات ضد بعضها البعض، ليقولوا للعالم انظروا هؤلاء هم الفلسطينيون.

إن تحذيرنا من الانحرافات والمنزلقات التي قد تؤدي لها المبالغة في النقد والنقد الذاتي يجب أن لا يوقعنا في محذور تضخيم الذات، لأن تضخيم الذات والمبالغة في تقدير القوة الذاتية وفي استعراضها، وخصوصا العسكرية، قد يخفي نهجا للتغطية على الفشل والعجز والفساد. تضخيم الذات مثله كمثل جلد الذات المبالَغ فيه، كلاهما يُغيب القدرة على توظيف عدالة القضية والانجازات الملموسة التي حققها الشعب الفلسطيني بصموده وصبره وبالجهود الصادقة عند كل القوى والأحزاب.

المطلوب خطاب سياسي وسطي عقلاني واقعي يؤسَس على حقيقة أن في الوطن متسع للجميع وكلنا شركاء فيه وأننا مثل بقية الشعوب نخطئ ونصيب، والكل أخطأ في حق هذا الوطن سواء عن قصد أو غير قصد، وفي المقابل فإن الجميع ترك بصماته من خلال انجازات قد تتفاوت من حزب لآخر ومن شخص لآخر. إنتاج هذا الخطاب الوسطي ليس من مسؤولية السياسيين فقط، فهؤلاء غالبا ما يكونوا أسرى مرجعيتهم الأيديولوجية ومصالحهم السلطوية، بل مسؤولية المثقفين والإعلاميين أيضا، فالعالم يقرأ ويسمع ويشاهد هؤلاء أكثر من السياسيين، وخطابهم يصل إلى عقل الجمهور أكثر من خطاب السياسيين.

وتبقى المراهنة على القيادة السياسية الحكيمة لتستمع لوجهة نظر المثقفين والكتاب الذين لا يبتغون من وراء نقدهم لبعض السلوكيات والمواقف السياسية أو للفساد والمفسدين إلا مصلحة الوطن والمواطنين وتقويم نهج النظام السياسي.

في هذا السياق فقد وجد قرار الرئيس أبو مازن رئيس كل الشعب الفلسطيني بإقالة رمز الفساد في الشؤون المدنية في قطاع غزة ارتياحا عند كل الشعب، ولكن الفساد في هذه الوزارة ليس شخصا بل شبكة تمتد لخارج الوزارة، يجب استئصالها ووضع حد لفسادها، والفساد موجود في مؤسسات أخرى ويجب استئصاله. لأنه لا يمكن أن نستكمل مشوار التحرير ونبني الدولة بمؤسسات يتحكم بمفاصلها أشخاص فاسدون.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق