يبدو أن تركيا (أردوغان) دخلت رسمياً مرحلة التشتت الإستراتيجي، إذ لم يعد من السهل لأي متابع أن يعرف على أي أساس باتت تتصرف قيادات حزب العدالة والتنمية الحاكم، ولا أعتقد أن أحداً الآن سيدعي قدرته على فهم إستراتجية ما لتركيا (أردوغان)، فالقيادة الحالية تحولت من السياسة الواقعية المبنية على احترام الآخر والسعي للتعاون والتكامل الاقتصادي مع الدول المحيطة كافة، إلى سياسة متماهية تماماً مع السياسة الأميركية ـ الإسرائيلية.

لقد تجاوز أردوغان في حساباته حول البلدان العربية وخالف شعاراته وسياساته وزاد عليها بعد الصد الأوروبي لطموحاته في الانتساب إلى الغرب وتقديمه التنازلات... فأردوغان دخل في مغامرة لم يحسب عواقبها، بتحالفه مع ''الإخوان المسلمين'' في مصر وفي دول عربية مختلفة... ودعمه لكل محاولاتهم في زعزعة الاستقرار ونسج المؤامرات. ويبدو أن إعراض أوروبا عن تركيا وفشلها في دخول الاتحاد الأوروبي الذي وقف أردوغان ذليلا على أعتابه... قد أحدث رد فعل قوياً لديه، جعله، يبحث عن مشروع بديل يرضي أحلامه وهوسه الأيديولوجي... وكان مشروع جماعة الإخوان المسلمين ليمارس أردوغان من خلاله وصاية على عمق عربي... وقد انتهى ذلك بالفشل…

تعيش تركيا ''أردوغان'' اليوم معضلة حقيقية، إذ لم يعد الحزب الحاكم ولا رجالاته النموذج الذي بدأ عهده، وإنما تحولت تركيا إلى خنجر بيد حلف الناتو وأسياده، وأداة معلنة ضد حركات التحرر الوطني العربية باسم حزبها الذي تمكن من التضليل والمسرحة والاستنساخ العربي لتحالفات طائفية مقيتة تزيد أعباء مكثفة لعرقلة التقدم والبناء والتنمية والحرية والعدالة المنشودة. ولعل استنجاد أردوغان وأصحابه بحماية حلف الناتو لهم من أخطار وهمية ومعادلات غير متكافئة دليل قاطع على تلك التحولات في السياسات التركية والخطر الأكبر منها في مستقبل العلاقات التركية العربية خصوصاً.

محاولات تركيا وإدارتها الحالية لملأ فراع انهزام الاستراتيجيات الأميركية في المنطقة كشف فراغاً استراتيجياً في سياساتها وخططها العثمانية المرفوضة سلفاً. وبها تصل السياسات التركية الحالية إلى طريق معاداة الشعوب المجاورة لها وتأزيم حالات الأمن والسلم في المنطقة والانتقال إلى قاعدة أخرى، تتوازى مع القاعدة الاستراتيجية الصهيونية، للهيمنة الاستعمارية وضرب طموحات الشعوب العربية وأصدقائها في التنمية والعدالة والحرية والتقدم. وقد يكون بسط أراضيها لتسهيلات وخدمات الناتو، من الدرع الصاروخية إلى صواريخ الباتريوت، وغيرها شاهداً مضافاً إلى ما يحصل من متغيرات في المواقف والأدوار التي تقوم بها تركيا حالياً.

ونظرة واحدة على خريطة الجوار التركي جنوباً وشرقاً وشمالاً نجد مشاكل تتوالد وشروخاً تتعمق بعد أن احتكر أردوغان سياسة بلاده الخارجية وانساق وراء أوهام عثمانية غابرة تستمد استراتيجيتها من منطق الباب العالي. فلم ينجح في حل المشاكل مع أرمينيا وقبرص واليونان، والعراق وسورية وإيران رغم الأدوار التي تقمصها. وفي الخارج: فإن أردوغان يتظاهر بأنه مسلمٌ معتدل أمام أوروبا رغبة منه بانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وهو مع مصر ''أخواني'' متشدِّد يرغب باستحضار إرث حسن البنا الذي قامت حركته على مبدأ ''استعادة الخلافة الإسلامية'' بعد زوال آخر ولاية إسلامية عثمانية، وهو مع سورية كذلك يسعى لاستعادة أمجاد السلطنة وأحلام التوسُّع، وهو مع إيران منافق يريد منافعها الاقتصادية ولكنه يغمز باستمرار من القناة المذهبية وهو مع ''إسرائيل'' قومي تركي عقد عام 2010 ستين اتفاقية معها لحماية تركيا وعاد الآن ليقيم معها أوثق العلاقات الاستراتيجية.

أما في الداخل التركي، فالقلق قد تخطى حدوده الطبيعية ومشروع أردوغان هو أشبه بمن يريد أن يتلاعب بالبيض والحجر عبر قذفهما في الجو، وبمعنى آخر فقد حسم أردوغان خياراته في مسار أراد لكل شيء فيه أن يتماهى مع شخصه هو وحده تمهيداً لرفع شعار المرحلة المقبلة الذي يقول: ''أنا تركيا''. فقد قادت سياسة أردوغان الفاشلة إلى سلسلة من الهجمات الإرهابية الدامية في المدن التركية الكبرى مما أسفر عن مصرع مئات الأشخاص على مدى الأشهر القليلة الماضية، وضرب بعرض الحائط بالأنظمة والقوانين من حيث تجاهل دستور البلاد وتحدي المحكمة العليا وإقالة أفراد من الشرطة ونواب أجروا تحقيقات ضد حلفائه الذين وجهت لهم اتهامات بقضايا فساد وتجديد الحرب الأهلية مع الأكراد في جنوب البلاد ووضع قيود على حرية التعبير.‏ وقد ازداد الوضع سوء مع الأكراد الذين يعيشون في تركيا، فهم محرومون من معظم حقوقهم الإنسانية كمواطنين حتى من تقاليدهم وعاداتهم وأعيادهم ويلاحقون باستمرار وكأنهم مواطنون من بلد آخر، أما الأكراد خارج تركيا وعلى حدودها فقد تعرضوا ويتعرضون الآن لهجمات عسكرية برية وجوية بربرية وتمت إبادة العشرات من الأطفال والنساء والرجال نتيجة هذه الأعمال. وفي إقليم أنطاكية واسكندرون تعمد حكومة أردوغان إلى معاملة أهل هذا الإقليم بطريقة عنصرية بعيدة عن الديمقراطية والحياة الحرة الكريمة. أما المعارضة الوطنية التركية التي تقف في وجه مخططات أردوغان فقد تم كم أفواهها وزجها وبالمثقفين والكتاب والإعلاميين في السجون التركية لأنها قالت كلمة حق.

ويبدو توحش أردوغان جلياً بعد فشل مشروعه ''الإخواني'' ومشاريعه الإرهابية حيث أضحى محشوراً في الزاوية يتخبط ذات اليمين وذات الشمال ووصل في سياساته الرعناء إلى حد الإفلاس: لا إسلامه أي أردوغان يرضي جماعة فتح الله غولن الإسلامية المتشدِّدة، ولا يُرضي الأجيال التركية الطالعة المُطالبة بالحريات، وعلى المستوى الحزبي فهو عدو الحزب الجمهوري الرافض للنظام الرئاسي، وهو خصم عنيد لحزب ''الحركة القومية''، وهو عدو شرس في المواجهات الدامية مع حزب الشعوب الديمقراطي الكردي.

وهنا يطرح السؤال المركزي: ما هو مستقبل النظام الأردوغاني بعد سلسلة الهزات والخضات العنيفة التي تعرض لها ولاسيما بعد ما أطلقوا عليه الزلزال السياسي بخروج القطب الثاني والرجل الأقوى في النظام داود أوغلو؟ وهنا أيضاً تكثر التكهنات والتوقعات وتتعدد السيناريوهات المحتملة إلا أن أهم ما يلوح في الأفق يتمثل فيما يلي:

ـ زيادة الغضب السياسي والتوتر الداخلي من قبل الأحزاب العلمانية واليسارية والاشتراكية وأكثر من 40 في المائة من أطياف الشعب التركي المتمسكة بالنظام البرلماني بسبب مضي أردوغان وإصراره على ''الأسلمة الإخوانية'' وعلى الانتقال إلى النظام الرئاسي وهو ما يعده كثيرون انقلاباً خطراً في الحياة السياسية التركية وتحولاً نحو الديكتاتورية وحكم الرجل الواحد واختصار تركيا بشخص أردوغان وهذا سيهيئ المناخ للإطاحة بأردوغان ونظامه الذي انقلب على العلمانية والأتاتوركية الراسخة في تركيا منذ عشرات السنين.

ـ فشل أردوغان المرتقب في حربه الإرهابية المجنونة ضد سورية حيث حمّل هذا الفشل لداود أوغلو وأدى لإقالته وازدياد الفشل كما هو متوقع سيعجل في سقوط أردوغان الذي كان يحلم أن ''تستعيد'' له هذه الحرب أمجاد أجداده من السلاطين واسترداد هيمنة السلطنة ولوعد استخدام إرهاب ''داعش''، ولكن يجد نفسه وقد خسر كل شيء.

ـ زيادة نقمة الغرب عليه باعتباره مفجرّ مشكلة اللاجئين في وجه أوروبا ومحاولته زعزعة استقرار الاتحاد الأوروبي وتفكيكه، ولذلك لن تكون أوروبا حزينة عندما يطاح به إن لم تكن راغبة في ذلك حيث تشعر بأنه وراء نشر الإرهاب فيها ويبتزّها بملف ''اللاجئين'' سياسياً ومالياً وقد رفضت مؤخراً تنفيذ اتفاقية الهجرة ولم ترفع التأشيرة عن دخول الأتراك إلى أراضيها.

ـ ارتفاع منسوب التوتر في العلاقات التركية ـ الأمريكية طوال فترة حكم أردوغان وتبادل المهاترات بينه وبين أوباما أكثر من مرة على خلفية دعم واشنطن للأكراد وعدم الموافقة على ''إقامة منطقة آمنة'' حتى وصل الأمر بتهديد أردوغان بإغلاق قاعدة ''أنجرليك'' في وجه الطائرات الأمريكية، ولذلك ربما يفكر صاحب القرار الأمريكي عاجلاً أم آجلاً في إعادة سيرة الانقلابات العسكرية التركية للتخلص من ''السلطان''.

ـ اشتداد الحنق من جنرالات الجيش التركي على تسلط أردوغان بعد أن همشهم واعتقل بعضهم، وبعد أن أصبح متسلِّطاً أكثر فأكثر مع تقدمه بالعمر، ويسعى للإمساك بكل مفاصل الدولة ووضعها تحت أمرته، وهو يترأس من حينٍ لآخر اجتماعات مجلسِ الوزراء في قصرِه، كما يحرص أن تكون اللجنةُ التنفيذية لحزب ''العدالة والتنمية'' زاخرة بحلفائه، وهذه الغطرسة السلطانية سوف تستفز الجيش يوماً بعد يوم، وانتفاضته ليست بعيدة من أجل استعادة ''إرث أتاتورك''.

لقد فشل أردوغان في تحقيق أحلامه العثمانية البائدة بعد انهيار مشروعه الإخواني في كل من ليبيا وتونس ومصر وسورية والعراق، ولم يجنِ من دعمه للإرهاب في هذه الدول سوى سفك الدماء والكراهية، وها هو اليوم يعيش حالة الفشل والإحباط وهو يراقب الفصل الأخير في انهيار ما يسمى ''الربيع العربي''، ولاشك بأن التقارير الأممية التي تثبت بالوقائع والأدلة تورط حكومته واستخباراته بنقل الأسلحة والذخيرة إلى التنظيمات الإرهابية في سورية والعراق ستضيق الخناق على الحالم بالسلطنة، الذي يعمل ضد مصالح شعبه وشعوب المنطقة.

خلاصة القول: إن لتركيا دوراً جيوسياسياً مهماً في المنطقة، لا يمكن إنكاره أو التقليل من شأنه، ولكن، ولكي يأخذ هذا الدور أبعاده المتوخاة، يجب أن يكون هذا الدور متوازناً وفاعلاً وحائزاً على ثقة الشعب التركي وشعوب بلدان الجوار، فالسير في ركاب السياسة الأمريكية ـ الإسرائيلية لا يحظى برضا غالبية الشعب التركي الذي يرفض السياسة التي تتناغم مع المشروع الأمريكي الغربي الإسرائيلي والتنكر للأصدقاء والجيران، الذين يشتركون مع الشعب التركي بروابط التاريخ والجغرافيا والعقيدة والمصالح التي لا يمكن لأحد تجاهلها أو إنكارها، الأمر الذي يوجب على الحكومة التركية مراجعة سياساتها، والعمل على حل مشاكلها المعقدة، وألا تتهرب من حلها، ولتتعاون مع العرب وكل شعوب المنطقة لمنح الإقليم قوة، بعيداً عن التدخل الغربي الأطلسي، ولها المثل في رفض روسيا والصين للهيمنة الغربية على المنطقة وثرواتها، والذي له دلالاته العميقة في عودة بعض التوازن إلى العلاقات الدولية، وإيذاناً بظهور ملامح عالم متعدد الأقطاب، وعلى الأتراك ألا ينسوا أنهم ليسوا بمنأى عن المخاطر التي تعصف بالمنطقة برمتها.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق